شبهات وردود
زيارة القبور والتبرك بها
الشبهة: قال الوهابية في تحريم التبرك بالقبور : "وأمّا ما يفعله الجُهّال عند الضرائح،مِن التمسّح بها، والتقرُّب إليها بالذبائح والنذور، ودعاء أهلها مع الله، فهو حرامٌ،ممنوع شرعاً، لا يجوز فعله أصـلا.
وأمّاالتوجّه إلى حجرة النبيّ (صلى الله عليه وسلم[وآله]) عند الدعاء، فالأَوْلى منـعُه... وأمّا الطواف بها والتمسّح بها وتقبيلها، فهو ممنوع مطلقاً" . الــــــــرد:
قال الشيخ محمد جواد البلاغي في رده على الوهابية :
إعلم أنّ من ضروريّات الدين، والمتّفق عليه بين جميع طبقات المسلمين، بل من أعظم أركان أُصول الدين: اختصاص العبادة بالله ربّ العالَمين.
فلايسـتحقّها غيره، ولا يجوز إيقاعها لغيره، ومَن عَبَدَ غيرَه فهو كافرٌ مشرك، سواءً عَبَـدَ الأصنامَ، أو عَبَـدَ أشرفَ الملائكةِ، أو أفضلَ الأنامِ. وهذا لا يرتاب فيه أحدٌ ممّن عرف دينَ الإسـلام. وكيف يرتاب؟! وهو يقرأ في كلّ يوم عشر مرّات: {إيّـاكَ نَـعْـبُـدُ وإيّـاكَ نَـسْـتَـعِـيـنُ}[سورة الفاتحة /الآية :5].
ويقرأ:{قُلْ يا أَيُّها الكافِرونَ * لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدونَ * ولا أَنْتُمْ عابِدُونَما أَعْبُدُ * ولا أنا عابِدٌ ما عَبَدْتُمْ * ولا أَنْتُمْ عابِـدُونَ ما أَعْـبُـدُ* لَـكُمْ دِينُـكُمْ وَلِيَ دِينِ} [سورة الكافرون/ الآية : 1 ـ 6].
ويقرأفي سورة يوسف: {إنِ الحُكْمُ إلاّ للهِ أَمَرَ ألاّ تَـعْـبُـدُوا إلاّ إيّـاهُ} [سورةيوسف/الآية : 40]... إلى غير ذلك من الآيات القرآنية، والأحاديث المتواتـرة.
لكنّ العبادة ـ كما هو المفسَّر في لسان المفسِّرين، وأهل العربيّة، وعلماء الإسلام ـ: غاية الخضوع; كالسجود، والركوع، ووَضع الخـدِّ على التراب والرماد تواضعاً، وأشباه ذلك كما يفعله عُـبّـاد الأصنام لأصنامهم [1].
[زيارةالقبور]
وأمّا زيارة القبور والتمسّح بها وتقبيلها والتبرّك بها، فليس من ذلك في شيء كما هو واضحٌ،بل ليس فيها شيء من الخضوع فضلا عن كونها غاية الخضوع.
مع أنّ مطلق الخضوع ـ كما عرفت ـ ليس بعبادة، وإلاّ لكان جميع الناس مشركين، حتّى الوهّابيّين!فإنّهم يخضعون للرؤساء والأُمراء والكبراء بعضَ الخضوع، ويخضع الأبناء للآباء، والخدم للمخدومين، والعبيد للموالي، وكلُّ طبقة من طبقاتالناس لِلّتي فوقها، فيخضعون إليهم بعض الخضوع، ويتواضعون لهم بعض التواضع. هذا،وقد قال الله عزّ من قائل في تعليم الحكمة: {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّمِنَ الرَّحْمَةِ} [الإسراء/24] .
أَتَرى اللهَ حين أمر بالخضوع للوالِدَين أمَـرَ بعبادتهما؟!، ويقول سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ...} إلى آخرها. [الحجرات/2]
أَلَيـس هذا خضوعـاً وتواضعـاً؟! أَتَرى اللهَ سـبحانه أَمَـرَ بعبادة نبـيِّـه؟! أَوَليس التواضع من الأخلاق الجميلة الزكيّة، وهو متضمّن لشيء من الخضوع لا محالة؟!
أَوَترى الله نهى أن يُصنع بأنبيائه وأوليائه نظير ما أمر أن يصنع بسائر المسلمين من التواضع والخضوع؟!
وقد كان الصحابة يتواضعون للنبيّ (صلى الله عليه وآله وسلم) ويخضعون له، وذلك من المسلَّمات بين أهل السِـيَر والأخبار.
