حيرة العرب بين الحداثة والغربنة (2)
د خليل حسن
اختلفت توقعات مفكري الغرب في بداية التسعينيات حول التغيرات الجغرافية والسياسية القادمة في العالم، بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، وانتهاء الحرب الباردة. فتوقع البروفيسور فرانسيس فوكوياما في عام 1992 بأن تاريخ العالم سينتهي، ويتوحد تحت راية العولمة، بانتشار رأسمالية السوق الحرة، والديمقراطية اللبرالية الغربية. وقد خالفه في ذلك البروفيسور صاميول هنتنجتون، أستاذ العلوم السياسية السابق بجامعة هارفارد، بتوقعه بأن تستبدل الغربنة بالفكر الديني، بعد انتهاء صراع أيديولوجيات العلمانية للحرب الباردة. وبعد مرور عقد من الزمن صدر كتاب للبروفيسور الأمريكي جوزيف ستجلتز الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد بعنوان، ثمن عدم المساواة، ليؤكد بخطأ توقعات البروفيسور فوكوياما، وقد بدأ مقدمته بالقول: "بأن هناك لحظات في التاريخ ثارت فيها شعوب العالم لتؤكد بأن هناك خطاء فادح، وهذا ما حدث في عام 1848 وعام 1968، لتبدأ مرحلة مراجعة جديدة، وقد يثبت التاريخ بأن عام 2011 هو من أحد هذه اللحظات. فانتفاضة الشباب الذي بدأت في تونس وامتدت إلى مصر، ومنها لباقي دول الشرق الأوسط، أدت لتغيرات اجتماعية متشابكة ترافقت بانهيار دكتاتوريات مزمنة. وبسرعة اكتشفت شعوب الغرب وباقي دول العالم بأن لهم أسبابهم الخاصة للنزول للشارع. وقد كان المتظاهرون على صواب، فالتباين بين ما يفرض أن يحققاه نظامينا الاقتصادي والسياسي وبين ما حققاه فعلا أصبح كبير، لا يمكن تجاهله. فمع الأسف لم تطرح حكومات العالم حلول لمعضلات العولمة الاقتصادية، كالبطالة، بعد أن تم التضحية بقيم العدالة العالمية بواسطة قلة من الجشعين، ليصبح حتى الشعور بالظلم شعور بالخيانة.
فخلال عقد من الزمن انتهت خرافة انتصار الرأسمالية الفائقة المحررة من الانظمة والقوانين وبتوحد العالم تحت سقف رايتها، وبرزت نظرية هاتنجتون في استبدال العالم للغربنة بالفكر الديني. فلنكمل عزيزي القارئ دراسة أفكار البرفيسور هاتنجتون من خلال تصفح كتابه، صراع الحضارات، فقد تساعد العرب في حيرتهم في الاختيار بين الغربنة والحداثة. فيؤكد هاتنجتون بأن الحداثة لا تعني الغربنة، فيمكن للمجتمعات اللاغربية أن تحتضن الحداثة في بدون أن تتخلى عن ثقافتها، وبدون أن تتبنى القيم الغربية ومؤسساتها وممارساتها، بل ممكن أن تقوى هذه الثقافات بالحداثة، وتقلل من قوة الغرب النسبية، وقد بدأ العالم يصبح أكثر حداثة وأقل غربنة. وهناك صورتان متضادتان اليوم لقوة الغرب، فتبرز في الصورة الأولى هيمنة الغرب على السياسة والاقتصاد والإعلام والقوة العسكرية، بينما تتضح في الصورة الثانية ملامح تراجع حضارة الغرب، وانخفاض قوته السياسية والاقتصادية والعسكرية. فقد بطئ نمو الغرب الاقتصادي، وتوقف نموه السكاني، وزادت نسب البطالة فيه، ويعاني من نسبة عجز هائلة في الميزانية، وتردي في أخلاقيات العمل، وانخفاض نسب التوفير، وزيادة الجريمة والإدمان، كما بدأت تنتقل القوة الاقتصادية بسرعة لآسيا، وستتبعها القوة السياسية والعسكرية، وانتهت رغبة العالم القبول بالهيمنة الغربية، وتبخرت ثقة الغرب بنفسه ورغبته في الهيمنة.
