ينقسم البحث في هذا الموضوع إلى قسمين أساسيين، يتوفر القسم الأول منه على رؤية عامة للعاطفة وآثار غيابها على حياة الإنسان، ثم ننتقل في الفصل القادم إلى معرفة دور العاطفة والمحبة على حياة الزوجين والأولاد والعائلة.
يختص بحثنا في هذا الفصل على ضرورة أن تعم أجواء الود والمحبة أرجاء البيت فالمحبة تترك آثارها الإيجابية على الأطفال، وتجعل سلوكهم ـ مستقبلاً ـ متسماً بالعاطفة والود. بعكس ذلك لو حصل وهجرت البيت المودة، وأصبح ضحية الجفاء والجمود، فإن مستقبل الطفل سيُّعرَّض للخطر وستكتسب شخصيته مستقبلاً صفات القسوة والحدية المفرطة.
وإذا كان ولداً سيفتقد بقسوة طبعه ويبوسته أول شروط الزوجية الصالحة الناجحة، التي تتطلب المودة ووفرة العاطفة، أما إذا كانت بنتاً فستفتقد لياقة إدارة الزوج والانسجام معه وتربية الأطفال، وستبدي كرهها للمجتمع الذي تعيش فيه، وتظهر عدم اهتمامها بالآخرين.
إن الطفل الذي يفتقد عاطفة الوالدين سيبدي ـ مستقبلاً ـ كرهه للمجتمع الذي يعيش فيه، ويظهر عدم اهتمامه بالآخرين، ولا يبدي نحوهم روح التعاون والعطف، وسيكون إنساناً معدوم العاطفة!
العاطفة في المجتمعات الراقية!
من المصائب الكبرى التي تواجه عالمنا المعاصر، غياب العاطفة وافتقادها، خصوصاً في البلاد المتمدنة، والمجتمعات الصناعية.
إن أنواع الجنايات وأشكال التآمر والدمار التي تسود بني البشر، إنما تعود إلى غياب العاطفة والحنين حتى غدا العالم يعيش ـ من وجهة نظر القرآن "الجاهلية الثانية".
لقد كان غياب العاطفة وافتقادها من خصائص الجاهلية الأولى قبل بعثة رسول الله (ص) حتى وصلت القسوة بأفراد ذلك المجتمع إلى مستوى دفن المولود إذا كان أنثى وهو حي ووأده في التراب. لقد وصف القرآن الكريم هذا الموقف القاسي الوحشي وصفاً دقيقاً يلامس أوتار النفس والوجدان، فقال جل من قال: (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم توارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هو أم يدسه في التراب ألا ساء ما يحكمون). [النحل: 58 ـ 59]
لقد أدى غياب القيم وانحدار العاطفة في المجتمع الجاهلي الأول إلى منحدر رهيب من القسوة والظلم، وكعلامة على هذا الجو الفاسد المتجبر الطاغي يروي المؤرخون القصة التالية:
قصة الحطاب المكي
اشتغل أحد الحطابين بجمع الحطب طوال النهار، حتى إذا جمع كمية منه تكفي ـ عند بيعها أو مقايضتها ـ لتوفير ما يسد به رمقه ورمق زوجته وأطفاله، قفل راجعاً إلى سوق مكة، وهو يعرض ما جمعه من حطب.
اقترب منه أحد رجالات مكة، وكانت آثار الظلم والطغيان بادية عليه، أمره بحمل الحطب إلى منزله. عندما وصل الحطاب إلى منزل الرجل أمره بتكسيره وإعداده قرب الموقد.
فعل الحطاب ذلك وبقي ينتظر أجره ولكن دون فائدة، عندها سأل الرجل أن يعطيه ثمن الحطب وأجرة العمل كي يهيئ بها ما يعول به أسرته.
قال له الرجل: ينبغي لك أن تفتخر بأنك جمعت الحطب لمثلي ونقلته إلى منزلي!!
أجاب الحطاب: إني أفتخر بذلك، ولكن لدي زوجة وأطفال ينتظرون.
عاد الرجل إلى مقالته الأولى وكرر الحطاب. الطلب بدون جدوى!
وأخيراً أمر الرجل أن يطرد الحطاب من بيته بإهانةٍ وإذلال.
