بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وال محمد وعجل فرجهم
ومن بين تلك الاساليب التي تجلب الانتباه هو ما يسلكه القرآن في سبيل تشويق الافراد الى الانفاق بجعل عملية العطاء عملية مقايضة بين الانفاق ، والجزاء منه على هذا العمل الانساني.
وبذلك يكون المنفق قد سد خلة اجتماعية بمساعدته لهؤلاء المحتاجين والله لا يحرمه على هذه الاريحية بل يعوضه في الدارين :
في هذه الدنيا بزيادة الربح ، والبركة في ماله. وفي الآخرة بالثواب الجزيل.
وتتوالى الآيات الكريمة لتعطينا صورة واضحة عن هذه الاتفاقية بين العبد ، وربه.
« وانفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية يرجون تجارة لن تبور »
« فالذين آمنوا منكم وأنفقوا لهم أجر كبير »
« مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم » .
« ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل حبة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير » .
ولم تكن هذه الآيات الكريمة هي كل ما تعرض له القرآن الكريم في التشويق على الانفاق ، بل هناك أمثالها تحتوي عليها السور القرآنية ، وهي بمجموعها تصور اسلوباً دقيقاً في الحث على المساعدة ، ودفع الافراد إلى سبيل الخير.
وبهذا الاسلوب كانت الآيات تستنهض همم الاغنياء إلى مساعدة البائسين من الايتام وغيرهم .
ولكن الروعة النفسية تظهر في اختيار هذا النوع من الحث على المساعدة بهذا الاطار الترغيبي المحبب .
فالآيات الكريمة تحرك من الافراد جوانبهم العاطفية فتبدأ معهم بلهجة يلاحظ القارىء فيها آثار الشدة ، وأن الله ليس بمحتاج إلى العبد في ترغيبه إلى هذه المشاريع الخيرية ، بل على العكس من ذلك فان الله يمن على العبد بإرشاده إلى ما فيه خيره ، وصلاحه.
« ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل ومن يبخل فإنما يبخل عن نفسه والله الغني وأنتم الفقراء وأن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم »
وإذا ما التفت الفرد ، وعرف أنه الفقير إلى تقديم الخير لينتفع بهذا الاحسان ، فيخفف به عما يلحقه من الذنوب رأينا هناك حقيقة أخرى تتكشف له لتدفعه بشكل عنيف إلى اعتناق مبدأ الانفاق ، والاحسان ، وتتجسد في قوله تعالى :
« وأنفقوا مما رزقناهم سراً وعلانية يرجون تجارة لن تبور ».
أنها ليست مسألة خسارة من جانب المنفقين ، كما وأنها ليست
عملية كاسدة حينما يجد العبد جزاء ما يقدمه موجوداً عند الله فهو بهذه العملية يتاجر مع الله عز وجل وهي تجارة ـ حتماً ـ رابحة ، ومضمونة تجر لصاحبها الربح الوفير .
ان العمليات التجارية المتضمنة لمبدأ الربح هي الطريقة التي يسير عليها في حياتهم المعاشية لتأمين الكسب ، والنفع ولذلك اختار الاسلوب القرآني هذه الطريقة ليصل إلى النتائج المطلوبة من النافذة التي يطل منها الفرد في حياته اليومية .
وأنها صورة حية مستوحاة من الحياة العملية الدارجة ليلتفت اليها الفرد فيقارن بينها ، وبين ما هو مألوف له فيما يسير عليه كل يوم لئلا تحتاج العملية إلى تصور دقيق وبحث عميق.
« مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة والله يضاعف لمن يشاء والله واسع عليم »(6).
وهذه صورة أخرى من صور الحياة التي يمارسها الفرد.
أنها حياة الزراعة ، والنمو.
وحياة الربح ، والاستفادة .
ومن منٌا لم يشاهد الزرع ، وكيفية نموه ، والربح المتوخى من وراء الزرع أنها حبة واحدة إذا بارك الله فيها تقدم لزارعها سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة . والنسبة الحسابية لهذه العملية هي .
واحد في قبال سبعمائة ، وهو ربح وفير مغرٍ يناله الزارع من الارض الميتة ، والانفاق في سبيل الله مثله كمثل الحبة تزرع في الارض
وليقارن الفرد بين العمليتين الحبة يزرعها في الارض فيجني من وراء هذه النبتة سبعمائة حبة .
والدرهم ينفقه الانسان في سبيل الله يجني من ورائه سبعمائة درهم ، أو بمقدار هذه النسبة من الأجر عند الله .
فما ينفقه الملي لانتشال الضعيف من برائن المرض ، والجهل والفقر يساعده على السير إلى الامام ، ومن ثم تحويله إلى المجتمع عضواً صالحاً تستفيد الامة من مواهبه ينتج له بالاضافة إلى هذه الخدمة التي ترضي ضميره ربحاً من الثواب ينتفع به يوم لا ينفع مال ، ولا بنون ، ومن ثم فلطف الله لم يقف عند حد ورحمته أوسع من أن تقدر بقدر ، وبعد كل هذا الربح المعاوضي .
« والله يضاعف لمن يشاء ».
وليقدر العبد هذه المضاعفة حيث لم تحدها الآية الكريمة إلى مرة ، أو مرتين بل الله يضاعف ، ولتقر عين العبد إذا كان ربه أحد طرفي هذه العملية ، وليس كأحد التجار يحسب معه الحساب الدقيق ، بل هو كريم بلطفه ، ورحيم بعطفه .
ولربما يستكثر البعض أن يكون هذا العمل الانساني مثمراً بهذه الكثرة كمثل الحبة تنبت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة ، وبعد كل ذلك فالله يضاعف لمن يشاء .
ويجاب عن ذلك : وهل يحد فضل الله ، وإحسانه ، أو تقف رحمته عند حد أنها العناية الإلهية هي التي تؤلف بين هذه القلوب الانسانية فتهب الخير ، والثواب ازاء عمل يخدم به مصلحة الآخرين ليكون أداة لتشجيع الباقين .
وتتوالى الصور الحية يعرضها القرآن الكريم ليهيج مشاعر الانسان
لتوجيهه نحو عمل الخير ، ومن جملة هذه الصور المعروضة .
« ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضات الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل حبة بربوة أصابها وابل فأتت أكلها ضعفين ».
ويحاول القرآن الكريم أن يعيش مع الافراد ليدخل إلى قلوبهم ، ويعرض عليهم صوراً من الدروس الحية فيمثل لهم أمثلة نابعة من صميم حياتهم اليومية ليكون ذلك أبلغ في الوصول إلى المقصود .
فمرة يمثل الانفاق بالتجارة .
وأخرى يمثله بالزراعة .
وثالثة يعرض أمام القارىء صوراً لحبة على ربوة وإذا بالمطر يغمرها فتقدم نتاجها المضاعف .
كل ذلك ليصل ممن وراء هذه الصور الى القلوب ليغرس فيها حُب الخير بالانفاق الى الضعفاء ، والمعوزين لئلا يبقى فقير جائع بين المجموعة .
وإذا ما أذكى نغم القرآن العذب لهب العزم على الخير في تلك القلوب التي استجابت لنداء الحق ، وقرب إلى أذهانهم نتائج أعمالهم الطيبة كحبة أثمرت سبعمائة حبة ، أو كحبة أتت أكلها ضعفين .
وأنهم بذلك يربحون صفقة تجارية رابحة أحد طرفيها ـ الله عز وجل ـ هرع الناس إلى النبي الاكرم يسألونه عن بنود هذه العملية الرابحة ، ويتكشفون منه حقيقة هذا الانفاق الذي يريده الله .
ماذا ولمن ؟.
فنوعية الانفاق ، وكيفيته ، وجنس ما ينفق ، ولمن يكون الانفاق ، وعلى من يلزمهم الصرف ، والعطاء.
« يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فان الله به عليم »(1).
والسؤال في ظاهر الآية عما ينفق بينما جاء الجواب عمن ينفق عليه ولرفع هذا الالتباس يقول علماء التفسير .
فان قلت : كيف طابق الجواب السؤال في قوله ( ما انفقتم ) وهم سألوا عن بيان ما ينفقون واجيبوا ببيان المصرف.
قلت: قد تضمن قوله ( ما انفقتم من خير ) بيان ما ينفقونه وهو كل خير ، وبين الكلام على ما حداهم وهو بيان المصرف لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها »(2).
وقال الطبرسي : «السؤال عن الانفاق يتضمن السؤال عن المنفق عمله فانهم قد علموا أن الأمر وقع بإنفاق المال فجاء الجواب ببيان كيفية النفقة وعلى من ينفق »(3).
لقد كان التحضير من الآيات الكريمة السابقة في الترغيب والتشويق الى الانفاق هو الذي دعاهم للسؤال عن كيفية الإنفاق.
لذلك بدأ القرآن يبين لهم مراحل الإنفاق بجهتيه :
نوعيته ، ومصرفه .
فعن النوعية لم يحدد لهم شيئاً يفرض فيه الانفاق ، بل ترك ذلك إلى تقديرهم .
فالاطعام خير ، والكساء خير ، والمال خير.
وهكذا نرى الشارع المقدس يترك الباب مفتوحا ، فلم يحدد نوعية الانفاق ، بل يصفه بالخير جاء ذلك في آيات عديدة قال تعالى فيها :
« وما تنفقوا من خير فلانفسكم » .
« وما تنفقوا من خير يوف إليكم » .
« وما تنفقوا من خير فإن الله به عليم » .
وعن المصرف ، وهو المنفق عليه : بدأ الكتاب الكريم بأسرتي الإنسان الخاصة ، والعامة ليحيط بره جميع الاطراف التي تضم الانسان .
فالاسرة الخاصة : وتتألف من الابوين العمودين ومن ثم الحواشي ، وهم الاطراف النسبية قال تعالى :
« قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والاقربين ».
واذا ما تجاوزنا أسرة الانسان الخاصة رأينا القرآن الكريم يلحق بهذه الاسرة المكونة من الوشائج النسبية الاسرة العامة ، وتتألف من :
اليتامى ، والمساكين ، وأبناء السبيل.
وهذا التدرج هو الذي تقتضيه طبيعة الاجتماع في هذه الحياة ، وقوانينه.
فالوالدان عمودا الانسان ، ومن ثم حواشيه وهم أطرافه وكلالته على حد تعبير الفقهاء لهم حصة في الميراث حسب التدرج في الطبقات لأنهم يحيطون بالرجل كالاكليل الذي يحيط بالرأس.
ومن ثم يتعدى في المراحل إلى الجماعة العامة من أصناف المعوزين .
ولا بد للمنفق من السير على هذا الخط الذي رسمته الآية الكريمة فانه من الايحاءات في البيئة المتقاربة ، والتي هي كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً كما يقوله الحديث الشريف .