فقد سيطر الغرب على نصف أراضي العالم في عام 1920، لتنخفض هذه النسبة في عام 1993 للربع. وأرتفع الإنتاج الصناعي الغربي في عام 1928 إلى 84.2% من الإنتاج الصناعي العالمي، ولينخفض في عام 1980 إلى 57.8%، وليرجع لما كان عليه في عام 1860. كما انخفض الناتج المحلي الإجمالي الغربي من 64.1 % من الناتج العالمي في عام 1900، إلى 48.9% في عام 1992، وانخفضت قوته العسكرية من 43.7% إلى 21.1% في عام 1991. فباختصار شديد، سيبقى الغرب الحضارة الأقوى حتى العقود الأولى من القرن الواحد والعشرين، وبعدها قد يبقى رائدا في الإبداع العلمي، وفي قدراته البحثية والتطويرية، وفي الاختراعات المدنية والعسكرية، ولكن ستقل سيطرته على موارد القوة الأخرى، والتي بدأت تتشتت بتصاعد دول خارج الحضارة الغربية. فقد وصلت سيطرة الغرب لهذه الموارد لذروتها في العقد الثاني من القرن العشرين، ومن المحتمل أن يسيطر الغرب في عام 2020 على 24% من أراضي العالم و 10% من سكانه و 30% من إنتاجه الاقتصادي الذي كان في ذروته 70%، و 25% من طاقة تصنيعه التي كانت في ذروتها 84%، وأقل من 10% من قوته العسكرية.
فقد حكم الرئيس الأمريكي ودرو ولسون، ورئيس الوزراء البريطاني لويد جورجس، والرئيس الفرنسي جورج كليمنسيو العالم في عام 1919. فحينما كانوا يجتمعون في باريس، كانوا يقررون أي بلد ستبقى على وجه الكرة الأرضية، وأي بلد ستختفي، وأية بلد ستخلق، وما حدود كل منها ومن سيحكمها، بل وكيف سيتقاسمون الشرق الأوسط والأجزاء الأخرى من العالم، وكيف سيتدخلون عسكريا في روسيا، وما هي الامتيازات التي سينتزعونها من الصين. وبعد مائة عام من ذلك التاريخ، لن تستطيع أي مجموعة صغيرة أخرى من القيادات أن تحظي بهذه القوة، فعصر سيطرة الغرب قد انتهى، وفي الوقت نفسه، سيعزز غروب الغرب وشروق الشرق انبعاث الثقافة اللاغربية. فعادة تتبع الثقافة القوة، وعبر التاريخ، ترافق انتشار الحضارة بازدهار الثقافة، كما استخدمت الثقافة لنشر قيم الحضارة وممارساتها ومؤسساتها في المجتمعات الأخرى. والحضارة العالمية تحتاج لقوة عالمية، وقد انتهى الاستعمار الأوربي، وتلاشت الهيمنة الأمريكية، وسيتبعهما تآكل الثقافة الغربية، وستبرز من جديد اللغات والعقائد والمؤسسات المحلية الأصيلة، وسيؤدي نمو حداثة المجتمعات اللاغربية لعولمة ثقافاتها من جديد.
لقد توجهت معظم قيادات الشرق للدراسة في دول الغرب في القرن العشرين، فاستفادوا من علوم الغرب وتدربوا في مختبراته العلمية ومصانعه، وأذهلوا بقوته العلمية والاقتصادية والعسكرية، وتأثروا بثقافاته وقيمه. وبعد أن بدأت تتلاشى هيمنة الغرب، وتطور التعليم والبحوث والصناعات في الدول اللاغربية، قل الاهتمام بتعليم الغرب، وبقت معظم قيادات الشرق المستقبلية في بلدانها، تستقي العلوم والتكنولوجيا من مؤسساتها، ولم تعد مجتمعات الغرب محط للأنظار والأحلام، وبدءوا البحث عن النجاح في مجتمعاتهم، وتعلموا التكيف مع قيمها وثقافتها. وبدت عملية الرجوع للأصل تغير المجتمعات اللاغربية، ليبدأ شبابها دراسة تاريخهم وحضارتهم ومعتقداتهم وقيمهم، لكي يحققوا حداثة مرتبطة بواقعهم وثقافتهم، لتستقر وتزدهر بلدانهم. ويبقى السؤال المحير: هل سيستطيع العرب تحقيق الحداثة بدون الغربنة؟ وهل فعلا لا يتضارب الدين مع الحداثة؟ وما هي نمط الحداثة التي يتمناها العرب لتحقيق أمنهم وتنميتهم الاقتصادية والاجتماعية؟ وهل يمكنهم تجنب ديمقراطية الغرب اللبرالية لكي يحققوا هذه الحداثة، أم سيحتاجون لانتخابات الغرب ومؤسساته المدنية وطريقة حكمه ونظرياته اللبرالية؟ ولنا لقاء.
