دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 2)
بتاريخ : 09-08-2016 الساعة : 04:41 PM
دروس السيد محمد باقر السيستاني حول منهج التثبت في شأن الدين ( الحلقة 2)
1
(منھج التث بّت في شأن الدین)
الحلقة الثانیة: مضمون الدین.
١. حقیقة الدین رؤیة كونیة.
٣. آثار عمیقة فارقة بین ھذه الرؤى.
٢. الرؤى المقابلة للرؤیة
٤. الرؤیة المعرفیة للدین.
الدینیة.
١. إن الدین بالمعنى الذي ننظر إلیھ تمھیدا للأبحاث القادمة
رؤیة كونیة تبتني على:
(أولا ): وجود خالق لھذا الكون وكائناتھ معنيّ بھا عامة وبالإنسان
خاصة؛ من خلال رسالة بعثھا إلیھ.
(ثانیاً): إن الإنسان لیس كائناً مادیاً یفنى بالممات على حد سائر
الكائنات الحیة الأخرى ، بل ھو كائن حيّ خالد، وما الممات إلا
مرحلة من مراحل وجوده تنفصل فیھا روحھ عن بدنھ لتعود إلیھ
في موعد لاحق، وإن سعادتھ وشقاءه حینذاك ترتبط بأعمالھ في
الحیاة الدنیا؛ فَمَن یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ وَمَن یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ
شَرّاً یَرَه .
٢. وفي مقابل ھذه الرؤیة الكونیة رؤیتان أخریتان..
(الرؤیة الأولى) منھما:
فھي تجزم بأن الإنسان متروك لحالھ، لا عنایة في نشأتھ، ولا بقاء
لھ بعد مماتھ، ولا یتجاوز أثر أعمالھ ما یلقاه في ھذه الحیاة من آثار
نفسھ وسلوكھ، أو ما یتلقاه من ردود أفعال الآخرین الإیجابیة
والسلبیة، ولا وجود لواقع وراء ذلك، ھذا في شأن الإنسان..
وأما في شأن خالق الوجود والكون والحیاة فھذه الرؤیة بین
اتجاھین:
الاتجاه الأول وھو المعروف بالاتجاه الإلحادي : ینكر أصل
وجود الخالق، ویزعم أن المادة أزلیة، وقد أدت تقلباتھا إلى وجود
ھذا الكون وھذه الحیاة بكائناتھا كلھا في فترة زمنیة طویلة، كما
ورد عن بعض الكفار في القرآن الكریم: (وَمَا یُھْلِكُنَا إِلاَّ ٱلدَّھْرُ ) 1
الاتجاه الثاني وھو المعروف بالاتجاه الربوبي 2 - : یعترف بوجود
خالق غیر مادي لھذه الحیاة، ولكن یرى أنھ لیس معنیا بالإنسان
عنایة توجیھ ورعایة وتفاعل وإشفاق، وإنما خلق ھذا الإنسان
1 الجاثیة/ ٢٤
2 في تسمیة ھذا الاتجاه بالربوبي مسامحة؛ إذ لیس ھناك عنایة تربویة بحسب ھذا الاتجاه من الخالق
تجاه الإنسان، فالأولى أن یسمّى بالاتجاه الالوھي مثلا .
2
على حد ما یُفترض في سائر الكائنات الحیة وغیر الحیة الأخرى
على سُننٍ وقوانین تجري علیھا، فھي متروكة لتلك السنن.
(الرؤیة الثانیة) 1 وھي المعروفة باللاأدر یّة -:
تتبنى التوقف والتردد في أمر حقیقة الحیاة ونشأتھا وموقع الإنسان
فیھا، لا تجزم بنفي أو إثبات؛ ولذلك فھي تحتمل أن تصح الرؤیة
الدینیة كما تحتمل أن تصح الرؤیة الإلحادیة أو الربوبیة.
وقد یظن في بادئ النظر أن ھذه الرؤیة (اللاأدریة) من حیث
النتیجة العملیة تنتج نتیجة الرؤیة السابقة أي الاتجاه الإلحادي
والربوبي ؛ لأنھ لا یترتب أثر على مجرد الشك والاحتمال..
