بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الذين لا تصح الصلاة الواجبة إلا بذكرهم
وتبطل بإضافة غيرهم لهم.. اللهم صل عليهم وعجل فرجهم والعن أعداءهم
السلام عليكم ورحمة الله بركاتة
في ذكرالشهيد المبارك السيدالصدرقدس
ولادته ونشأته
ولد السيد الشهيد محمد محمّد صادق الصدر في (17 ربيع الاول عام 1362 هـ الموافق 23 / 3 / 1943م في مدينة النجف الاشرف). اما نسبه فيرجع «إلى الإمام موسى بن جعفر عليه السلام في سلسلة نسبية قليلة النظير في صحتها ووضوحها وتواترها، فهو محمد ابن السيد محمد صادق ابن السيد محمد مهدي ابن السيد إسماعيل (الذي سميت اسرة الصدر بأسمه) ابن السيد صدر الدين محمد ابن السيد صالح بن محمد بن إبراهيم شرف الدين (جد أسرة آل شرف الدين) ابن زين العابدين ابن السيد نور الدين علي ابن السيد علي نور الدين بن الحسين بن محمد بن الحسين ابن علي بن محمد بن تاج الدين أبي الحسن بن محمد شمس الدين بن عبد الله بن جلال الدين بن احمد بن حمزة الاصغر بن سعد الله بن حمزة الأكبر بن أبي السعادات محمد بن ابي محمد عبد الله (نقيب الطالبيين في بغداد) بن أبي الحرث محمد بن أبي الحسن علي بن عبد الله بن أبي طاهر بن ابي الحسن محمد المحدّث بن أبي الطيب طاهر بن الحسين القطعي بن موسى أبي سبحة بن إبراهيم المرتضى ابن الإمام أبي إبراهيم موسى بن جعفر الكاظم عليه السلام». نشأ سماحته في اسرة علمية معروفة بالتقوى والعلم والفضل، ضمّت مجموعة من فطاحل العلماء منهم جده لامه آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين (قدس سره) ومنهم والده الحجة السيد محمد صادق الصدر (قدس سره) الذي كان آية في التقوى والتواضع والزهد والورع، واذا كان أحد يوصف بانه قليل النظير في ذلك فان الوصف ينطبق تماماً على المرحوم السيد محمد صادق الصدر (قدس سره).
ذكر أحد المقربين من السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) ان المرحوم الحجة السيد محمد صادق الصدر شكا له ولده السيد محمداً الصدر لا من عقوق ولا جفاء ولا قصور او تقصير بل من كثرة عبادته وسهره في الدعاء والبكاء حتى اوشك على اتلاف نفسه فما كان من السيد محمد باقر الصدر إلاّ ان بعث اليه وطلب منه الاعتدال في العبادة فاستجاب له لانه كان مطيعاً لاستاذه محباً له لا يعصيه ولا يخالفه.
ومن سماته وخصاله: خُلقه الرفيع المبرّأ من كل رياء او تصنع ويكفيك ان تعايشه دقائق لتعرف ذلك فيه واضحاً جلياً يغنيك العيان عن البرهان.
تخرج السيد محمد محمد صادق الصدر من «كلية الفقه في النجف الاشرف في دورتها الاولى عام 1964».
وكان من المتفوقين في دروسه الحوزوية كما تؤكد روايات زملائه من تلاميذ ابن عمه الشهيد آية الله محمد باقر الصدر الذي تزوج ثلاثة من أولاد الصدر الثاني وهم الشهيد مصطفى و السيدمقتدى و الشهيدمؤمل من بناته.
وبغض النظر عن مراحل دراسته التي تخطاها بتفوق وجدارة يكفي ان نشير إلى أن سماحته يعتبر من ابرز طلاب السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه) ومقرري ابحاثه الفقهية والاصولية.
وقد درس (قدس سره) جملة من العلوم والمعارف الدينية عند مجموعة من الاساتذة نذكر اهمهم على نحو الاجمال:
1 - الفلسفة الالهية، درسها عند المرحوم الحجة محمد رضا المظفر صاحب كتاب اصول الفقه والمنطق.