علينا أن لا نعجب من هذه القصة، فعالمنا الراهن ـ بجاهليته المعاصرة ـ يشهد ما هو أسوأ من هذا النموذج دليلاً على غياب العاطفة وافتقاد الحب والمودة، وإن كان ذلك يحصل بألوان مختلفة ودرجات متباينة.
القوى الكبرى اليوم تنهب الشعوب والبلدان الضعيفة، فالعواصم الكبرى تأمر بنهب ثروات الشعوب، والنظم التابعة العميلة لا تبدي أي معارضة، بل هي تفتخر بطاعة كل ما يصدر لها من عواصم السيطرة الدولية.
الولايات المتحدة الأمريكية وصلت تقنياً إلى مستوى صناعة الأقمار الصناعية والمراكب الفضائية وغزو الفضاء، ولكن غياب العاطفة فيها وافتقادها إليها جعلها تنهب ثروات الشعوب وتمتص طاقاتها مقابل صمت النظم التابعة.
إن افتقاد القوى الكبرى لمشاعر الإنسانية أوصلها إلى درجة أن تهدر القمح وترميه في البحر بدل أن يصل إلى قطاعات واسعة من أطفال ونساء وشباب العالم من الذين يموتون من الجوع وسوء التغذية وقلة الطعام.
الإحصاءات المعاصرة تتحدث عن موت عدة آلاف من الأطفال يومياً في مختلف أنحاء العالم نتيجة سوء التغذية ونقصها وما يترتب عليها من أمراض، بينما أمريكا تهدر قمحها في البحار!
نفس الكلام وأكثر يقال بالنسبة للاتحاد السوفيتي، إن لغة الإحصاء تعلمنا أن العالم اليوم إذا امتنع عن صنع الأسلحة وخزنها لمدة عام واحد، فإن البشرية بأجمعها ستنعم بالثراء وتنجو من أشكال الفقر والعوز الفردي والاجتماعي.
والآن ينبغي أن نلتفت إلى قضية جديرة بالإشارة والاهتمام، حيث يتصور البعض أن كل فئات المجتمع في البلدان الصناعية تعيش في مستويات الوفرة والغنى، بينما تحدثنا الإحصاءات أن في نفس أمريكا ـ التي تهدر قمحها في البحار ـ تحصل حالات كثيرة من موت الأفراد نتيجة لقلة التغذية وسوئها أو بسبب الجوع.
ونفس الحالة تسود بريطانيا والاتحاد السوفيتي، مع فارق واحد بالنسبة للاتحاد السوفيتي الذي بلغ فيه غلاء الأسعار حداً لا يطاق. وكذلك يقال بالنسبة للتمييز الطبقي بين فئات الشعب، حيث تمنح الميزات المادية هناك قياساً للموقع الطبقي.
إن افتقاد المجتمعات الصناعية للعاطفة أدى بها على هدر مكانة الإنسان وقيمته، فأصبح القتل أبسط ما يكون، حتى ساد شعار: ادفع دولاراً تقتل إنساناً!
فبإمكان الإنسان هناك أن يدفع حفنة من الدولارات لشخص معين، ليدفعه إلى قتل شخص آخر.
وإذا جاز أن نجسد العاطفة بشيء فإنها تتجسد بالمرأة، وإذا جاز أن تتجسد المرأة بشيء فإنها لا تعدو العاطفة أيضاً. ولكن بالرغم من ذلك فقد وصل الحال بالإنسانية أن تصحو على صوت حادث عظيم، فتلك المرأة التي فقدت عاطفتها وتخلت عن مشاعرها الإنسانية، عمدت بيدها السيئة الغادرة إلى خنق أطفالها الثلاثة بالحمام حتى الموت. وعندما سألتها المحكمة عن سبب هذا التصرف الإجرامي، أجابت ببرود: أردت أن أنتقم من زوجي وأحرق قلبه!!
هذه المرأة ـ النموذج السيئ لانحدار العاطفة وغياب الحب ـ لم تجد سوى هذا الأسلوب الوحشي القذر للانتقام من زوجها!
قصة الفتاة المخطوبة
القصص المؤلمة هنا كثيرة، ولكني أكتفي بواحدة منها مما نقله أحد الكتاب عن واقع الحياة في المجتمعات الصناعية الغربية، التي تكشف عن الآثار السيئة لغياب العاطفة وافتقادها.
"مارلين" شابة مخطوبة تحمل في يدها حلقة ماسية من خطيبها، مرضت مرضاً شديداً أصبحت فيه على مشارف الموت، أحاطها أهلها وأصدقاؤها الذين بعثوا إلى امرأة عجوز كي تقوم بالإجراءات التي تحتاجها في حالة الاحتضار.
بينما الحزن والهم يعلو الجميع وهم منشغلون بالبكاء، وإذا بهم يستمعون إلى صوت "مارين" وهي تردد بضعف وتوسل: اتركيني أموت ثم استخرجيه!
عجب الجميع من كلام الفتاة مارلين، وعندما انتبهوا جيداً لاحظوا أن العجوز التي من المفروض أن تغمض عينيها وتسبل يديها وهي في مرحلة الاحتضار ولحظات العمر الأخيرة، تحاول أن تسرق الحلقة الماسية من إصبع مارلين، التي لا تملك بفعل ضعف حالها وقربها من الموت سوى التوسل بالمرأة العجوز أن تترك الحلقة في إصبعها إلى حين تموت، لأنها ذكرى خطيبها.
ولكن العجوز ـ بفعل قسوتها وغياب مشاعر العاطفة والإنسانية في نفسها ـ كانت تحاول سرقة الحلقة من يد الشابة وهي في حالة الاحتضار!
إن وقائع عالم اليوم تكشف عن علاقة طردية بين التمدن الصناعي وفقدان العاطفة، فكلما تقدمت المجتمعات صناعياً كلما انحدرت عاطفياًَ، حتى نستطيع أن نقول: إن انعدام العاطفة والمشاعر أصبح من مكاسب التقدم التكنولوجي للبشرية!
إلا أن هذا الكلام لا يعني خلو المجتمعات الإسلامية من هذا الداء، فهذه المجتمعات ـ كغيرها ـ ابتليت بداء غياب العاطفة وافتقاد الود والمحبة، وإن كان بدرجة أقل مما عليه المجتمعات الصناعية الغربية.
البيت مصدر العاطفة والمودة
إذا أردنا أن نتتبع حالات الجفاء والقسوة والبرود وفقدان العاطفة والمودة، فأين يا ترى نجد بداياتها؟
إن البيت والمحيط العائلي ـ بلا شك ـ البداية الحقيقية لكل هذه الحالات، فلو هجرت المحبة علاقة الزوجة والزوجة، وساد بينهما الاختلاف والفرقة، وإذا قدر للطفل أن ينموا ويتربى في مثل هذا المحيط الموبوء الذي يجد والده يكيل الكلام السيئ إلى أمه، فإنه سيكبر وهو يفتقد تدريجياً تلك العاطفة التي أودعها الله تبارك وتعالى في النفوس وجبل الفطرة الآدمية عليها، إلى أن يصل في نهاية المطاف إلى مرحلة الفقدان الكلي للعاطفة.
وإذا فقد الإنسان عاطفته سيكون أسوأ من الكلب الوحشي والذئب المفترس، وإلا فهل يملك شيئاً من العاطفة هذا الإنسان الذي يصنع أنواع القنابل وأسلحة الدمار والفتك، التي يعرف ـ هو ـ مقدار التخريب والضرر الذي تلحقه ببني البشر؟
وصدق الله العظيم الذي يقول: (إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون). [الأنفال: 22]
هناك أنواع من الميكروبات (كميكروب الجذام) تنخر وجود الإنسان، وتوصله إلى الموت والفناء. وهناك أنواع تسري فيه كالسرطان فتنشر المرض وتنشب به علل المنية، وهذه مع قساوتها أقل ضرراً من الإنسان الذي يفقد العاطفة، لأن الميكروب لا يملك العقل ولا قدرة التفكير، بينما الإنسان حتى لو فقد العاطفة فهو يملك العقل والقابلية على التفكير، ولكن حالة الجفاء والقسوة تمنعه من التعقل والتفكير بشكل صحيح.