ولكن سیأتي أن الأمر لیس كذلك، بل ھذه الرؤیة ملزمة بترتیب
آثار الرؤیة الدینیة - من الاعتناء باحتمال وجود خالق لھذه الحیاة
معنيّ بالإنسان، واحتمال أن تكون أعمال الإنسان مبادئ سعادة، أو
شقاء في عالم آخر -؛ لأن أھمیة المحتمل توجب فاعلیة الاحتمال
عقلاً وفق معادلة عقلیة بدیھیة یأتي توضیحھا.
٣. ولھذه الرؤى (الرؤیة الدینیة، والرؤیتین الاُخریین) آثار عمیقة
في حیاة الإنسان من حیث توجھاتھ ودوافعھ وتشریعاتھ..
فالحیاة الإنسانیة وفق الرؤیة الدینیة حیاة ھادفة، خُیّر فیھا الإنسان
بین طریقین: طریق المعرفة والفضیلة، وطریق الجھل والرذیلة،
ویكون لأعمال الإنسان بعداً عمیقاً في بناء ذاتھ وتكوینھ على وجھ
سلیم، فیتبوّأ كل امرئٍ محلھ غداً، ولكل نفس ما كسبت وعلیھا ما
اكتسبت، فمَن عمل شراً لم یسلم عن أثره ومن عمل خیراً لم یعدم
أثره، ومَن عانى عناءً ف رض علیھ احتسب لھ ذلك، ویكون لله
سبحانھ ظھیراً للإنسان إنْ آمن بھ وصدقھ وتولّاه، والمرء راحل
إلى حیاة أخرى؛ فھي وسیلة ولیست غایة.
وأما على الرؤیة الأخرى فإن ھذه الحیاة ھي الغایة، والأمر فیھا
أشبھ بالمقامرة؛ فمَن استطاع الوصول إلى الملذات ولو بالجنایة
على الآخرین فیما لو تمكن من الإفلات من العقوبة الدنیویة سعد
فیھا ومَن غلب فیھا وابتلى شقي بھا.. ویرى بعض أصحاب ھذه
الرؤیة أن الإنسان لیس مختاراً في تصرفاتھ، بل یساق إلیھا سوقاً
اُسوة بسائر الحیوانات.
1 تسمیة ھذا الموقف بالرؤیة مجرد توسع مجاراة ومشاكلة مع الموقفین الأولین؛ وإلا فإن ھذ الموقف
لا یدعي إبصار شيء ورؤیتھ، بل ھو متردد في حقیقة الحیاة والإنسان.
3
٤. من الضروري تفصیل معالم الرؤیة الدینیة وأھمّ خطوطھا
العریضة؛ لیتسنى البناء علیھا في الأبحاث المقبلة في تحدید
الاھتمام اللائق بھا، والتثبت المناسب منھا. 1
إن للرؤیة الدینیة جوانب ثلاث: معرفیة وتكوینیة وتشریعیة..
الجانب المعرفي للرؤیة الدینیة:
إنّ الرؤیة المعرفیة الدینیة تذعن بالإدراك العقلي للإنسان في ثوابتھ
ومساحاتھ التي یكون حكم العقل فیھا واضح اً لا لبس فیھ، ممّا یمكن
أن یدركھ أي إنسان سلیم الفكر.
ولكنھا ترى رغم ذلك عدم استغناء الإنسان في معرفتھ الكونیة عن
إسعافٍ معرفي؛ لسببین: (أحدھما): إن الإنسان وإن كان یمكنھ -
من خلال بعض مشاعره النفسیة وتأملھ في عالم المادة وروائعھا
ونظمھا - استكشاف أثر من كائن غیبي صانع للعالم، لكنّ عموم
الناس لا یكتشف ذلك إلا بصعوبة، أو بشكل غیر جازم، أو على
وجھ غامض یختلط بالأوھام والخرافات كما وقع في عبادة
الكواكب والنجوم والأشخاص والأصنام. و(الآخر): إن بعض
الحقائق الخطیرة والمھمة یتعذر الانتقال إلیھا أصلاً، كما ھو الحال
في: النشأة الأخرى للكون، وخلود الإنسان وعوده إلى الحیاة.
والإسعاف المعرفي للإنسان على أنحاء أربعة:
(الأول): تأكید ما یجده الإنسان بعقلھ في مقابل الخرافات والأوھام،
مثل: ما ورد في كتاب لله من التأكید على قضاء العقل بعدم
صلاحیة الأصنام والكواكب والأشخاص للألوھیة..