2 - الاصول والفقه المقارن، على يد الحجة السيد محمد تقي الحكيم.
3 - الكفاية درسها عن السيد محمد باقر الصدر (رضوان الله عليه).
4 - المكاسب درسها عند استاذين الاول محمد باقر الصدر والثاني الملا صدر البادكوبي.
5 - ابحاث الخارج وهي اعلى مستوى دراسي حوزوي حضر عند عدد من الاساتذة الفطاحل وهم:
الإمام السيد محسن الحكيم
آية الله السيد محمد باقر الصدر
الإمام السيد الخميني
آية الله السيد الخوئي
اجمعين، فنال على ايدي هؤلاء مرتبة الاجتهاد والفتوى التي اهلته للمرجعية العليا.
باشر بتدريس الفقه الاستدلالي (الخارج) أول مرة عام 1978، وكانت مادة البحث من (المختصر النافع) للمحقق العلامة الحلي. وبعد فترة باشر ثانية بالقاء ابحاثه العالية في الفقه والاصول (ابحاث الخارج) عام 1990 واستمر متخذاً من مسجد الرأس الملاصق للصحن الحيدري الشريف مدرسة وحصناً روحياً لانه اقرب بقعة من جسد امير المؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام).
عطاء فكري ثر
تأثر الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر (قدس سره) بافكار اساتذته من العلماء والمراجع اذ أن مجرد معرفة عدد من أسماء هؤلاء الاساتذة ستساعد في توضيح الملامح الفكرية لشخصيته، فهو درس لدى الإمام الخميني (قدس سره) والشهيد آية الله السيد محمد باقر الصدر وآية الله السيد الخوئي،
وآخرين،
إلاّ انه اذا تجاوزنا المشترك الفقهي لهؤلاء الثلاثة، يمكن القول انه استلهم الفكر الثوري من تجربة ودروس الإمام الخميني (قده)،واستلهم همّ المشروع التغييري في العراق من تجربة ودروس ونظريات آية الله السيد محمد باقر الصدر الذي يعد أكبر مفكر اسلامي في العصر الحديث،
ولذا يمكن القول، ان السيد محمد محمد صادق الصدر قد وظف بالاضافة إلى قدراته الفقهية التقليدية
تجربتين في تجربته، التجربة الخمينية، والتجربة الصدرية الاولى،
فهو توجه بكل جهوده إلى الجانب الاصلاحي العملي الذي يحقق حضوراً تغييرياً في وسط الامة، وانجز أول تجربة عملية تغييرية يقودها فقيه في بلد مثل العراق بحركة إنتاج فقهي، عملي ايضاً، أي بمعنى فقه يواكب حركة الحياة، بتطوراتها، ومستجداتها، وتحدياتها، وآفاقها المستقبلية، اذ انه أراد أن يربط الفقه بالواقع وأن يبعث فيه روح التجديد، وبهذا الاستنتاج يمكن القول إن السيد محمد محمد صادق الصدر كان فقيهاً عملياً واقعياً معاصراً ثورياً، قد لا يتطابق في ثوريته مع الإمام الخميني، وقد لا يُصنف في انتاجه الفكري مع الفكر الصدري الاول، إلاّ انه ضمن الظروف التي عاشها استطاع أن يقترب من الاثنين وأن يوظّف منهجهما المرجعي وأن يتأثر بتجربتهما، وأن يصوغ ملامح تجربته الخاصة. ومرةً اخرى لابد من التأكيد بان قيمة هذه التجربة تنبع من كونها عراقية، بكل استثناءات العراق المعروفة، المتعلقة بالسلطة والجو السياسي، والامة، وموقع الحوزة.
ومهما يكن من أمر فان الصدر الثاني ترك وراءه عدداً مهماً من المؤلفات التي قد تساعد في فهم ملامح مشروعه العام.