رحلة في التاريخ الياباني (3)
د خليل حسن
عرضنا في الأجزاء السابقة من المقال كيف عانت اليابان من إرهاصات مماثلة لتاريخنا المعاصر، ولنكمل عزيزي القارئ رحلتنا في التاريخ الياباني فقد يستفيد شعبنا العربي من هذه الرحلة المتشابكة والمعقدة في محيط التاريخ بطوفانه وأمواجه المتلاطمة.
ففي الثالث من شهر يناير عام 1868 ألغي نظام أمراء الشوجن في اليابان، وقام شباب السموراي بتعزيز نظام الحكم الإمبراطوري، كما قووا سيطرتهم على حكومة البلاد. وسمي الإمبراطورالجديد، بالإمبراطور ماتسوهيتو، وكان شابا لم يتجاوز الخامسة عشرة من عمره، وقد عين بعد وفاة والده بطريقة غامضة، بعد أن اتهمت بعض العناصر المناوئة بتسميمه. وبدأت خلايا المقاومة ضد التغير الجديد، لتصبح مدينة ايدو مركز المقاومة ضد الإمبراطور، كما أستقر أنوموتو تاكاكي في مقاطعة هوكايدو ليقيد المقاومة، وحاول إعلان جمهورية جديدة منفصلة، وحصل الاعتراف من الأمريكيين، ولكن انتهت محاولته بالفشل.
وفي عهد الإمبراطور الجديد، الذي سمي بعهد ميجي، وتعني عهد التنوير، برزت اليابان كأمة قوية، فأنهي نظام الإقطاع، وألغيت طبقة العسكر السموراي، وشكلت حكومة مركزية قوية، لتبدأ التطورات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية . وفي عام 1881، أنشاء الحزب الديمقراطي اللبرالي، وتلاه بعد عام، إنشاء حزب الإصلاح الدستوري، لتبدأ المعارضة في اتهام الحكومة بإبقاء السلطة المطلقة في يدها، وباسم الأمبراطوز. وأستمر الشعب الياباني العمل بجد واجتهاد، وسجل انتصارات كبيره في الإنتاج، واشتدت المنافسة مع الغرب. وفي عام 1909 كتب المؤلف سورو كارا يقول: "أنظروا لليابان.....تحاول جاهدة أن تشق طريقها لتكون قوة عالمية.......فهي كضفدعة تحاول أن تنمو لتكون بحجم البقرة.....وطبعا ستنفجر.....هذا الصراع يؤذيني ويؤذيك.....فليس هناك وقت للاسترخاء." والسؤال هل فعلا ستنفجر؟
وفي عام 1912، خلف الإمبراطور يوشيهوتو والده، بعد موته من أختلاطات مرض السكري. ولم يكن الإمبراطور الجديد بصحة جيدة، فقد أصيب بالتهاب السحايا في صغره، وكان دائم المرض، وساءت حالته، فاستلم أبنه هيروهيتو الحكم في عام 1921، ليتوج إمبراطورا بعد وفاة والده في عام 1926. وقد سمي عهد الإمبراطور الجديد بعهد السلم المجيد، ولكنة كان في الحقيقة حقبة حروب متتالية، فقد وافقت اليابان أن تكون حليفة بريطانيا في الحرب العالمية الأولى، ولكن لم يكن لها دور يذكر في الحرب، فاستغلت اليابان فرصة انشغال الحلفاء بالحرب، لتغزو الأجزاء المحتلة من قبل ألمانيا من الصين، بالإضافة للجزر المحتلة من قبل الألمان في المحيط الهادي.
وقد كان انشغال الحلفاء بالحرب فرصة لنمو الاقتصاد الياباني، وبعد انتهاء الحرب تدهور الاقتصاد الياباني، وزادت النقمة ضد فساد ما سمى بالديمقراطية الغربية، كما دعي العسكر بضرورة التوسع في الدول المجاورة لتوفير الموارد الطبيعية اللازمة. ففي عام 1931 فجر الجيش الياباني حافلة قطار واتهموا الصينيين ليقووا قبضتهم على منطقة منشوريا في الصين، وسيطر العسكر على البلاد وبدون رقيب، مبررين تسلطهم لحماية اليابان من المستشارين الشياطين الذين يحومون حول الإمبراطور، ولإنقاذ البلاد من السيطرة الغربية الفاسدة.
وقد بدأت تبرز أفكار فلسفية لتبرير التوسع لحل مشكلة زيادة السكان، وخاصة بعد أن منع الغرب اليابانيين من الهجرة أو المتاجرة في السوق الدولية. وقد أعتقد بعض اليابانيين بضرورة الحرب لتخليص العالم من السيطرة الغربية وبالأخص الأميركيين، وخاصة بعد أن تأثر بعض المسئولين من أراء قديمة لراهب بوذي عاش في القرون المتوسطة، اسمه نشيرين، واعتقدوا بضرورة الحرب العظيمة التي ستنهي جميع الحروب في المستقبل، بالإضافة للحاجة الضرورية لليابان للموارد الطبيعية المتوفرة في الدول المجاورة، لتستطيع الاستعداد لهذه الحرب الكبيرة ضد الولايات المتحدة. بالرغم من أن الكثير من اليابانيون كانوا يعتقدون بضرورة استخدام الطرق السلمية لقيادة الدول الأسيوية نحو مجابهة السيطرة الغربية في المنطقة.
وقد برزت اليابان وبنجاح في عام 1936 بعد الأزمة الاقتصادية العالمية الخانقة، ولكن مع الأسف تبعتها عدة أزمات أخرى، بعد أن كان دخل معظم أفراد الشعب محدود جدا، مع أن البعض القليل كانوا يستمتعون بثراء فاحش. ومع ازدياد عدد السكان خلقت مشاكل أضافية معقدة، كما أدي التقدم الصناعي لتقوية سيطرة الحكومة على المصانع والشركات، فعملت الحكومة على فرض سيطرتها والمحاولة للتخلص من المنافسة الغربية، وفي نفس الوقت قوى العسكر سيطرتهم على الحكومة. وفي عام 1936، وقعت اليابان اتفاقية مع ألمانيا وايطاليا لتبادل المعلومات حول تحركات السوفيت.
وفي عام 1937، دخلت اليابان حرب ناجحة ضد الصين، بعد حادثة جسر ماركوبولو، التي بدأت بإطلاق النار بين الجيش الياباني والصيني. وفي عام 1940، وقعت اليابان معاهدة مع ألمانيا وايطاليا للدفاع عن بعضهم البعض في حال أي اعتداء أمريكي، بالإضافة لتأكيدهم بدعم اليابان لقيادة منطقة شرق أسيا. وقد شجع ذلك اليابان لغزو الجزء المحتل من فرنسا للهند الصينية، مما أدى لفرض الولايات المتحدة الحضر على تصدير النفط والحديد وبعض المواد الضرورية الأخرى لليابان. وفي عام 1941، وبعد الهجوم الألماني على الاتحاد السوفيتي، توغلت اليابان في الهند الصينية. فقامت الولايات المتحدة بتجميد جميع ممتلكات اليابان في أمريكا، ومنعت أية بضاعة أمريكية من دخول اليابان. وقرر الرئيس روزفلت وبصفة غير رسمية بقصف المصانع اليابانية لتدمير إلية الصناعة الحربية.
