بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وسهل مخرجهم
وصل اللهم على فاطمة وأبيها وبعلها وبنيها والسر المستودع فيها عدد ماأحاط به علمك
وعجل فرج يوسفها الغائب ونجمها الثاقب واجعلنا من خلص شيعته ومنتظريه وأحبابه يا الله
السلام على بقية الله في البلاد وحجته على سائر العباد ورحمة الله وبركاته
إنّ أهم عائق يقف في وجه الإنسان ويحول بينه وبين الرحيل نحو الأرقى والأحسن من الأوضاع؛ هو إحساسه بالعجز وقلة الحيلة في مواجهة ما يحيط به من ملمات؛ الأمر الذي يوقعه في اليأس، ويسد أمامه الآفاق، ويجعله فريسة سهلة للعديد من المخاوف من القائم من الأوضاع، ومن المجهول منها، ويحيله إلى معبر أو مقر لصنوف الأحزان والآلام الحسية والمعنوية؛ التي يولّد كلّ من الإحباط واليأس.
ولذلك فإنّ فتح الأبواب مشرعة على الأمل، والتمكين من رؤية بصيص من النور في آخر النفق المظلم، وإعادة الثقة في الذات، والإيمان بالقدرة على هزم البؤس ودحض المستحيل وما إلى ذلك، تمثلُ شروطاً ضرورية للانتصار على العجز والقلق والإحباط... إلخ ولكن كيف السبيل إلى ذلك والإنسان متروك إلى محدودية قدراته، وإلى طاقاته المعطلة، وإلى الشروط الموضوعية غير المساعدة إن لم تكن معادية؟!، وعند هذا الحد ينهض الإيمان بالله؛ المتصف بكلِّ صفات الكمال المطلقة، ليمثل السند الحقيقي للإنسان، ليخرجه من عجزه وخوفه وحزنه.
فمهما كانت الظروف تبدو مستعصية؛ فإنّ كلَّ شيء يبقى في عداد الممكن بالنسبة لإرادة الله الغلابة، وهكذا يكون إسناد الظهر إلى الله بمثابة الإيواء إلى ركن شديد... وهذا من شأنه أن يسدَّ – بحسب درجة الإيمان وقوته – أبواب اليأس ويفتح أبواب التفاؤل؛ الأمر الذي يترتب عنه مزيد من ثقة الإنسان بما يستطيع فعله، إما في الحال، وإما على امتداد أزمةٍ قد تطول وقد تقصر؛ بحسب التحديات التي تواجهه.
وقد يكون الفعل المطلوب القيام به يكفيه فعل فرد أو بعض أفراد، وقد يتطلب التقاء جهود أعداد كبرى من الأشخاص ضمن هياكل وتنظيمات متعددة ومتنوعة، ولكن من الضروري أن يكون الشخص مؤمناً بأنّ هذه الأفعال والجهود ستفتح الأبواب المغلقة، وأنّه إن لم يحصل ذلك اليوم، فلا شك أنّه حاصل في الغد، ومهما تناءى هذا الغد فلا مناص من انبلاج فجره، وكما يقول أحمد شوقي:
وللحرية الحمراء باب *** بكلِّ يد مُضَرَّجَة يدق
وهكذا يكون التعلق بالتأييد الإلهي عبر الإيمان والدعاء، بمثابة الاستمداد للقوة من الله، أو بمثابة التمثل للقدرة الإلهية من طرف الإنسان، المفرد أو الجماعي بحسب الأحوال، وبذلك يكون الحديث عن الدعاء هو: (حديث المستحيل يرغم على الإمكان)[1].
وهو المعنى الذي ندركه من خلال دعاء النبي زكريا (ع) الذي يقدمه لنا القرآن الكريم (إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا) (مريم/ 3-6).
فكون امرأته عاقراً، وكونه قد بلغ من الكبر عتياً، لم يمنعه من التطلع إلى الإنجاب، ولم يمنع حصول ذلك فعلاً: (وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ * فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ) (الأنبياء/ 89-90).
فلا وجود للمستحيل إذن، ويبقى الممكن دوماً قائماً، فلا مكان لليأس أو القنوط، وإنما هو الفعل المبادر بالسير قُدماً العمر كلّه، للأفراد وللبشرية المؤمنة بذلك، والمتقدمة نحو أهدافها وغاياتها، وما لم تبلغه أنت يبلغه أبناؤك وأحفادك والذين يواصلون الكدح على دربك، ومثلما قال الشاعر المناضل (سأرى ساعة الانتصار بعيني أخي).
ويبقى الدعاء فاتحاً للآفاق، محرراً لطاقات الإبداع والكدح، ومحرضاً على اقتحام العقبات وتذليل الصعاب بالبذل والتضحية حيناً وبمغالبة الباطل حيناً آخر، وبالبحث العلمي المتواصل طوراً، وبتكامل الجهود وتنظيم أصحابها طوراً آخر... وهكذا دواليك.
كما يبقى الدعاء أداة فاعلة ضد مخاوف الإنسان وقلقه، التي لا يستطيع هو نفسه تمييزها أو وصفها بالتمام، وكما يقول الباحث الأمريكي (م. ج. غلر)[2]:
"فإنّ التعاويذ قدمت علاجاً أو وسائل دفاعية ضد أنواع مختلفة من القلق والعصاب، ذلك أنّ التعاويذ تعالج مشكلة الخوف، والخوف أمر شائع وعام، والخوف من المجهول هو أمر حقيقي كالخوف من الأخطاء المعروفة، وفي الحقيقة فإنّه توجد مخاوف أكثر مما توجد أخطار، ولهذا فإنّ الخوف نفسه هو المشكلة وليس موضوع الخوف"[3]، ويعبر الأديب الأرجنتيني (أرنستو ساباتو) عن معنى قريب من هذا إذ يقول: "كانت حياتي تتأرجح بين النور والظلمات، ولم يكن لديّ تفكير ديني، ومع ذلك أعتقد أن كون الإنسان دينياً لا يعني قوله بأنّه يسعى لمرضاة الله فحسب، بل هو مواجهة لألم الوجود"[4]، وكلّ هذا من شأنه أن يرفع من أداء الإنسان وفعاليته التاريخية، ومن قدرته على مغالبة الصعاب وتذليلها.
الهوامش:
-----------------------------------------------------
[1]- العبارة لمحمود المسعدي، في كتابه مولد النسيان، ولكن في سياق آخر.
[2]- في مقال له عن السحر في بلاد الرافدين، صدر في مجلة (عيون) الفصلية الثقافية الصادرة بالعربية في كولونيا (ألمانيا).
[3]- الصباح 9/9/99.
[4]- الصحافة 15/9/99.