مؤلفاته :
1 - نظرات إسلامية في إعلان حقوق الإنسان
2 - فلسفة الحج في الإسلام
3 - اشعة من عقائد الإسلام
4 - القانون الإسلامي وجوده، صعوباته، منهجه
5 - موسوعة الإمام المهدي، صدر منها
أ - تاريخ الغيبة الصغرى
ب - تاريخ الغيبة الكبرى
ج - تاريخ ما بعد الظهور
د - اليوم الموعود بين الفكر المادي والديني
6 - ما وراء الفقه (موسوعة فقهية)، وهو عشرة أجزاء
7 - فقه الأخلاق
8 - فقه الفضاء.
9 - فقه الموضوعات الحديثة.
10 - حديث حول الكذب.
11 - بحث حول الرجعة.
12 - كلمة في البداء.
13 - الصراط القويم.
14 - منهج الصالحين (وهي رسالة عملية موسعة اشتملت على المسائل المستحدثة).
15 - مناسك الحج.
16 - كتاب الصلاة.
17 - كتاب الصوم.
18 - أضواء على ثورة الإمام الحسين (عليه السلام).
19 - منّة المنان في الدفاع عن القرآن (قد يصل إلى خمسين مجلداً).
20 - منهج الاصول.
21 - التنجيم والسحر.
22 - مسائل في حرمة الغناء.
مخطوطاته :
رغم ما امتاز به السيد الصدر (قدس سره) من كتبه المطبوعة إلاّ انه لا تزال هناك جملة من كتبه المخطوطة تنتظر الطبع، منها:
1الجزء السادس من موسوعة الإمام المهدي بعنوان هل إن المهدي طويل العمر
بحث الخارجي الاستدلالي الفقهي حوالي 8 أجزاء2
دورة في علم الاصول على يد المحقق السيد الخوئي.
4 - بين يدي القرآن.
5 - دورة في علم الاصول على يد السيد أبي جعفر.
6 - مباحث في كتاب الطهارة الاستدلالي.
7 - المعجزة في المفهوم الإسلامي.
8 - مبحث في المكاسب.
9 -( مجموعة أشعار الحياة (ديوان شعر
10 - اللمعة في أحكام صلاة الجمعة.
11 - الكتاب الحبيب إلى مختصر مغني اللبيب.
12 - بحث حول الشيطان.
13 - تعليقه على رسالة السيد الخوئي.
14 - تعليقة على كتاب المهدي لصدر الدين الصدر.
15 - سلسلة خطب الجمعة.
16 - فقه الكيمياء.
17 - وصيته.
18 - أجزاء باقي كتاب منهج الأصول.
19 - شرح كتاب الكفاية.
ومن خلال قائمة المؤلفات هذه تتضح بعض اهتمامات الشهيد الصدر الثاني بالفقه المعاصر وان كل مؤلف من هذه المؤلفات شكل قضية من القضايا وحاجة من الحاجات الملحة للكتابة فيها.
اجازته في الرواية
له اجازات من عدة مشايخ في الرواية اعلاها من: آية الله حسن الطهراني المعروف بـ (اغا بزرك الطهراني) صاحب الذريعة عن اعلى مشايخه وهو الميرزا حسين النوري صاحب مستدرك الوسائل، ومنهم والده الحجة آية الله السيد محمد صادق الصدر وخاله آية الله الشيخ مرتضى آل ياسين وابن عمه آية الله الحاج اغا حسين خادم الشريعة وآية الله السيد عبد الرزاق المقرم الموسوي (صاحب كتاب مقتل الإمام الحسين عليه السلام) وآية الله السيد حسن الخرسان الموسوي وآية الله السيد عبد الاعلى السبزواري والدكتور حسين علي محفوظ وغيرهم.
الاعتقالات التي تعرض لها
قام نظام صدام باعتقال السيد محمّد محمد صادق الصدر عدة مرات ومنها:
1 - عام 1972 قام النظام باعتقال السيد محمّد محمد صادق الصدر مع الشهيد السيد محمد باقر الصدر ومحمد باقر الحكيم رئيس المجلس الاعلى للثورة الإسلامية في العراق.