فجاء في شأن الأصنام التنبیھ على أنھا صنیعة ید الإنسان، قال
. تعالى: (قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَللهَُّ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ ) 2
وورد في شأن تألیھ عیسى بن مریم (ع) قولھ تعالى: (مَا الْمَسِیحُ
ابْنُ مَرْیَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِھِ الرُّسُلُ وَأُمُّھُ صِدِّیقَةٌ كَانَا
یَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَیْفَ نُبَیِّنُ لَھُمُ الْآیَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى یُؤْفَكُونَ ) 3
إشارة إلى أن من یكون بھذه الصفة لا یحتمل - بأدراك واضح
العقل - أن یكون إلھ اً.
وكذا ما ورد في شأن الكواكب من التنبیھ على أنھا كائنات مسخّ رة
تظھر تارةً وتأفل تارة أخرى؛ فلا یعقل أن تكون ھي الخالق للكون
والكائنات والمدبر لھا، قال تعالى: (فَلَمَّا جَنَّ عَلَیْھِ اللَّیْلُ رَأَى كَوْكَبًا
1 ومن شأن ھذا التوضیح أن یضع كل شيء موضعھ فیمیز القواعد والأصول الأساسیة والقطعیة
للدین عمّا یقع في مستوى التفصیل أو التطبیق أو الاجتھاد -؛ حتّى یتبیّن الدین على وجھ واضح
وناصع ولا یضیع بین التفاصیل والتطبیقات والاجتھادات. كما ولا بد من فھم حقیقة الدین ومضمونھ
ولو بعنوان النظریة التي لا بد من نفیھا أو إثباتھا.
.96 ، 2 الصافات/ 95
. 3 الفرقان/ 7
4
قَالَ ھَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِینَ فلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ
ھَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ یَھْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّینَ
فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ ھَذَا رَبِّي ھَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ یَا قَوْمِ
. إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ) 1
(الثاني): تنبیھ الإنسان وإیقاظھ على ما یجده ویشھده من الأمور،
ولكن لا یعیھ حقّ وعیھ ولا ینتقل لدلالتھ وغایتھ، فإذا نُبّھ علیھ
استیقظ من غفلتھ وانتقل ذھنھ لمدلولاتھ، ولربما تعجَّب من نفسھ؛
كیف رآه ولم یلتفت إلى دلالتھ؟
ومن ذلك ما ورد في القرآن الكریم من التبیھ على دلالة الخلق
ونظام الكون على الخالق.. فھذا الشيء إذا وعاه الإنسان بنفسھ لم
یحتج إلى إسعاف، ولكنھ قد یغفل عنھ ولا ینتقل إلى دلالتھ، فیحتاج
إلى من ینبھھ علیھ. 2
(الثالث): إعلام الإنسان بما یجھلھ مما یحتاج إلیھ من شؤون ما
وراء الطبیعة، مثل الدار الاخرة؛ إذ من الصعوبة أن ینتقل الإنسان
بوضوح وجزم إلى وجود المعاد والنشأة أخرى لولا إخبار الوحي
بذلك. 3
(الرابع): إعلام الإنسان بعدم استطاعتھ التوغّ ل بفكره في أمور ما
وراء الطبیعة؛ لعدم وجود أدوات واضحة لدیھ في شأنھا، وعدم
صحة مقایسة ذلك العالم بعالم المادة.
وإذا ما امعن الإنسان في التفكیر حول ما وراء الطبیعة والتنظیر
فیھ والبناء علیھ لم ینتھِ إلى نتیجة واضحة، بل ینتھي إلى الخرافات
الباطلة، كإیمان الیونانیین بوجود (عقول عشرة) متوسطة بین
الخالق وعالم المادة، واعتقاد بعضھم بوجود كائن أعلى لكل نوع
من أنواع الكائنات ید بّر أحوالھا سمُّوھا ب(أرباب الأنواع)، أو
اعتقاد العرب أن الملائكة بنات، وما أشبھ ذلك.