بل روى البخاري في صحيحه: "خرج رسول الله (صلى الله عليه[وآله] وسلم) بالهاجرة إلى البطحاء، فتوضّـأ، ثمّ صلّى الظهر ركعتين، والعصر ركعتين ... وقام الناس فجعلوا يأخذون يده فيمسحون بها وجوههم. قال:فأخذتُ بيده فوضعتها على وجهي، فإذا هي أبرد من الثلج، وأطيب رائحة من المسـك "[3].
وأمّاالأخبار الدالّة على زيارة القبور فنذكر عدّة منها، وإنْ كان لا حـاجة إلى ذِكـرها لوضـوح المسـألة، حتّى إنّ الوهّابيّـين ـ أيضاً ـ غير مانعين عن أصـل الزيارة.
1- فروى البخاري، عنه (صلى الله عليه وآلهوسلم)، أنّه " خرج يوماً فصلّى على أهل أُحُد صلاته على الميّت، ثمّ انصرف إلى المنبر... " إلى آخـره [4].
2- وروى فيه عن أنس، قال: مرّ النبيّ (صلىالله عليه وسلم[وآله]) بامرأة تبكي عند قبر، فقال: " اتّقي اللهَ واصبري..." إلى آخره[5]، ولم ينهها عن زيارة القبـر.
3- وروى الدارقطني في " السنن " وغيرها، والبيهقي، وغيرهما، من طريق موسى بن هلال العبدي، عن عبـد الله العمري، عن نافع، عن ابن عمر، قال: قال رسـول الله (صلى اللهعليه [وآله] وسلم): " مَن زار قبري وجبت له شفاعتي "[6].
4- وعن نافع، عن سالم، عن ابن عمر، مرفوعاً،عن النبيّ (صلى الله عليه [وآله]وسلم)، أنّه قال: " من جاءني زائراً ليس له حاجة إلاّ زيارتي، كان حقّـاً عَلَيَّ أن أكون له شفيعاً يوم القيامة"[7].
5- وعن ليث، عن مجاهد، عن [ابن] عمر، مرفوعاً،قـال (صلى الله عليه [وآله] وسلم): " مَنْ حجَّ وزار قبري بعد وفاتي، كان كمنزارني في حيـاتي "[8].
6- وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: "مَن زارني كنتُ له شـهيداً أو شـفيعاً"[9].
7- وعن نافع، عن ابن عمر، عن النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، قال: " مَن حـجَّ [البيت] ولم يزرني فقد جفاني "[10].
8- وعن أبي هريرة، مرفوعاً، عن النبيّ (صلى الله عليه [وآله]وسلم)، قال: " مَن زارني بعد موتي فكأنّما زارني حيّـاً"[11].
9- وعن أنس، مرفوعاً، عن النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم)، [ قال ]: "مَن زارني ميّـتـاً كمن زارني حيّـاً، ومَن زار قبري وجبت له شـفاعتي يوم القيـامة "[12].
10 - وعن ابن عبّـاس، عن النبيّ (صلى الله عليه [وآله]وسلم)، قال: " مَن زارني في مماتي كان كمن زارني في حياتي، ومَن لم يزرني فقد جفـاني "[13].
11- وفـي" الموطّـأ " أنّ ابـن عمر كـان يقـف عنـد قبـر النبيّ (صلى الله عليه [وآله]وسلم)،فيسـلّم عليه وعند أبي بكر وعمر[14].
12- وسـئل نافـع: هـل كان ابن عمر يسـلّم على قبـر النبيّ (صلى الله عليه [وآله]وسلم)؟فقـال:رأيته مئـة مـرّة أو أكـثر يسلّم على النبـيّ وعلى أبي بكر(15).
13- قال عياض: زيارة قبر رسول الله (صلى الله عليه [وآله] وسلم) سُـنّـةٌ أجمعَ عليها المسـلمون[16].
14- وروى بريدة، عن النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم): " إنّي نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها "[17].
15- وعن بريدة، أنّ النبيّ (صلى الله عليه [وآله] وسلم) إذا خرج إلى المقابر قال: " السلام عليكم أهلَ الديارِ مِنَ المؤمنين والمسلمين ". رواه مسـلم[18].
16- وعن ابن عبّـاس، أنّ النبيّ [ كان ] يخرج إلى البقيع آخـر الليل فيقول: " السلام عليكم...".. الخبر. رواه مسـلم[19].
[ التبـرُّك بالقبور ]
وأمّاالتبرُّك بالقبور وتقبيلها والتمسّـح بها..
1- فقد نقل عبـد الله بن أحمد بن حنبل في كتاب " العلل والسؤالات "، قال: سألت أبي عن الرجل يمسّ منبر رسول الله يتبرّك بمسّه وتقبيله، ويفعل بالقبر ذلك رجاءَ ثوابِ الله، فقال: لا بأس بـه [20].
2- [وكذلك] نقل عن مالك التبـرّك بالقبـر[21].