2 - عام 1974 قام النظام باعتقال السيد محمّد محمد صادق الصدر في مديرية امن النجف وعندما احتج على سوء معاملة السجناء نقل إلى مديرية امن الديوانية والتي كانت اشد ايذاء للمؤمنين من بقية مديريات الامن وقد بقي رهن الاعتقال والتعذيب النفسي والجسدي عدة اسابيع.
3 - عام 1998 قام النظام باستدعاء السيد محمد الصدر والتحقيق معه عدة مرات.
4 - عام 1999 قام النظام بالتحقيق مع السيد الصدر مرات عديدة وتهديده قبل اغتياله.
مشروعه التغييري
اربع مفارقات
ملف الصدر الثاني، من أكثر الملّفات الإسلامية في تاريخ العراق المعاصر إثارة ومفارقات، فالشهيد محمد محمد صادق الصدر (رض) لم يكن أحد من الذين عايشوه قبل تصديه للمرجعية، يتوقع ان ينهض بهذا الدور الضخم والمهم والخطير في مرحلة من أكثر مراحل المسار السياسي العراقي حساسيةً وتعقيداً، إذ بدا عليه قبل هذا التصدّي للمرجعية التواضع والزهد والمثابرة والبحث والجد في دراسته والتأثر بالثورة الحسينية.
المفارقة الثانية هي أن «الشائع» عن شخصية الشهيد محمد محمد صادق الصدر أنها شخصية «بسيطة» حتى ان البعض لا يريد ان يصدق حتى بعد استشهاده، انه استطاع ان ينجز هذا التحوّل الكبير في المسار الإسلامي في العراق، وهو تحوّل أثبت الكثير من الذكاء والبراعة والإبداع.
المفارقة الثالثة وتتعلّق بزمن مشروعه التغييري، فهو زمن لا يكاد يستوعب ضخامة هذا المشروع وأبعادِه ومفرداته ومجالاته، بضع سنوات استطاع فيها الشهيد محمد محمد صادق الصدر انجاز ما لا يمكن انجازه ربما في عقود.
المفارقة الرابعة ترتبط بالمكان الذي تحرك فيه هذا المشروع، وهو العراق المحكوم إلى أعتى دكتاتورية في العالم والى قيود سياسية هائلة، والى تجارب سياسية، لا يمكن ان تشجع أحداً على ان يُفكّر بالقدرة على «تحييد» السلطة، ومن ثمّ الإنطلاق برحلة تأسيسية متسارعة لعمل اسلامي كان قبل سنوات يستفزّ هذه السلطة في أبسط مظاهره.
خطة متسلسلة
اثار مشروع الشهيد الصدر الثاني (رض) جدلا حاداً في الواقع الإسلامي الداخلي في العراق غير انه جدل إيجابي في محصلته النهائية، ورغم معرفة الشهيد (رض) بما سيثيره مشروعه من جدل أو خلاف إلاّ انه اجتهد ان يفجر قضية الاصلاح للواقع الإسلامي وفق خطة اولية متسلسلة.. وهنا نشير إلى النقاط التالية: أولا: انه قدّم نموذجاً جديداً لتعاطي الفقيه مع السلطة، وهو نموذج يجد له مصاديق في تاريخ اشكالية العلاقة بين الفقيه الشيعي والسلطة. إلاّ ان الجديد فيه كما اشرنا في «المفارقات» هو سلطة صدام حسين بكل خصوصياتها الدموية، وامكانية «تحييدها» لفترة، وانتزاع بعض الادوات من يدها، والدخول معها في معادلة صراع علنية، معادلة، هي بحاجة إلى قراءة دقيقة للمتغيرات التي مرّت بها السلطة، والمؤثرات الخارجية عليها، ومن ثمّ تثمير هذه المتغيرات والمؤثرات لصالح الشروع باصلاح ذاتي من جهة، وبناء اسلامي جديد من جهة ثانية.