وبذلك یتّضح أن: الرؤیة المعرفیة الدینیة تحترم عقل الإنسان في
ثوابتھ ومحكماتھ التي تكون قریبة المأخذ من مداركھ، إلا أن إدراك
الإنسان لا یفي بنظر الدین لكشف المشھد الكامل للكون وأبعاده
وما یتضمنھ من حقائق خطیرة، خلافاً لما تعتقده بعض الاتجاھات
. 1 الأنعام/ 76 78
2 والسر في غفلة الإنسان عن مدلولات بعض الأمور على ما سیأتي ذكره في قواعد التثبت
الإدراكي في حلقات قادمة عوامل نفسیة من أھمھا انطفاء الشحنة الدلالیة للشيء على ما ورائھ
بسبب الاعتیاد علیھ؛ فإنّ الإنسان إذا اعتاد شیئاً غفل عن دلالتھ، على ما سیأتي توضیحھ.
3 ولربما كان في مشاعر الإنسان ما قد یكون ممھِّداً لكي یقع مثل ھذا النبأ موقع القبول في نفسھ،
رغم بُعده عن مداركھ، ومن تلك المشاعر: ح بّھ للبقاء ورغبتھ في الخلود، إلا أن من الصعوبة على
المرء أن ینضج مثل ھذا ویبلوره إلى درجة الإدراك التامّ والواضح.
5
الفكریة الفلسفیة في أوساط المسلمین ممن یرون أن بإمكان الإنسان
أن یصل إلى تمام مساحة الكون وخبایاه بالتأمل والبحث.
وما تطرح من الاستدلالات في ھذا الصدد - مما یُظن أنھا براھین
صائبة - ممن یدّعي قدرتھ على إدراك كل شيء حتى ما لم یكن
قریباً لإدراك الإنسان في مأخذه.. لا تؤدي إلى نتائج صحیحة،
وھي في واقعھا استحسانات واستبعادات ذھنیة ناشئة من میول أو
غرابة، تُصاغ بصورة فنیة؛ ف تُ تُلقّى برھاناً.
وتفریعاً على ما تقدم یمكن القول: إن الرؤیة المعرفیة الدینیة
تعتمد على دعامتین: التعقّل والتعبّد..
أما التعقّل فیكون في مساحة الإدراك العقلي الواضح، وأما التعبّد
فھو فیما وراء المدركات الواضحة؛ من القضایا التي تقع في
المساحة الرمادیة غیر الواضحة عند العقل الإنساني.
فمن توسّع في التعقل في غیر المساحة التي یكون من شأن العقل
إدراكھا وقع في الوھم والاشتباه، ومن توسع في التعبد إلى المساحة
التي من شأن العقل إدراكھا وقع في الخرافة، ومن أخذ بكلٍ في
موضعھ وأحلّھ محلّھ فقد أصاب.
ولیس في الاعتماد على التعبد في مجالاتھ تنقیص من شأن الإدراك
الإنساني، بل ھو تعامل واقعي ینبھ الإنسان على جھات القصور
في أدواتھ الإدراكیة.
وإلى ھذا المبدأ تشیر نصوص دینیة عدیدة، منھا: ما في سورة آل
عمران من تقسیم الآیات إلى محكمة ومتشابھة: (ھُوَ الَّذِي أَنْزَلَ
عَلَیْكَ الْكِتَابَ مِنْھُ آَیَاتٌ مُحْكَمَاتٌ ھُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِھَاتٌ فَأَمَّا
الَّذِینَ فِي قُلُوبِھِمْ زَیْغٌ فَیَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَھَ مِنْھُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ
تَأْوِیلِھِ وَمَا یَعْلَمُ تَأْوِیلَھُ إِلَّا للهَُّ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ یَقُولُونَ آَمَنَّا بِھِ
. كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا یَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ) 1
والمراد بالمحكمات ھي الآیات الناصعة التي لا مجال للشبھة في
حقانیتھا بوجوه من الاستبعاد الأوّلي، والمراد بالمتشابھات الآیات
التي یوجد فیھا مجال للاستبعاد، مثل: الإنباء بالبعث والقیامة، حیث
كان یستبعد على أساس: (وَقَالُوا أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا
. لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِیدًا) 2
والمراد بالتأویل ھو المُ خبر بھ الذي یتب یّن بھ صدق الأخبار كما قال
تعالى: (ھَلْ یَنْظُرُ ونَ إِلَّا تَأْوِیلَھُ یَوْمَ یَأْتِي تَأْوِیلُھُ یَقُولُ الَّذِینَ نَسُوهُ مِنْ
قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَھَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَیَشْفَعُوا لَنَا أَوْ
. 1 آل عمران/ 7
. 2 الإسراء/ 49
6
نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَیْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَھُمْ وَضَلَّ عَنْھُمْ مَا
كَانُوا یَفْتَرُونَ ) 2.1
طریقة الإسعاف الإلھي للخلق:
لقد اصطفى لله تعالى لتبلیغ رسالتھ إلى خلقھ أشخاص اً من الناس
أنفسھم ممّ ن اتصف بسلامة العقل والإدراك والاعتدال في
التصرفات وصفاء الفطرة ومحبة الحقیقة والفضیلة والثبات على
التحدیات والرأفة بالناس، ولم یعھد منھم ما یخدش السلامة النفسیة
ولا الطموح الاجتماعي ولا الدھاء والمكر والحیلة والتلبیس..