وتحت ضغوط نقص الطاقة في البلاد وعدم توفر الموارد الطبيعية، قررت اليابان الانسحاب من الهند الصينية، ولكن أصرت الولايات المتحدة على ضرورة الانسحاب من الصين أيضا. فلم يجد اليابانيون إمامهم إلا خيار الحرب لمنع التوسع الأمريكي في المنطقة، وتوقعت اليابان بأن تحقق النصر، كما انتصرت من قبل على السوفيت. وفي السابع من ديسمبر 1941 بدأت اليابان الحرب البلسيفكية بضرب الجيش البريطاني في كتو بورا بمالي، وقد أعقبتها بعد تسعين دقيقة بضرب الأسطول الأمريكي ببيرل هابر، والتي أدت لجرح وقتل مئات الأمريكيين وتحطيم جزء كبير من أسطولهم وطائراتهم الحربية. واستمرت اليابان بالغزو وبالتتالي للفلبين، وتايلاند، وجواهم، وهنكونغ، وبرنو، وسنغافورة، وسو مطرا، وتيمور، وبالي، وباتا فيا، وروجن، وجاوا.
وفي السابع من شهر مايو عام 1942، هزمت اليابان ولأول مرة في معركة بحر الكورال، واستمرت الهزائم المتتالية بدءا من معركة الميدوي، فقررت اليابان وقف مخططاتها لغزو كلدونيا الجديدة، فيجي، سامو، استراليا، ونيوزيلندا. كما فقدت اليابان سيطرتها على ساببن في المريانس. وفي الخامس عشر من أكتوبر عام 1944، انهزمت اليابان في معركة ليت في الفلبين، مع خسارة كبيرة في أسطولها الحربي، بالرغم من استخدامها للطائرات الانتحارية مع الطيارين الكاماكيز "رياح الإله".
وفي اليوم العاشر من شهر مارس عام 1945، بداء الأمريكيون الهجوم على المدن اليابانية وعلى رأسها مدينة طوكيو، مما نتج عن ذلك قتل مئات الآلاف من المدنيين العزل، وفقد الملايين لسكنهم، بعد أن تحولت المدن اليابانية إلى أراض محروقة، كما غزى الأمريكيون جزيرة اوكيناوا اليابانية. وفي يوم الخامس من أغسطس عام 1945، ألقت الولايات المتحدة القنبلة الذرية على مدينة هروشيما، وتلتها بقنبلة أخرى على مدينة نكزاكي يوم التاسع من نفس الشهر، مما أدى باليابان للاستسلام وبدون شروط.
يلاحظ القارئ العزيز بأن اليابان حاولت منع التسلط الغربي على منطقة شرق أسيا، كما حاولت توحيد المنطقة تحت قيادتها. وتصورت بأن غزو جيرانها والسيطرة على مواردهم الطبيعية ستؤدي لانتصارها في معركتها مع الغرب. ولكن كما قال رون فون عن سياسات بسمارك في توحيد ألمانيا وانتهائها بدمار الحرب، بأن لا أحد يأكل من شجرة اللاخلاقيات بدون حصانة. فهل سنتعلم من دروس التاريخ؟
ولنا لقاء.
اليابان والدين
د خليل حسن
ينفي 85% من الشعب الياباني اعتقاده بالأديان، ولكن هناك تعبير ياباني يعبر عن حقيقة الدين في اليابان، وهي عبارة "شنبوتسو شوجو"، تعبير يدمج ديانة الشنتو بالديانة البوذية. ويرجع ذلك التعبير للقرن السابع عشر، بعد ان انتقلت اليابان لعصر الايدو، بتجنبها الصراعات الدموية الدينية والطائفية، وتوجهها لتوحيد البلاد بثقافة تعليمية متقدمة، وقد فصلت البوذية عن الشنتو رسميا بقانون في عام 1886. ويؤكد اليوم، علنا، 15% من اليابانيين بأنهم يعتقدون في بديانة الشنتو أو البوذية. ويؤكد الدستور الياباني على حرية اعتناق ألأديان، وهناك قلة من المسيحيين واليهود والمسلمين والهندوس، ولكن تبين الإحصائيات اليابانية بأن 90% من الشعب الياباني مرتبط "نفسيا" بديانة الشنتو أو البوذية بالرغم من نفيهم بالايمان بالاديان.