فمنطق الأقوياء المتكبرين في عالم اليوم هو: ليذهب ثلثا العالم إلى الجحيم والدمار والفناء، كي نستطيع أن نحكم الثلث الباقي منه!
ترى هل ينم هذا الوضع إلا عن افتقاد مشاعر الحب والإنسانية وغياب العاطفة والعقل؟
إن مصدر هذه الحالات تكمن في تربية الطفل داخل البيت والمحيط العائلي الذي عاش فيه، والعوائل في المجتمعات الصناعية المتمدنة تعيش حالة غياب العاطفة أكثر من غيرها.
ثم إنها نقلت أعراضها الضارة إلى العوائل المتغربة في مجتمعاتنا، فمثل هذه العوائل المتأثرة بتقاليد الغرب حيثما تجول في بيوتها لا تجد أثراً للعاطفة بين الزوج وزوجته، ومن الطبيعي أن تنتج أمثال هذه العوائل أطفالاً قساة جفاة يفتقدون حالات الإشباع العاطفي والاستقرار النفسي.
لقد أودع الله تبارك وتعالى في تكوين وفطرة الزوج والزوجة عاطفة الاستقرار والسكن، وذلك قوله تعالى: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) [الروم: 21] فالله تبارك وتعالى خلق المرأة للرجل، جعل منها زوجة له، لا لكي تطفئ وهج الشهوة الجنسية فيه فقط، أو تكون سبباً لإدامة النسل، بل خلقها لتكون ـ أولاً وقبل كل شيء ـ مصدر استقرار الرجل، ومكمن هدوء (لتسكنوا إليها) فالرجل الذي يعثر على زوجة صالحة، والمرأة التي تعثر على زوج صالح، لا يجدان في حياتهما سوى استقرار القلب وسكينة النفس، وسيكون بيتاً مثل هذا بعيداً عن عوامل القلق واضطراب الخاطر.
وقوله تعالى: (وجعل بينكم مودة ورحمة) يعني أن الله تعالى هو الذي أودع في فطرة الإنسان وجبلته الأولى هذه المحبة والعاطفة والسكن، وأن المنطلق الذي تنمو فيه هذه العاطفة يبدأ مع صيغة التعاقد الشرعي بين الزوجين المشهورة بصيغة "أنكحت وقبلت" ثم تنمو تدريجياً وتنساح على الجو العائلي برمته.
لذلك أوصى الإسلام بمراقبة هذه العاطفة بالمراعاة والنمو والحيلولة دون العقبات التي تقف في طريقها. ومن المناسب أن أستثمر هذه الفرصة لأقول للشباب ـ حتى أولئك الذين لم يتزوجوا بعد ـ إن ثمرة وجودهم في هذه الحياة هي العلاقة الزوجية الناجحة، فالولد يغادر بيت أبيه، والبنت تغادر بيت أبيها، إلى بيت الزوجية، ولا أحد منهما ـ إلا ما ندر ـ يفكر في كبر والديه ومرحلة كهولتهما.
لذلك اهتم القرآن الكريم بهذه المرحلة ووصى بالوالدين كثيراً، يقول تعالى: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً إما يبلغنّ عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أفٍ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً). [الإسراء: 23]
لقد أثبتت التجربة الاجتماعية سوء حال الوالدين اللذين يقعان في كبرهما ضحية زوجة ولدهما ويكونا تحت رأفة ابنهما، إلا ما ندر. في نفس الوقت الذي أثبتت فيه التجربة الاجتماعية ـ كذلك ـ أن غالباً ما يكون هذا الابن وفياً لزوجته، والبنت وفية لزوجها.
لذلك أوصى هنا أن لا يفرط الزوجان بهذه العاطفة والمحبة، وهي وديعة الله التي أودعها الفطرة الإنسانية، ومع غيابها تفقد الحياة معاني الخير والسمو، ويعجز الإنسان عن مدّ يد الأخوة والعطاء إلى الآخرين.
إن من مظاهر غياب العاطفة في الحياة الزوجية، هو ما نلاحظه من سلوك الزوج الذي يفضل التسكع في الأندية والمقاهي وقضاء الوقت مع رفاقه خارج البيت حتى وقت متأخر من الليل. وكذلك ما تفعله الزوجة من قضاء الوقت بأي شيء بشرط أن تبقى وحدها بعيداً عن زوجها الذي تفتقد مشاعر المودة إزاءه!