فأوحى إلیھم وحیاً بیّناً لا یشبھ في خصائصھ وصفاتھ في كمّھ
وكیفھ - بما یمكن أن یتخ یّلھ الإنسان على سبیل الھلاوس العابرة،
أو من جھة عدم السلامة النفسیة.
ثم دعّمھ تعالى بخوارق تقتضي - في كمّھا وكیفھا - قدرات فوق
بشریة، لم یعھد الإنسان مثلھا في التصرفات التي رآھا الناس من
السحرة والكھان وأمثالھم، فھي تتفاوت عن ذلك كلھ تفاوتاً نوعیاً.
على أن من اختارھم للرسالة كانوا أشخاص اً معروفین في المجتمع،
علم الناس سلوك یّاتھم وقدراتھم واتجاھاتھم، وقد لبثوا بین ظھران یّھم
دھراً فلم یشھد علیھم أثر التوجھ إلى الادعاءات الشاذة والتصرفات
النادرة.
وقد ظھرت حجتھم في مجتمعات عرفت أھل الادعاءات الباطلة فلم
یكن لتنطلي علیھم ما یكون من قبیلھا؛ وذلك لكي تقوم الحجة
البالغة على الخلق بصدق مدعي الرسالة.
وإذا انقضت فترة توجب انطماس وضوح الرسالة تدریجاً بعث لله
سبحانھ رسولاً آخر لإقامة الحجة ورفع اللبس والشبھة، فكان آخر
رسلھ النبي محمد (ص) الذي یسّر سبحانھ حفظ رسالتھ في كتباه
الكریم الذي أنزلھ من خلالھ رسالة لجمیع خلقھ ، حفظاً تاریخیاً
بیّناً لا لبس فیھ.
وقد اختار سبحانھ لإرسال رسلھ المجتعات التي كانت أكثر اشتمالاً
على الغلوّ والاستكبار والظلم؛ لتصل إلى سائر المجتمعات الأخرى
وفق السنن العامّة.
وبذلك كان ھؤلاء الرسل الوسطاء بین الخالق والإنسان؛ یوضّحون
لھ معالم الحیاة وآفاقھا من لدن خالقھا عبر توجیھھ إلى مسار
. 1 الأعراف/ 53
2 ویلاحظ أن التصنیف الرباعي لإسعاف الدین للمعرفة الإنسانیة كما یجري في شأن الرؤیة الكونیة
على ما تقدّم تفصیلھ، فھو یجري أیضاً في شأن الرؤیة تجاه الإنسان والتشریع الصائب في شأنھ، كما
سیجيء توضیح ذلك إن شاء لله تعالى.
7
المعرفة والتعقّل والحكمة والعدل والزكاة كما قال عز من قائل:
(ھُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّیِّینَ رَسُولًا مِنْھُمْ یَتْلُو عَلَیْھِمْ آیَاتھ وَیُزَكِّیھِمْ
وَیُعَلِّمھُمْ الْكِتَاب وَالْحِكْمَة)، وقال: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِٱلْبَیِّنَٰتِ وَأَنزَلْنَا
مَعَھُمُ ٱلْكِتَٰبَ وَ ٱلْمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلْقِسْط).