اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
السجدة على تربة كربلاء واتخاذها مسجدا
فإن الغاية المتوخاة منها للشيعة إنما هي تستند إلى أصلين قويمين ، وتتوقف على أمرين قيمين :
أولهما : استحسان اتخاذ المصلي لنفسه تربة طاهرة طيبة يتيقن بطهارتها ، من أي أرض أخذت ، ومن أي صقع من أرجاء العالم كانت ، وهي كلها في ذلك شرع سواء سواسية ، لا
امتياز لإحداهن على الأخرى في جواز السجود عليها ، وإن هو إلا كرعاية المصلي طهارة جسده وملبسه ومصلاه ، يتخذ المسلم لنفسه صعيدا طيبا يسجد عليه في حله وترحاله ، وفي
حضره وسفره ، ولا سيما في السفر، إذ الثقة بطهارة كل أرض يحل بها ، ويتخذها مسجدا لا تتأتى له في كل موضع من المدن والرساتيق والفنادق والخانات وباحات النزل والساحات ،
ومحال المسافرين ، ومحطات وسايل السير والسفر ، ومهابط فئات الركاب ، ومنازل الغرباء ، إني له بذلك وقد يحل بها كل إنسان من الفئة المسلمة وغيرها ، ومن أخلاط الناس الذين لا
يبالون ولا يكترثون لأمر الدين في موضوع الطهارة والنجاسة . فأي وازع من أن يستحيط المسلم في دينه ، ويتخذ معه تربة طاهرة يطمئن بها وبطهارتها يسجد عليها لدى صلاته ،
حذرا من السجدة على الرجاسة والنجاسة والأوساخ التي لا يتقرب بها إلى الله قط ، ولا
تجوز السنة السجود عليها ، ولا يقبله العقل السليم ، بعد ذلك التأكيد التام البالغ في طهارة أعضاء المصلي ولباسه ، والنهي عن الصلاة في مواطن منها : المزبلة ، والمجزرة ، والمقبرة ، وقارعة الطريق ، والحمام ، ومعاطن الإبل ( 1 ) والأمر بتطهير المساجد وتطييبها ( 2 ) .
وكأن هذه النظرة الصائبة القيمة الدينية كانت متخذة لدى رجال الورع من فقهاء السلف في القرون الأولى ، وأخذ بهذه الحيطة المستحسنة جدا كان التابعي الفقيه الكبير الثقة العظيم
المتفق عليه مسروق بن الأجدع ( 3 ) يأخذ في أسفاره لبنة يسجد عليها كما أخرجه شيخ المشايخ الحافظ الثقة إمام السنة ومسندها في وقته أبو بكر بن أبي شيبة في كتابه ( المصنف )
في المجلد الثاني في باب : من كان يحمل في السفينة شيئا يسجد عليه ، فأخرج بإسنادين : أن مسروقا كان إذا سافر حمل معه في السفينة لبنة يسجد عليها .
هذا هو الأصل الأول لدى الشيعة وله سابقة قدم منذ يوم الصحابة الأولين والتابعين لهم بإحسان ، وأما الأصل الثاني : فإن قاعدة الاعتبار المطردة تقتضي التفاضل بين الأراضي ، بعضها على بعض ، وتستدعي اختلاف الآثار والشؤون والنظرات فيها ، وهذا
أمر طبيعي عقلي متسالم عليه ، مطرد بين الأمم طرا ، لدى الحكومات والسلطات والملوك العالمية برمتهم ، إذ بالاضافات والنسب تقبل الأراضي والأماكن والبقاع خاصة ومزية ، بها
تجري عليها مقررات ، وتنتزع منها أحكام لا يجوز التعدي والصفح عنها . ألا ترى أن المستقلات والساحات والقاعات والدور والدوائر الرسمية المضافة إلى الحكومات ، وبالأخص
ما ينسب منها إلى البلاط الملكي ، ويعرف باسم عاهل البلاد وشخصه ، لها شأن خاص ، وحكم ينفرد بها ، يجب للشعب رعايته ، والجري على ما صدر فيها من قانون .