لقد خاض الصدر الثاني هذه المعادلة والتقط كل الفرص الداخلية والخارجية لكي يكون طرفاً قوياً فيها، وهذا ما لم يُفكّر فيه فقيه أو مرجع في العراق. ولذلك فهو تحمّل ما سيقال عنه كثمن لذلك. ولو ان ما يقال سيكون قاسياً ومريراً، فهو ازاء من كان يقول عنه بانه «فقيه السلطة» او «مرجع السلطة» مارس خطاباً لا ينفكُ يوضّح، ويحاول أن يحيّد خصومه.
ثانياً: ولقد انطلق هذا المشروع، أول ما انطلق نحو بناء قاعدة شعبية متفاعلة، وجاء هذا البناء متصاعداً عبر خطوات تحرّك كبرى باتجاه الوسط الإجتماعي والعشائري، تطلّبت الخروج على «المألوف» المرجعي أو على «العُرف» المرجعي، وقيام الشهيد السيد محمد محمد صادق الصدر بجولات وزيارات إلى العشائر العراقية، والاطلاع على أوضاعها، وبناء علاقات معها ومن ثمّ اخيراً وضع فقه خاص بها اندرج في هذا .السياق
كما تطلّب بناء القاعدة الشعبية، تجاوز خطاب «الفقيه» المكتوب إلى خطاب الفقيه المسموع، والى تنشيط الإتصالات مع الناس، والى مواكبة همومهم وشؤونهم والعمل بفقه الواقع أو فقه الحياة بكل ما تلد من جديد مع مرور الزمن، اضافة إلى التواجد الميداني معهم، وربط مصير «الفقيه» مع مصيرهم. وبالطبع ان هذا الواقع لم يألفه الشعب العراقي من قبل لذا فانه شكّل وضوحاً له بدور الفقيه، ومن ثمّ تعاطفاً معه.
وقد اثبتت تجربة الصدر الثاني ان الشعب العراقي يختزن الإستجابة للعمل الإسلامي إذ بمجرد ان تحرك السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر باتجاهه، فانه استجاب استجابة واضحة، لا تخلو من الشجاعة، وربما ان هنالك من يقول إن استجابة هذا الشعب انطلقت في جزء منها من وعيه بموقف السلطة التي سمحت للشهيد الصدر الثاني بالتحرك، الأمر الذي ازال جزءاً من المخاوف لديه، ومن ثمّ قرر الالتحاق بهذه التجربة، ولذا فإن الناس الذين ألتحقوا بركب الصدر الثاني لم ينتفضوا كلهم بعد اغتياله.
وربما تكون وجهة النظر هذه «صحيحة» بشكل جزئي ومحدود، واذا قيست التجربة بنتائجها وكلياتها وظروفها واحتياطات السلطة وطبيعتها فإن الامر لا يبدو كذلك، فالجمهور الصدري الثاني كان له رد فعل ولو انه لا «يتناسب» مع ما حصل بحكم الظروف الامنية القاسية التي تقيده، إلاّ انه اختزن وعي هذه التجربة، وسيعبر هذا الوعي عن نفسه ان عاجلا او آجلا في صناعة مستقبل العراق.