3- ورويعن يحيى بن سعيد ـ شيخ مالك ـ أنّه حينما أراد الخروج إلى العراق جاء إلى المنبر وتمسّحبه (وفاء الوفا 4 / 1403).
4- وروىأحمد والحاكم أن مروان بن الحكم أقبل يوما فوجد رجلا واضعا وجهه على القبر فأخذ برقبته وقال : أتدري ما تصنع ؟ قال : نعم فأقبل عليه فإذا هو أبو أيوب الأنصاري رضي الله عنه فقال : جئت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم و لم آت الحجر سمعت رسول الله [صلى الله عليه وآله] و سلم يقول : "لاتبكوا على الدين إذا وليه أهله و لكن ابكوا عليه إذا وليه غير أهله" .قال الذهبي في التلخيص : صحيح [22].
5- وذكرابن حمّاد أنّ ابن عمر كان يضع يده اليمنى على القبـر(وفاء الوفا 4 / 1405).
ولورمنـا ذِكر جميع الأحاديث لخرجنا من حـدّ الاختصار، وفي ما ذُكر كفاية، فضلا عن سـيرةالمسلمين، وما عرفتَ من أنّ تلك الأُمور خارجـة عن حقيقـة العبـادة..
فإذاً لا وجه للمنع عنها وإنْ لم يكن دليل عليها.
هـذا، وقد قال الله عزّ وجلَّ: (وَمَن يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللهِ فَـإنّـها مِن تَـقْوى القُـلُوبِ)(سورةالحجّ 22: 32.).
[1]- انظر ذلك في تفسير آية (إيّاكَ نَعْبُدُوإيّاكَ نَسْـتَعِينُ) في: التبيان 1 / 37 ـ 39، مجمع البيان 1 / 34 ـ 35، تفسير الطبري1 / 98، تفسـير الفخر الرازي 1 / 246، تفسير القرطبي 1 / 101 ومادّة " عَبَدَ" في: لسان العرب 9 / 10.
[3]- صحيح البخاري 5 / 29 ح 60.
[4]- صحيح البخاري 2 / 193 ح 101 ; وانظر:سنن أبي داود 3 / 213 ح 3223 إلى قوله: " ثمّ انصرف ".
[5]- صحيـح البخـاري 2 / 161 ح 15 .. وانـظـر:سـنن أبي داود 3 / 189 ح 3124.
[6]- سنن الدارقطني 2 / 217 ح 2669، شعبالإيمـان 3 / 490 ح 4159 .
[7]- انظر: المعجم الكبير 12 / 225 ح13149، مجمع الزوائد 4 / 2.
[8]- انظـر: المعجـم الكبير 12 / 310 ح13497.، سـنن الدارقطـني 2 / 217 ح 2667.
[9]- انظر: مسند الطيالسي: 12 ـ 13 ح65، شعب الإيمان 3 / 489 ذ ح 4153.
[10]- دفع شُـبَه مَن شَـبّه وتمرّد:96، الدرّ المنثور 1 / 569، كنز العمّال 5 / 135 ح 12369 .
[11]- المعجم الأوسط 1 / 146 ح 289، شفاءالسقام: 109 ـ 110، وفاء الوفا 4 / 1345 ح 11.
[12]- شفاء السقام: 112، وفاء الوفا 4/ 1346 ح 13.
[13]- مختصر تاريخ دمشق 2 / 407، شفاء السقام:114، دفع شُـبَه مَن شَـبّه : 96، وفاء الوفا 4 / 1346 ح 14.
[14]- الموطّـأ: 153 ح 74 ; وانظر: شعبالإيمان 3 / 490 ح 4161.
[15]- الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 /86، إقتضاء الصراط المسـتقيم: 327 وقال قبل إيراده الخبر: " وروى ابن بطّـة في(الإبانة) بإسـناد صحيح... ".
[16]- الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 /83 ; وانظر: شفاء السقام: 155، دفع شُـبَه مَن شَـبّه وتمرّد: 95.
[17]-صحيح مسلم 3 / 65، سنن الترمذي 3/ 370 ح 1054.
[18]- صحيح مسلم 3 / 64 ـ65 ; وانظر: سنن النسائي 4 / 94، سـنن ابن ماجة 1 / 494 ح 1547.
[19]- صحيح مسلم 3 / 63 ـ 64 عن عائشة; وانظر: سنن النسائي 4 / 93، مسند أحمد 6 / 221، عن ابن عبّـاس.
[20]- العلل ومعرفة الرجال 2 / 492 رقم3243.
[21]- انظر مؤدّاه في: الشفا بتعريف حقوق المصطفى 2 / 87، شفاء السقام: 163 ـ 164، وفاء الوفا 4 / 1407.
[22]- مسند أحمد 5 / 422.، والمستدركة على الصحيحين – بتعليق الذهبي / ج