فكذلك الأمر بالنسبة إلى الأراضي والأبنية والديار المضافة المنسوبة إلى الله تعالى فإن لها شؤونا خاصة ، وأحكاما وطقوسا ، ولوازم وروابط لا مناص ولا بد لمن أسلم وجهه لله من
أن يراعيها ، ويراقبها ، ولا مندوحة لمن عاش تحت راية التوحيد والإسلام من القيام بواجبها والتحفظ عليها ، والأخذ بها .
فبهذا الاعتبار المطرد العام المتسالم عليه انتزع للكعبة حكمها الخاص ، وللحرم شأن يخص به ، وللمسجدين الشريفين : جامع مكة والمدينة أحكامهما الخاصة بهما ، وللمساجد العامة
والمعابد والصوامع والبيع التي يذكر فيها اسم الله ، في الحرمة والكرامة ، والتطهير والتنجيس ، ومنع دخول الجنب والحائض والنفساء عليها ، والنهي عن بيعها نهيا باتا نهائيا من دون
تصور أي مسوغ لذلك قط خلاف بقية الأوقاف الأهلية العامة التي لها صور مسوغة لبيعها وتبديلها بالأحسن ، إلى أحكام وحدود أخرى منتزعة من اعتبار الإضافة إلى ملك الملوك ،
رب العالمين . فاتخاذ مكة المكرمة حرما آمنا ، وتوجيه الخلق إليها ، وحجهم إياها من كل فج عميق ، وإيجاب كل تلكم النسك ، وجعل كل تلكم الأحكام حتى بالنسبة إلى نبتها وأبها ، إن هي إلا آثار الإضافة ،
ومقررات تحقق ذلك الاعتبار ، واختيار الله إياها له من بين الأراضي . وكذلك عد المدينة المنورة حرما إلهيا محترما ، وجعل كل تلكم الحرمات الواردة في السنة الشريفة لها وفي
أهلها وتربتها ومن حل بها ومن دفن فيها ، إنما هي لاعتبار ما فيها من الإضافة والنسبة إلى الله تعالى ، وكونها عاصمة عرش نبيه الأعظم صاحب الرسالة الخاتمة ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
وهذا الاعتبار وقانون الإضافة كما لا يخص بالشرع فحسب ، بل هو أمر طبيعي أقر الإسلام الجري عليه ، كذلك لا ينحصر هو بمفاضلة الأراضي ، وإنما هو أصل مطرد في باب
المفاضلة في مواضيعها العامة من الأنبياء والرسل ، والأوصياء ، والأولياء ، والصديقين ، والشهداء ، وأفراد المؤمنين وأصنافهم ، إلى كل ما يتصور له فضل على غيره لدى الإسلام المقدس .
بل هذا الأصل هو محور دائرة الوجود ، وبه قوام كل شئ ، وإليه تنتهي الرغبات في الأمور ، ومنه تتولد الصلات والمحبات ، والعلائق والروابط ، لدة عوامل البغض والعداء والشحناء والضغائن .
وهو أصل كل خلاف وشقاق ونفاق ، كما أنه أساس كل وحدة واتحاد وتسالم ووئام وسلام . وعليه تبنى صروح الكليات ، وتتمهد المعاهد الاجتماعية ، وفي إثره تشكل الدول ، وتختلف
الحكومات ، وتحدث المنافسات والمشاغبات والتنازع والتلاكم والمعارك والحروب الدامية ، وعلى ضوئه تتحزب الشعوب والقبائل ، وتتكثر الأحزاب والجمعيات ، وبالنظر إليه تؤسس
المؤسسات في أمور الدين والدنيا ، وتتمركز المجتمعات الدينية ، والعلمية والاجتماعية ، والشعوبية ، والقومية ، والطائفية ، والحزبية ، والسياسية . إلى كل قبض وبسط ، وحركة
وسكون ، ووحدة وتفكك ، واقتران وافتراق . فالحكومة العالمية العامة القوية القهارة الجبارة الحاكمة على الجامعة
للموضوع تتمة .......