ثالثاً: وإذا كان تأسيس القاعدة الشعبية، شكّل محوراً أساسياً من محاور المشروع التغييري للشهيد محمد محمد صادق الصدر، فإن المحور الثاني كان محوراً إصلاحياً للوضع الإسلامي الداخلي، أي لوضع الحوزة، وكل ما يتعلق بشؤونها، بدءاً بمواصفات المرجع التي حددها الصدر الثاني وما اسماه التفريق بين المرجعية الناطقة والمرجعية الصامتة ومروراً باجهزتها الوكلائية والتبليغية والمالية وانتهاءً بمناهجها ومستواها .المعرفي، ومواكبتها لحركة العصر وحاجاته ومتطلباته
رابعاً: وكان المحور الآخر الذي شكّل معلماً من معالم مشروع الصدر الثاني التغييري يتمثل بالعلاقة بين الحوزة والأمة، واكتشاف الآليات والاساليب والطرق الكفيلة بايجاد علاقة من نوع آخر بينهما، وكانت صلاة الجمعة أكبر آلية تواصلية بين الفقيه والمجتمع وبين الحوزة والأُمّة، إذ لم يعمل بهذه الآلية من قبل، إلاّ بشكل محدود، ولوعي الشهيد الصدر الثاني باهميتها فانه أعطاها أهمية استثنائية، وأوصى بضرورة أو .وجوب مواصلتها حتى بعد موته
خامساً: استطاع الشهيد محمد محمد صادق الصدر ان ينجز كل ذلك عبر منظومة مفاهيمية مغايرة، وان يؤسس شبكة من المفاهيم الخاصة، مفاهيم دينية اجتماعية، ومفاهيم حول شؤون القيادة ومفاهيم حول الشؤون الثقافية والسياسية الاخرى شكّلت بمجملها نسيجاً معرفياً متجانساً، ميّزه عن سواه من الفقهاء، وحدّد ملامح مشروعه وتجربته، فلقد جاء هذا النسيج المعرفي بشيء من الفرادة والخصوصية والابتكار، فهو تجاوز المشتركات والثوابت من خلال استيعابها، وابرز معالم قراءته الخاصة لتعاليم الإسلام التي تنتمي للاجتهاد البشري، او الفهم البشري للدين والرسالة السماوية، ولذا فهو لم ينتم بعد استشهاده إلى تاريخ «الفقهاء التقليديين» بل انه انتمى إلى تاريخ الفقهاء الثوريين المبدعين المطورين المجدّدين، وأضاف إلى .تراكمهم المعرفي تجربة جديدة لها فرادتها في كثير من الأمور والمسائل
إن المنظومة المفاهيمية للشهيد الصدر الثاني لم تكن منظومة عشوائية مبعثرة وانما هناك «قصدية» واضحة في انتقاء اي مفهوم وعلاقته بالآخر، ومن ثمّ الخروج بمسمّيات ومصطلحات للتجربة وبالتالي فانها منظومة مفاهيمية تشكل مشروعاً تغييرياً له محاوره ومعالمه ومرتكزاته الخاصة حتى وان لم يُسمِّ الصدر الثاني هذا المشروع ومحاوره ومرتكزاته ومعالمه.
سادساً: وما بدا على هذا المشروع انه جاء في جزئه العملي والنظري الأكبر، إكمالا أو ترجمة لطموح الشهيد الصدر الأول (محمد باقر) الذي بقي حبيساً في صدره ولم تسمح له الظروف، لا ظروف الصراع مع السلطة، ولا ظروف المؤسسة الدينية الشيعية الداخلية، ولا ظروف الوعي المجتمعي، ان يتصدّى له، اذ على رغم المغايرة الواضحة في امور عديدة فكرية وغير فكرية بين الصدرين الأول والثاني، ورغم احتفاظ تجربة الصدر الثاني ببعض الخصوصيات الميدانية، إلاّ ان التجربة بشكل عام جاءت وكأنها صدى لاماني الصدر الأول في اصلاح الحوزة وفي وجوبية توجهها نحو المجتمع وفي ابراز الوجه السياسي لحركة .الإسلام
وفيما قضى الصدر الأول معظم حياته في بحوث فكرية متطوّرة بغية ارساء جذور وأساس المدرسة الإسلامية بكل أبعادها الفلسفية والاقتصادية والاجتماعية وبدأ بدايات في تطوير المناهج الحوزوية، واعلن خطاباً نظرياً لا يخلو من النقد لواقع هذه الحوزة وتحرك سياسياً تحت ثقل الظروف الخارجية التي ربما تكون ساعدت على دفعه على تسريع الجانب السياسي العملي من مشروعه، جاء دور الصدر الثاني من شقين شكّلا الافراز العلوي الذي غيّب في مشروع الصدر الأول، الشق المتعلّق بدور الفقيه العملي الميداني الاجتماعي الإسلامي المندك في الامة، والمرتبط معها بعد ان اكتشف آليات واساليب تعبئتها، والشق الثاني الذي يواكب حركة التجديد الفقهي بما يتناسب مع المستجدات والتطورات.
