المقال منشور بجريدة الشرق القطرية عدد الأربعاء 1/12/2010 م
يدهشني حد الغضب مطالبة البعض للكتاب والصحفيين والإعلاميين أن يكونوا محايدين خلال ممارسة أعمالهم .
ومن خلال فهمي المتواضع لطبيعة النفس البشرية أرى أن الحياد منقصة ، بل سبة في بعض الأحيان ، خصوصا لهذه الفئة من الناس التي نتحدث عنها .
هل من المفترض أن أكون (ككاتب) محايدا وأنا أكتب عن الظلم ؟
هل أكون محايدا وأنا أكتب عن الاستعمار ؟
أليس لي رأي في تعذيب المواطنين العُزَّل على يد بعض أفراد الشرطة أو أجهزة المخابرات المحلية أو العالمية ؟
ألا ينبغي أن يكون لي رأي في سقوط القنابل العنقودية والفسفورية على أحياء سكنية في العراق أو فلسطين أو أي مكان في الكرة الأرضية ؟
الإعلامي المحايد هو الإعلامي الانتهازي ، عديم الشخصية ، غير المثقف أو محدود الثقافة ، الإعلامي المحايد هو ذلك الشخص الذي يمكنك توظيفه صباحا من أجل الإشادة بدور أمريكا في المنطقة ، وبالشراكة الاستراتيجية معها ، ثم توظفه مساء نفس اليوم من أجل سب الإمبريالية الأمريكية وهجائها ، لأنها تحدثت حديثا لينا عن عوراتنا وخزينا في مسائل الحريات أو الانتخابات أو غيرها .
الإعلامي الجيد هو الإعلامي المتحيز لفكرة ، الذي يملك شيئا ما يؤمن به ، ويدافع عنه ، وهو الذي يكوِّنُ مع الوقت رصيدا عند القراء أو المشاهدين بسبب تراكم عمله في اتجاه أفكار واضحة ، ويدفع ثمن هذا الانحياز لهذه المواقف ، وينطبق ذلك على الأفراد ، والجماعات ، والمؤسسات ، والصحف ، والقنوات المسموعة أو المرئية ... الخ .
الحياد أكذوبة !
حتى الله سبحانه وتعالى لم يطالبنا به !
قال تعالى : "ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى"
وهذا الأمر الإلهي هو الأقرب للمنطق ، والأكثر اتساقا مع النفس البشرية وتكوينها ، فالله سبحانه لا يطالبك بإلغاء ذاتك ، ولا يطالبك بأن تكون (محايدا) في قضايا ينبغي أن يكون لك فيها رأي ، أو يطالبك بأن تكون ملاكا لا تحمل الحقد أو الغل ، بل يطالبك بضبط النفس ، وبأن تقيم العدل مع مخالفيك في الرأي ، مع احتفاظك برأيك كما هو .
بمعنى آخر : لا يطالبك بحذف "الشنآن" من قلبك ، بل أن تتحكم فيه ، وأن تمنعه من أن يتحكم فيك .
التحيز هو الأصل ...!
والذين يتصدون للعمل الإعلامي والجماهيري لا بد أن يكونوا من هذا النوع من البشر الذي يؤمن بفكرة ما بصدق وإخلاص ، وهؤلاء هم الذين ينهضون بالمجتمعات البشرية بحق .
إن جزء كبيرا من مشاكلنا نحن العرب خلال العقود الماضية أننا صدرنا للعمل العام مجموعة من المحايدين النكرات ، وهؤلاء قد انتقتهم عناية السلطان وعيونه ، فأصبحوا بأمر الأجهزة الأمنية جهابذة السياسة ، وكبار الكتاب ، ورجال الدين ، وأمراء الشعر ، وملوك البيان !
هم من يكتب التاريخ كما يريد السلطان ، ويستشرف المستقبل كما يرغب ولي العهد !
هم من يرى الحريات في صعود رغم كل قمع ، ويرى الاقتصاد في ازدهار رغم كل فقر ، وهم من يرى نصف الكوب ملآنا حتى إذا كان ملآنا بالدم ، وهم من يرى الرئيس (أي رئيس ، وكل رئيس) ملهما ، ويرون كل خطاب له خطة عمل قومية ، وكل زيارة له تاريخية ، وكل قراراته حكيمة حتى لو كانت قرار قتل ، وهم كذلك من يرى كل مخالف للرأي ... شخصا "غير محايد" ، مشبوه الانتماء الوطني ، يتلقى تمويله من الخارج !
الإعلامي المحايد عجينة يشكلها السلطان كيف يشاء ، فتارة يجعلها حذاء يلبسه ، أو بساطا يدوس عليه ، أو خاتما يتزين به ، أو حتى إلها من عجوة يتعبد له وإن جاع أكله !
الحياد ... أن تكون مع السلطان ، إن ذهب شرقا شرقت ، وإن ذهب غربا كنت أول المغربين ، وإن ذهب شرقا وغربا ، قطعت نفسك نصفين ليذهب هذا إلى شرق والآخر لغرب !
أما التحيز ... فهو أن تقول كلمة الحق ، دون تجنٍ على أحد ، ودون مصادرة على حق الرأي المخالف في الوجود ، فأنت تقاتل من أجل رأيك ، ولكنك على استعداد للشهادة من أجل أن يقول الآخرون آراءهم بحرية .
الحياد ... أن تكون مفيد فوزي ، أو قناة العربية ...!
والتحيز ... أن تكون حمدي قنديل ، أو الجزيرة ...!
إذا أردت أن تتأكد مما أقول ، استزد من كتاب إشكالية التحيز ، لأستاذ الجيل الدكتور عبدالوهاب المسيري ...