لذة من نوع آخر
بدر شبيب الشبيب
الذائقة من حواس الإنسان الظاهرية، يقول المختصون بأنها حاسة كيميائية ترتبط بوجود مستقبلات خاصة توجد عند الإنسان في التجويف الفموي البلعومي، وهذه المستقبلات تتنبه بالجزيئات أو الشوارد الذائبة في محلول والذي يأتي لتماسها. وبها يميز الإنسان الطعم المالح والحلو والحامض والمر.هذه الحاسة لها أهميتها الكبيرة التي نشعر بها جميعا، ويدركها أكثر من غيره من فقدها لسبب من الأسباب. إذ كما يقولون: الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراه إلا المرضى.في المقابل هناك أيضا حواس باطنية يشعر بواسطتها المرء بما غاب عن حواسه الظاهرية، غير أن هذه الحواس قد تصاب أيضا كما تصاب الظاهرية باضطراب أو نقص أو عجز تام. ومن تلك الحواس الذائقة الباطنية.
يقول الإمام الحسين ع : «يا من أذاق أحباءه حلاوة المؤانسة فقاموا بين يديه متملقين ».
ويقول الإمام السجاد ع في مناجاة المطيعين: اللهم احملنا في سفن نجاتك، ومتعنا بلذيذ مناجاتك، وأوردنا حياض حبك، وأذقنا حلاوة ودك وقربك.
فهناك لذة يجدها المؤمن عند مناجاته ربه، وحلاوة للود والقرب يتذوقها من لم تُصَب ذائقته الباطنية بخلل أو عجز. فإذا لم نجد ذلك من أنفسنا، فلنبحث عن مكامن الخلل، ولنحاول تشخيص المرض قبل أن يستفحل - والعياذ بالله - فيستعصي على العلاج.
وقد ذكرت الروايات الشريفة أن السبب الرئيس وراء ذلك هو حب الدنيا الذي هو رأس كل خطيئة، إذ لا يجتمع حب الله وحب الدنيا في قلب واحد. فعندما يعشعش حب الدنيا في القلب يغادر حب الله المكان تاركا عاشق الدنيا مشتغلا بعشقه مشغولا عن ذكر الله محروما من لذة العبادة.
ورد عن عبد اللَّه بن القاسم عن الإمام الصادق عليه السّلام قال: وسمعت أبا عبد اللَّه عليه السّلام يقول « إذا تخلى المؤمن من الدنيا سما ووجد حلاوة حب اللَّه وكان عند أهل الدنيا كأنه قد خولط وإنما خالط القوم حلاوة حب اللَّه فلم يشتغلوا بغيره» قال وسمعته يقول «إن القلب إذا صفا ضاقت به الأرض حتى يسمو».
ففي هذه الرواية نجد أن الطريق إلى السمو ووجدان حلاوة حب الله تعالى مشروط بتخلية المؤمن قلبه من حب الدنيا، كي يغدو القلب صافيا من كل حجاب فلا تسعه الأرض فيصعد للسماوات العلى والملكوت الأعلى وينشغل باللذات الكبرى عن كل ما عداها، حتى ليبدو للناس العاديين المهمومين بالدنيا أن اختلالا ما أصاب عقله أو «خولط» بحسب تعبير الرواية.
وفي رواية أخرى ينبهنا الإمام علي ع من خلال سؤال استنكاري لسبب الخلل الذي يصيب ذائقة الباطن.
يقول ع : « كيف يجد لذة العبادة من لا يصوم عن الهوى!؟ » فالإنسان لكي يحصل على اللذة الكبرى لا بد أن يتخلى عن اللذات الصغرى.
وأعظم اللذة لذة ترك اللذة كما يقولون.
أما المسيح ع ، فقد قرب تلك الصورة المعنوية بصورة تخاطب أفهامنا المشتغلة بالمادة ولوازمها، المنصرفة عن المعاني والمعالي، فقال ع : بحق أقول لكم: إنه كما ينظر المريض إلى طيب الطعام فلا يلتذه مع ما يجده من شدة الوجع، كذلك صاحب الدنيا لا يلتذ بالعبادة ولا يجد حلاوتها مع ما يجد من حب المال.
وقرّبها بصورة أخرى، فقال ع : بحق أقول لكم: من لا ينقي من زرعه الحشيش يكثر فيه حتى يغمره فيفسده، وكذلك من لا يخرج من قلبه حب الدنيا يغمره حتى لا يجد لحب الآخرة طعما.
وجاء في أخبار داود ع عن الله تعالى: ما لأوليائي والهم بالدنيا؟!
إن الهم يذهب حلاوة مناجاتي من قلوبهم، يا داود!
إن محبتي من أوليائي أن يكونوا روحانيين لا يغتمون.
علينا أن نتأكد من سلامة ذائقتنا الباطنة حتى تكون مستقبِلاتها مهيأة للإحساس بحلاوة حب الله.
أخيرا ندعو بالدعاء الوارد عن رسول الله ع : « اللهم ارزقني حبّك وحبّ من يحبّك، وحبّ ما يقربني إلى حبّك، واجعل حبّك أحبّ إليّ من الماء البارد ».