وهكذا بدا المشروعان متغايرين في ادوارهما تبعاً لاختلاف الظروف والقدرات الذاتية، وفي نفس الوقت كمّلا بعضهما البعض، في صيرورة تصاعدية تكاملية جميلة، قائمة على تواصل معرفي في حياتهما قبل الاستشهاد، وعلى رابطة دم، شاء الله ان يجعلها هكذا، ولو انها فسّرت من البعض تفسيراً ثأرياً من الصدر .الثاني لدماء الصدر الأول
سابعاً: ان الدور العملي الميداني الاجتماعي التجديدي للفقيه الصدر الثاني الذي ميّز مشروعه التغييري لم يأتِ كما أشرنا إلاّ وفق خطة تحرك عليها هذا المشروع، خطة لمرتكزات وآليات وأوليات، بدأت بـ «تحييد» السلطة، ومن ثمّ مرتكز ايجاد قاعدة شعبية ومرتكز اصلاحي داخلي للواقع الإسلامي وواقع الحوزة ومرتكز تأسيس منظومة مفاهيمية متجانسة ومتكاملة مثلّث خصوصية التجربة الصدرية الثانية، وكل تلك المرتكزات كانت ممزوجة بواقع سياسي يشكل افرازاً علوياً لهذا المشروع التغييري إلاّ ان صدام حسين قطع الطريق على تجسيد هذا الإفراز العلوي (المشروع السياسي)، مثلما قطع الطريق على تجسيد الإفراز العلوي الذي .مثّله فيما بعد مشروع الصدر الثاني على الصدر الاول
ان «قانون» الموت والقتل والإغتيال الذي عمل به صدام حسين لعرقلة حركة المشروع الإسلامي العام في .العراق، لم يحل رغم بشاعته دون تنامي هذا المشروع، وتراكم صيرورته المتصاعدة
تاسعاً: ان التجربة الصدرية الثانية في العراق مثلت صورة تصاعدية من صور حركة «الإسلام السياسي» في المسيرة الإسلامية العامة في العالم الإسلامي وفي العالم اجمع، وبقدر ما عكست هذه الصورة، وهذا المشروع الصدري الثاني من خصوصية نابعة من الظروف والجغرافيا والإبداع الذاتي الفقهي الثوري، فإنها عكست من خلال الأداء العام لهذا المشروع وأدبياته، تواصلا مع الحركة الإسلامية العالمية بكل صورها .ومظاهرها الأخرى
عاشراً: ان هذا المنهج التوحيدي الذي اقتضاه المشروع التغييري الصدري الثاني، يمكن فهم الخطاب الذي تأسس عليه بتوصيف آخر غير توصيف الخطاب «المتوتر» وهو توصيف الخطاب «النقدي» للواقع القائم، اذ ان أي مشروع لا يمكن أن ينهض ويتأسس ما لم ينقد الوضع القائم، ويطرح بدائله، وان الصدر الثاني مارس نقداً شمولياً وجوهرياً، فهو نقد شمل أكبر عدد من الظواهر الخاطئة بإثارتها ومناقشتها متجاوزاً مقولات «الحساسية»، لا سيما فيما يتعلق بالواقع الإسلامي في العراق، كظواهر «النذور» والى اين ستنتهي، وظاهرة «السدنة»، وظاهرة «تقبيل الايدي» والظواهر المرتبطة باخراج الدين عن مضمونه الحقيقي، فضلا عن الظواهر الاجتماعية السيئة، وحتى قضية إدارة العتبات المقدسة، ونقد هذه الادارة .بوضعها القائم
حادي عشر: حجم المعاناة والصبر والتحمّل والاصرار للشهيد محمد محمد صادق الصدر من أجل إنجاز هذا المشروع التغييري الاصلاحي الجذري، الذي أسسه ورعاه، ورسم ملامحه من خلال خطوط عامة ومحاور ومرتكزات وضّحها هذا البحث بشكل توثيقي، مشروع ختمه باستشهاد «مرجعي» لا ينتمي إلى تاريخ الاستشهاد المتعارف، إنما يأتي حصيلة لثقافة حسينية ونبض عرفاني ينتمي إلى عرفان «الواقع» وليس .<<إلى عرفان «الانعزال والخرافة
وقرار استشهادي واضح واع، أكّدته الروايات المنقولة عنه، وأكّده السلوك الذي مارسه، وأكّده الكفن الذي لفّه واقفاً في صلاة الجمعة، قبل ان يلفّه في قبره الذي وضع فيه، بلا تشييع وبطريقة سرية، تحت جنح الظلام، حاضناً ولديه «مصطفى» عن اليمين و«مؤمل» عن الشمال، كما دفن الشهيد الصدر الأول، مع اخته الصدرية «بنت الهدى»، قرار استشهادي أكده السيد محمد محمد صادق الصدر، بالسلوك والأكفان .والروايات الخاصة والخطاب العلني أمام الامة عندما تحدّث أكثر من مرة عن احتمال قتله
وقائع ما قبل الاغتيال
ان الصدر الثاني بالتأكيد تحول إلى رمز يقود ظاهرة اسلامية مليونية، إلاّ ان رموز العراق لا تبرز على صفحات الإعلام العربي إلاّ بعد التصفية والقتل على يد نظام صدام حسين الذي مهد لاغتيال الصدر الثاني عبر تحركات واحتياطات كبيرة، كشفت عنها صحيفة (القبس) الكويتية نقلا عن مصادر عراقية حيث في ضوء تلك التوجيهات «وضعت كافة قوات الحرس الجمهوري في حالة استعداد قصوى تحت غطاء مشروع تدريبي اعطي الاسم الرمزي «الفارس الذهبي» يستخدم فيه العتاد الحقيقي وصممت الفرضيات طبقاً لحصول تهديدات جوية وتدخل قوات محمولة جواً، تستهدف احتلال اهداف حساسة داخل العراق لاثارة الاضطراب.
كما تضمّن المشروع الممارسة على تنفيذ التنقلات الاستراتيجية تحت ظل التهديد الجوي وفي ظروف استيلاء مفارز من القوات الخاصة المعادية للسيطرة على مفارق الطرق المهمة والنقاط الحرجة كالجسور .والمناطق التي تتعذر فيها الحركة خارج الطرق
.كما تم نقل بعض ألوية الحرس الجمهوري من المنطقة الشمالية إلى منطقة الفرات الأوسط
وكان لقرار فصل محافظة المثنى عن قيادة منطقة الفرات الأوسط بقيادة (محمد حمزة الزبيدي) والحاقها بمنطقة العمليات الجنوبية بقيادة (علي حسن المجيد) صلة بالتدبير لعملية الاغتيال وذلك لتخفيف العبء عن .قيادة الفرات الأوسط التي تقود محافظات بابل وواسط والقادسية والنجف وكربلاء والمثنى
وفي ليلة تنفيذ عملية الاغتيال الخميس الجمعة كانت قوات فرقة حمورابي حرس جمهوري في منطقة الصويرة (قرب واسط) وفرقة نبوخذ نصر حرس جمهوري في كربلاء، فضلا عن الألوية التي نقلت من المنطقة الشمالية في حالة انتشار قتالي الامر الذي مهّد للسيطرة المبكرة على الوضع كأحد أساليب الردع .المسبق
وبالاضافة إلى هذا الإستباق الامني الاحتياطي الذي جاء قبل تنفيذ الاغتيال، فإن هنالك انواعاً من التصعيد في المواجهة بين الصدر الثاني والسلطة، كانت كلها تُنذر بوقوع الجريمة، ففي شهر رمضان الذي سبق الاغتيال حاولت السلطة ان تتدخل في مسار صلاة الجمعة في الكثير من المدن العراقية، والتي يقيمها وكلاء :الصدر في هذه المدن فهي