وتعتبر ديانة الشنتو من أقدم الديانات في اليابان، بينما دخلت البوذية من الصين، ومن خلال كوريا، إلى اليابان في القرن السادس الميلادي، وقد علق البروفيسور هاورو ساكوراي، أستاذ العلوم الدينية بجامعة كوجاكان اليابانية، عن ديانة الشنتو قائلا، "الشنتو هو أحساس عاطفي لا تفكير مادي، يسمو بالإنسان ويدعم أخلاقياته ويهذب سلوكه. فهو نوع من الأيمان، والإيمان مرتبط بالشعور، والشعور مرتبط بالإحساس، ولو دخل التفكير الذهني في الوسط لتلف هذا الإحساس الايماني الجميل." وباختصار يفصل الشعب الياباني الواقع المادي الحياتي ومنطقه التفكير الذهني، عن الدين والإحساس بالإيمان والسمو من خلاله. ففي ديانة الشنتو اليابانية يمكن أن تسمو بهذا الإحساس لمرتبة الإله ومن خلال خدمة الوطن. ومن المعروف في تاريخ اليابان إمبراطور عهد الميجي الذي لعب دورا في تحول اليابان الى بلد عصرية متطورة صناعيا، فأعتبر بعد مماته من أحد الإله تقديرا لجهوده، وبني له معبدا من أشهر وأجمل معابد اليابان، ويزوره سنويا الملايين من اليابانيين للتبرك والاحترام.
ومع أن ديانة الشنتو لا تحدد رسول لرسالتها وليس لها كتاب مقدس، لكنها مستمرة، عبر مئات السنين، الديانة الموحدة للشعب الياباني، ويرجع تاريخها المكتوب لعام إلفين وستمائة وسبعة وستين قبل الميلاد، كما كان قاطنو هذه الجزر يمارسوها قبل هذه الفترة بشكل بدائي. وقد أخذ الشعب الياباني من الحضارة الصينية والديانة البوذية الكثير وطور بها معتقداته، كما دمج الديانتين في الممارسة الدينية وعقائدها. فالشعب الياباني مرتبط بالشنتو في كل ما له علاقة بالحياة والنمو والتطور، ومرتبط بالبوذية في كل ما له علاقة بالموت وما بعد الحياة.
ويعتمد الشعب الياباني على كتابين أساسيين حينما يناقش تاريخ اليابان القديم وديانة الشنتو، وهما كتاب الكوجيكي والنهون شوكي. وقد عرضنا في الحلقة السابقة بعض بنود كتاب الكوجيكي، ولنحاول عزيزي القارئ تفحص كتاب النهون شوكي ونتدارسه لنتفهم الكثير عن تاريخ وديانة شعب اليابان. لقد جمع أجزاء هذا الكتاب بتشجيع من البلاط الإمبراطوري الياباني، وأعتمد على الوثائق المحفوظة في هذا البلاط. ويشرح الكتاب تاريخ اليابان وكيف بداءت الحياة فيها، ويوصف ولادة الجزر والآلهة والعائلة الإمبراطورية والشعب الياباني. وقد أكد المعلق على هذا الكتاب السيد كونن شيكي بأن كتاب النهون شوكي قد جمعه الأمير تونيري، والكاتب يوسومارو فوتو نو اسون، وقدم للإمبراطورة جيميو في عام سبعمائة وعشرين.
ويدرس هذا الكتاب تاريخ اليابان وديانة الشنتو منذ القدم وحتى عام ستمائة وسبعة وتسعين. ويعرض الكثير من المفاهيم من خلال أساطير يكررها الشعب الياباني ويستفيد من الحكمة من وراء حوادثها. ويغطي الكتاب بالأخص تاريخ فترة الاسوكا (552-645) وهي الفترة التي تعرضت اليابان للتأثر بالحضارة الصينية والديانة البوذية. وقد كانت هذه الفترة، فترة تطور الثقافة الأدبية والدينية، كما تطور الفن والإبداع. والملفت للنظر بأن هذا الكاتب يعرض الحوادث التاريخية بصيغ مختلفة حسب المراجع المستقاة منها، ويسمح للقارئ أن يقرر الصياغة القريبة من الواقع في ذهنه وبدون وصاية. وقد يكون ذلك أسلوب مهم لدي الشعب الياباني في التعامل مع التاريخ والدين، فلا توجد فكرة مفروضة على الشخص، بل تصورات يتعلمها ويشعر ويؤمن بها حسب شخصه وبدون قسر أو عنف، بل بتناغم جميل. فلذلك استطاعت ديانة الشنتو أن تدخل في ضمير الشعب الياباني وفي أخلاقيات سلوكه منذ نشأة اليابان. وحتى موضوع الموت والآخرة تتعامل معها ديانة الشنتو بسلاسة، فتخلد الروح بعد الموت، وتحوم حول البشر، وترتفع للسماء لتدور حول الغابات والأشجار والأنهار. وإذا عمل الشخص خيرا لمجتمعه، قد ترتفع روحه بعد الوفاة لدرجة الآلهة، ليصبح إلها تبنى له المعابد لتحوم روحه فيها. ومن التقاليد اليابانية أن يتواجد في البيت معبد صغير بحجم صندوق متوسط الحجم وبه مرآة معدنية لتعكس روح الميت، كما تزور الآلهة لهذه المعابد الصغيرة. ولا تناقش ديانة الشنتو مصير الخطاءين في حياتهم كثيرا، فلا توجد فيها نار للآخرة، كما لم يكتب إلا القليل المبهم عما سيحدث للمخطئ بعد الممات.
فتركز ديانة الشنتو على التحدث عن نتيجة العمل الطيب في الدنيا، فمن يقوم بعمل طيب سيموت موتة هنيئة، وستحوم روحة بين جمال الطبيعة، وقد تنتقل لمخلوق حسب طيب العمل في الدنيا، كما تشجع الناس على عمل الخير بدون الخوض العميق في ما سيحدث حين يخطاءون.
وقد بوب هذا الكتاب في ستة عشر فصلا، ويتحدث الفصلان الأول والثاني عن بداية ولادة الآلهة، بينما تركز باقي الفصول على تاريخ أباطرة اليابان. ويبدءا الكتاب بالحديث عن اول إمبراطور ياباني وهو الإمبراطور جيمو فينو، ويستمر في الحديث حتى آخر الأباطرة وهي الإمبراطورة جيتو تينو، التي حكمت في عام أربعمائة وتسعة وتسعين ميلادي. ويصف الكتاب في الفصل الأول كتلة كونية هيولية، تشبه البيضة، وبحدود مبهمة، وتحتوي على مجموعة من النطف، فينسحب الجزء الشفاف والنقي بتأني ليتحول إلى السموات، بينما يتحول الجزء الثقيل والكثيف إلى كتلة الأرض، ولتبدأ الآلهة التشكل فيما بينهما، وليصف الكتاب بالتفصيل كيفية ولادة الآلهة الواحد تلو الآخر. ومن أهم هذه الآلهة هما الازناجي والازنامي، وقد أمرت الإلهة بزواجهما، لتبدءا ولادة جزر اليابان وأباطرتها وشعبها. وقد ولدت الإلهة ازنامي ابنتها إلهة الشمس، التي هي الإلهة التي استمرت ترعي اليابان على مدى العصور، بينما اختفى والديها بعد ولادتها. وهناك معبد جميل، بمدينة ايسيه وفي وسط الغابة، لإلهة الشمس، والتي لها تقدير كبير في اليابان، كما يختار الراهب المسئول عن هذا المعبد عادة من نساء العائلة الإمبراطورية.
ويبدأ الكتاب في الفصل الثالث الحديث عن أول أباطرة اليابان وهو الإمبراطور جيمو تنو (الإله المحارب)، وهو من أحفاد إلهة الشمس "أمترا سو". فقد كان الابن الرابع للإله هيكو ناجيسا، ووالدته "تامايوري" إلهة البحر، وكان ذكيا منذ ولادته. وقد توج إمبراطورا في الخامسة عشر من عمره وتزوج من "اهيرا تسو هيم". وحينما بلغ الخامسة والعشرون من عمره خطب يقول بان الآلهة قد وهبت الأسلاف ارض اليابان الخصبة للزراعة الرز، وبأن الإلهة قد أنزلت الأسلاف على ارض اليابان قبل 1,792,470 عام. كما سمح لكل مدينة لان يكون بها لورد، وبكل قرية رئيسا، وهما يقرران الحدود، ويدافعون عنها، ويتحملون مسئولية التعامل مع الأعداء. ويؤكد الكتاب على "وجود أرض خصبة في الجزء الشرقي من البلاد محاطة بالجبال، وبان هذه الأرض مناسبة لتنفيذ الأمر الالاهي، لكي يملئ مجد الكون ولا شك بأنها مركز الكون، وقد سافر نجي هايا هي إلى هناك ليحولها للعاصمة، وقد وافق الأمراء على ذلك،" وفي عام الواحد والخمسين بالتاريخ الياباني، أي عام 667 قبل الميلاد، ليؤكد الكتاب ببدء العهد الإمبراطوري في اليابان في نفس عام 667 قبل الميلاد. كما يصور الكاتب المعارك الذي خاضها الأمبراطور، وكيف قتل أخوه في أحدى هذه المعارك، وقد توفى الإمبراطور وعمره مائة وسبعة وعشرين عاما في قصر كاشيها بارا في اليوم الثالث من الشهر الأول عام السادسة والستون، بعد ما عين الأمير "كامي نوناجاها ميمي" خلفا له، ويوافق ذلك التاريخ عام 585 قبل الميلاد، ودفن في خريف السنة اللاحقة في اليوم الثاني عشر من الشهر التاسع في رابية ميساساجي في الجنوب الشرقي من جبل اونيبي. وتلاحظ عزيزي القارئ بأن هناك أخطاء بارزة في حساب التواريخ في الكثير من بنود الكتاب. ولنتذكر بأن الكتابة اليابانية لم تتطور إلا في القرن الخامس، وأخذت الكثير من الكتابة الصينية.
