يُؤَدِّي ضعفُ الرّسوخ في العلم بالفكرة الإسلاميّة وخصائصها, لمصائب وخيمة في حقل العمل الإسلاميّ. إذ لا يستقيم للمرءِ أبدًا العيش في كنف الدعوة الإسلاميّة على النحو المنشود وهو جاهل بها, غير محيط بجوانبها. كما لا يستقيم له الدعوة لها, والعمل من أجلها, من دون الإلمام بخصائصها وفقه مقاصدها.
إنَّ المتأمّل لواقع العمل الإسلاميّ المعاصر, يرى بوضوح ما يعتري مشهده من صور ومظاهر شتَّى, لضعف الرّسوخ في العلم بالفكرة التي تدور في فلكها الأعمال, سواء على مستوى الأفراد أو الجماعات. ولاشك لهذا الأمر انعكاساته السلبيَّة على واقع العمل, وطبيعة العلاقات, ومحيط المشاعر المتبادلة بين العاملين بحقل الدعوة.
فيما يلي نستعرض سويًّا, واحدًا من أهم مظاهر ضعف الرّسوخ في العلم, بغية تشخيص الداء, وطلبًا للتباحث بشأن الدواء..
أولاً: تفشّي المذهبية وشيوع التعصب:
هو داء جديد قديم, نشأ عن ضعف الرّسوخ في العلم, وفقد الاتصال المباشر بالكتاب والسنة.
1. عوامل انتشارها:
ساعد في نمائه وانتشاره عوامل عدَّة منها:
* الجمود الفكري: فعندما تتسم بيئة العمل بالجمود الفكري, يُكبَح الإبداع, وتصبح بيئة طاردة لأولي الألباب وذوي البصائر. ومن ثم يضعف الاجتهاد والتجديد, وعندها تبرز ظاهرة الآبائية (التي سنفصّلها لاحقًا بإذن الله) باعتقاد الصواب المطلق في اجتهاد الآباء وآرائهم, والاستخفاف بما يخالفهم من آراء, واستعداء من يتوجه لها بالنقد والتفنيد. ومن ثم تنشأ المذهبيَّة ويشيع التعصّب.
* الاستبداد والفساد السياسي: إذ ترعى الأنظمة المستبدَّة كل ما يزكّي نار العداوة والبغضاء بين العاملين في حقل الدعوة الإسلاميَّة, لتبديد طاقاتهم في معارك خلافيَّة, وقضايا جدليَّة عقيمة, وشغلهم عن مواجهة الفساد السياسي, وتوعية الجمهور, وقيادته لإصلاح الأحوال. ولعلّنا نلمس ذلك في العلاقة بين بعض التيارات الإسلاميَّة.
* قلّة العلماء الربانيين: تعاني ساحة العمل الإسلاميّ المعاصر من عوز شديد لهذا الصنف من الهداة المهديين, ومن ثمّ خلت الساحة لعلماء السوء والأدعياء, فذهب بهم بهاء العلم, وطلبوا الدّنيا بالدين, وروَّجوا لبضاعتهم الفاسدة بالقدح في جهود العاملين, والانتقاص من أقدار الربانيين, والتطاول عليهم بوقاحة فجة.
* ضعف مناهج التزكية: في برامج التربية المعتمدة لدى الحركات والهيئات الإسلاميَّة, وعجزها عن معالجة النتوءات النفسيَّة, وتحطيم الآصار الاجتماعيَّة لدى منتسبيها, وقد انعكس ذلك على ممارسات الأفراد, وطريقة تناولهم للقضايا الخلافيَّة بما يخلو من قواعد الخلاف وآدابه.
2. أصناف المتمذهبين:
* علماء السوء: وفيهم قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه “إنَّ أخوف ما أخاف على الأمّة المنافق العليم. قالوا وكيف يكون منافقًا عليمًا, قال: عليم اللسان جاهل القلب والعمل”, وأمثال هؤلاء ممن طلبوا الدنيا بالدين, لهم دور خطير في تضليل العوام, و إشاعة الفتن, ونشر الخلاف, والاستطالة على الخلق.
* العضييّون: وفيهم قوله تعالى “الذين جعلوا القرآن عضين”, وقد فسَّرها بن عباس بقوله “جزَّأُوه فجعلوه أعضاء كأعضاء الجزور فآمنوا ببعض وكفروا ببعض”, ومنهم من يستخفّ بالسنَّة النبويَّة أو يُنكرها بالكليَّة, أو من يقول بأنَّه لا سياسة في الدين, أو من يعمدون في تجريح المخالفين والخصوم, لتحريف الأقوال وتجزئتها, باقتطاع العبارات عن سياقها الأصيل, ليخل المعنى ويتسنى لهم القدح والتقريع.
* الأدعياء “الشبريّيون”: وفيهم القول “العلم ثلاث أشبار: من دخل في الشبر الأول تكبَّر, ومن دخل في الشبر الثاني تواضع, ومن دخل في الشبر الثالث علم أنه لم يعلم شيئًا.. فلا تكن أبا شبر”.. وهؤلاء ما أن يلتزم أحدهم و “يعلمون ظاهرًا من القول”, حتى تراهم يتقعَّرون ويتحدبون, ليشرعوا في تجريح العلماء, وتتبع العورات, وطلب المراء والمجادلة, وإشاعة التعصب والمذهبيَّة.
* الجُهّال: من عوام الناس الذين يَتّبعون كل ناعق, ولا يتورعون عن الخوض في أعراض العلماء, والفحش في المخاصمة والجدال.
3. من آثارها:
أما عن الآثار المدمرة لتفشّي المذهبيَّة وشيوع التعصّب, فعديدة لا تُحصى, وللإمام الغزالي رحمه الله تفصيل عظيم لآفاتها القلبيَّة على مستوى الأفراد في كتاب إحياء علوم الدين باب سبب إقبال الخلق على علم الخلاف لمن أراد العلم والاستزادة وذكر فيها الحسد والكبر والترفع والحقد والغيبة وتزكية النفس والنّفاق والاستكبار عن الحق وكراهته والحرص على المماراة والرياء.
ومن آثار المذهبيَّة على مستوى التنظيمات والجماعات الفرقة والتشرذم والمشاحنات التي تنخر في ساحة العمل الإسلاميّ وما ترتب على ذلك من إهدار الطاقات وضعف البناء وترهّل العلاقات وذهاب ريح القوم والتأخر عن تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات إلا بعض من ثمار هذا الداء الخبيث.