بعد صدمة الحداثة توالت التجارب الفكرية بالإسلاميين في محاولة منهم لتنفيذ وعودهم بالحداثة والتطوير فإذا بهم يغرقون في مستنقع الإستبداد والقمع مما أدي لخلو الساحة للجانب الإقصائي منهم..هذا الجانب الإقصائي لايعدو كونه إلا حدثا عارضا لانفتاح الإسلاميين علي معقل السلفية في منطقة الخليج، لذلك أري أن الجذور التي بُني عليها التيار الإسلامي كمحور لفهم الدين والدولة وتصور الحياة إجمالا يتعارض مع مفاهيم العصر ...كون هذا الحدث يتعارض مع الجذور أصبح مسوغا لقتل هوية الإسلاميين السياسية عبر اتهامهم بتبني فكرة الدولة الدينية وبالتالي أصبحت فكرة عمل الإسلاميين بالسياسة هي فكرة غير مقبولة..
التيار الإسلامي برمته مسئول عن نشوء تلك الإتهامات بيد أن جعل نفسه مدافعا ممانعا علي طول الخط، وفي ذات الوقت عمل علي نشأة جذور شعبية له بأعمال البر والدعوة في محاولة لمواجهة تلك الإتهامات بفكرة العمل لا الكلام..هذا أراه قد صب في صالح خصوم الإسلاميين علي الجانب الفكري بأن جعلوا فكرة الإسلاميين الإصلاحية حبيسة وجامدة، وبالتالي أصبح الإسلاميون يضيقون ذرعا بالفكر التجديدي الإرتقائي بحُجة المؤامرة المسبقة..وهذا الشعور هو شعور طبيعي في ظل الوقوع تحت أثر الضغط الشديد مع بروز أفكار تخالف –حسب وجهة نظرهم- ما قالوا عليه أنها مبادئ عامة ومسلمات لا يمكن الخروج عليها ومناقشتها..كان من نتيجة ذلك الصراع أن نشأ فريقين أحدهما عمل علي الحفاظ المسلمات المنهجية والآخر أخذ في تطوير تلك المسلمات لعصرنتها ..
أخذت الأفكار الإًصلاحية من الجانبين في التنافس المحموم ،منهم من لجأ إلي فكرة الإنتقائية بمعني أن ينشد المُصلح من حضارة غيره ما يوافق دينه وعُرفه وهذه الفكرة كثيرا ما يلتبس علي معتنقوها مفاهيم ومصطلحات العصر ويلجأون في العادة إلي تعريف تلك المفاهيم والمصطلحات بتعريفات ارتجالية غير واسعة الأبعاد مما يتسبب في نشوء تعريفات خاطئة وظالمة لتلك المفاهيم، بل ووصل بمعتنقي تلك الفكرة إلي الإعتقاد بدينية بعض تلك المفاهيم وعزلها عن واقع وأفكار البشر في مجتمعاتهم...ربما يكون صاحب الرأي الآخر مسئولا عن نشوء تلك الأخطاء التعريفية بيد أن جعل نفسه حلقة فساد مجتمعية يواجه بها فكرة الدين والدولة باعتبارهما فكرة واحدة لا تقبل النقاش ،كان من نتيجة ذلك أن نشأ تطرف وتطرف مضاد كلاهما يعمل علي إثبات أحقية رأيه بغض النظر عن واقع تلك المجتمعات التي يتعايش فيها الرأيان ..
هذا التطرف من الجانبين طبيعي جدا في ظل مجتمعات نشأت علي أفكار الحُكم علي الآخر بمنطلق ديني أو بمنطلق فكري..هذا ضال وهذا مبتدع وهذا جاهل وهذا متطرف..وهكذا كنتجية طبيعية لبلادة فكرية وضمور عقلي أصاب العقلين في ظل استبداد سياسي أدي إلي عدم وجود تجربة ناجحة يُقاس عليها تقبل بتقاطع الأفكار....
الفكرة الأخري التي لجأ إليها البعض وهي فكرة "المُشترك الإنساني"..بوضوح تنادي تلك الفكرة بالعمل علي تصور واحد ينتج تقاطع أفكار يعمل لها الجميع من خلفية إنسانية تنادي بالإصلاح والبناء..وهذه الفكرة أميل إليها لاعتبارات عدة..
1- أن فكرة المشترك الإنساني نفسها تقبل بتقاطع أفكار تحاكي الإصلاح والعصر ولا تتنكر للمسلمات الدينية والعُرفية..وبالتالي ستؤدي بالتبعية إلي نقلة نوعية يستطيع بها الإصلاحي فهم مصطلحات العصر بطريقة عصرية واقعية..
2-هذه الفكرة ستعمل حين تطبيقها علي مواجهة التحولات السياسية المقصود منها تحولات فكرية بقصد الإنتصار لفكرة معينة..بيد أن الإصلاحي يهدف إلي نقطة إلتقاء إنساني بغض النظر عن اتجاهات الأغلبية المرئية..فقد تكون اتجاهات تلك الأغلبية غير صائبة وتستخدم الدين والإعلام إما لمسالمة الأغلبية بمكوناتها الفكرية والسياسية أو مسالمة ذوي القوة والمَنَعة..
3-أن الإصلاحي بمشتركه الإنساني مع ذوي الحضارة يعمل من منطلق خلفيته هو لا من خلفية من يقلده ، وهذا سيكون له أثرا أيجابيا في تطوير فهمه لدينه والتكيف مع أعرافه دون انجراره للفساد..
4-أن فكرة الإنتقائية لا تعالج الخلافات الدينية أو الأعراف التي نتجت عن سوء فهم الأديان، وبالتالي كان الإرتكاز علي الدين هنا كمن يرتكز علي حجة غير قطعية إن لم تجري عصرنتها فستظل طريقة فهم المصطلحات العصرية حبسية للخيال دون الواقع..وأظن أن هذا ما يعاني منه قطاعا كبيرا من التيار الإسلامي..
5-وأخيرا أن من مزايا فكرة المشترك الإنساني هو عدم إحراج الدين عند التعرض للفشل أو أي نوع من السقوط المهني أو الأخلاقي..
بعد هذين العرضين أري أن التيار الإسلامي وإن اختلفت مكوناته الفكرية والسياسية إلا أنه سيتعرض حتما لتحديات صعبة تستلزم منه الصمود بالتوازي مع الحركة الفكرية لعناصره..فالصمود دون الحركة سيبني حاجزا من الخوف يتطور مع مرور الوقت إلي هاجس مستمر من الآخر..أما الحركة الفكرية الموازية للصمود ستمكنه من التحكم وامتلاك زمام المبادرة لعرض آرائه وتجاربه دون ضغط...
أيضا فالتيار الإسلامي مطالب في ظل اختياره بين الإنتقائية أو المشترك الإنساني بحماية حقوق الأقليات الدينية من وجه قبول الآخر وليس من وجه التسامح، وهذا العمل يلزمه تشريعات تحد من ظواهر القمع الديني سواءا كان فكريا أو بدنيا، نفس الأمر موجه للأقليات السياسية أو المنهجية..فالتعرض لهذين الحقين يسلب حق المواطنة لتلك الأقليات والتحول إلي دول دينية دكتاتورية....فهل التيار الإسلامي مستعد لاستلام المهمة؟
المصدر/
مدونتي ميدان الحرية والعدالة