ويستمر الكتاب في عرض تاريخ اليابان وأباطرتها، وينتهي الكتاب بالفصل الثلاثين بعرض تاريخ الإمبراطورة جيتو تينو، التي قد كانت محافظة السلوك ومتحررة الفكر، وتزوجت من الإمبراطور امي نو نانهارا، ورزقت بالأمير كوساكابي، وحكمت البلاد، كما اكتشفت خيانة الأمير اهوتسو فتم اعتقاله وحكم عليه بالموت، وقد رغبت زوجة ألأمير أن ترافق زوجها في موته، وقد "وقع جميع من حضر على هذه الرغبة، وبعدها بكى الجميع." ويتحدث الكتاب بالتواريخ الدقيقة عن تفاصيل هذه ألأمبراطورة وحياتها، ويعطي فكرة جميلة عن واقع القصور الإمبراطورية. فمثلا في اليوم الأول من الشهر الثاني عشر صدر قرارا إمبراطوري بأن يقنع الرهبان سنويا عشرة من الأشخاص لاعتناق الديانة البوذية، وفي اليوم الثامن من الشهر الخامس أرسل وفد لمختلف المعابد للصلاة لنزول المطر، في اليوم الثاني من الشهر السادس عفت الإمبراطورة عن بعض المجرمين، وفي اليوم السادس صدر أمر إمبراطوري بقراءة السوترا البوذية في معابد المحافظات، وفي اليوم التاسع عشر وزعت العطايا لآلهة الأرض والسموات، وفي اليوم السادس والعشرين بداء الوزراء ببناء مجسم لبوذا للدعاء لشفاء الإمبراطورة، وفي اليوم الأول من الشهر الثامن تنازلت الإمبراطورة عن العرش للأمير الإمبراطوري.
تلاحظ عزيزي القارئ بأنه في عام 667 قبل الميلاد كانت هناك إمبراطورية متطورة في اليابان، وقد شرح كتاب النهون شوكي تفاصيل تلك الفترة. وحينما قابلت بعض الرهبان اليابانيين تحدثوا عن جميع قصص الآلهة وكأنها أساطير، ولكن كان الشعب الياباني يعتقد في هذه الأساطير وحتى نهاية الحرب العالمية الثانية. فبعد هذه الحرب تعرض الشعب الياباني لصدمة عنيفة وشكك في تاريخه وتقاليده ودينه، ولكن مع الوقت درس تاريخه ودينه دراسة متفحصة. ومع أن الكثير من اليابانيين يؤكدون بأنهم غير متدينين، ولكن تلاحظ بأن الجميع يحترم تاريخه وعقائد دينه ويزور المعابد للدعاء، والجميل بأن الشعب الياباني ربط قيم الدين بأخلاقيات السلوك وتقديس الوقت والشعور بواجب العمل، كما تخلق ديانة الشنتو التناغم بين الإنسان والطبيعة ومع أخيه الإنسان. وأتذكر حينما وصلت اليابان علق أحد السفراء العرب في وصف اليابان بقوله: "ستجد اسلاما بلا مسلمين." ولنا لقاء.