ومن الطبيعي أن تنتهي هذه الحالة إلى قتل روح الحياة تدريجياً في مثل هذه العوائل، ويتحول البيت على سجن، والأنكى من كل ذلك هي الآثار السلبية التي تظهر على الطفل.
إن الطفل الذي يصحو يومياً على إيقاعات البغض والكراهية التي تسود والديه، ستكبر روحه وتنمو على القسوة والبغض، وسيتسم سلوكه بالتعالي والغرور، فهو يضرب اخوته الصغار ولا يحسب إزاءهم بأي مودة، بل يميل إلى الآخرين وهم غرباء عليه ولا يميل إلى اخوته أو والديه.
فقدان العاطفة والأخلاق السيئة
لتلافي مشكلة غياب العاطفة من الجو الأسري، أوصى الإسلام بالأخلاق الحسنة، وحذر من الأخلاق السيئة.
ولا يتصور البعض أن مفهوم الإسلام عن سوء الأخلاق هو ما يصدر من بعض الأزواج من سب وكلام بذيء إزاء الزوجة، أما ما يقوم به بعض الأزواج من ضرب واعتداء على زوجاتهم، فهذه أمور لا تدخل في سوء الأخلاق، لأن مثل هؤلاء الأزواج في إسلامهم خلل أصلاً.
ولذلك فإن دائرة هذه التصرفات خارجة عن نطاق بحثنا، وإنما نقصد بسوء الأخلاق تلك الحالات التي تظهر من الأزواج، فيبدو في البيت عبوساً ملولاً، يتبرم كثيراً ويتذمّر، ويؤذي أهله بسيئ الكلام، وينقل هموم شغله وغصص تجارته وصكوكه ودفاتره المالية إلى داخل البيت فيحيل فضاءه إلى أجواء باردة ومتوترة.
أنذر الإسلام مثل هؤلاء بضغطة القبر وعذابه، فنقرأ في الروايات أن عظام الصدر تتكسر من شدة ضغطة القبر عقوبة لصاحبها على سوء أخلاقه.
ومن ذلك ما يروى أن سعد بن معاذ الصحابي الجليل والمجاهد المعروف بين يدي رسول الله (ص)، وكان من شأنه أن رسول الله (ص) أخبر أصحابه أن الأرض ملئت بالملائكة المشاركين في تشييعه.
عندما مات سعد بن معاذ اشترك رسول الله (ص) بنفسه في غسله وتكفينه وتشييعه ودفنه، وعندما ووري التراب جاءت أمه وقالت: إنني لن أبكي عليك وقد دفنت بيدي رسول الله (ص)، وإن الجنة في انتظارك.
ولكن عندما غادرت أم سعد بن معاذ المكان أخبر رسول الله (ص) الحاضرين بأن سعداً يضغط في قبره وأن أضلاع صدره وعظامها تتكسر من ضغطة القبر هذه!
عجب الحاضرون من ذلك، وسألوا رسول الله (ص) عن السبب، فأخبرهم أن سعداً على علو مقامه وجهاده في الإسلام وحسن صحبته، فقد كان سيئ الأخلاق في بيته وفي التعامل مع زوجته.
إننا نلاحظ أن الأزواج السلبيين المتشائمين يبحثون في بيوتهم عن أية نقيصة مهما تكن صغيرة، كي يتخذوا منها ذريعة لإثارة المشاكل وإكثار الكلام الذي يتسم باللوم والتقريع والأذى وإذا عجزوا عن إيجاد النقص وتبرير سلبيتهم، فإنهم يصطنعون أي حجة لإثارة المشكلة، فترى أحدهم يجلس على سفرة الطعام فيقول: لماذا تميل السفرة إلى هذا الجانب أو ذاك؛ كان الأولى أن تفرش بشكل صحيح!!
إن هذه الحالات من قبل الأزواج من اقتناص الصغائر وتضخيمها والتبرم والتضجر من كل شيء، والتدخل فيما يعني الزوج وما لا يعنيه من أمور المنزل، وإرسال الكلام الخشن الجارح، يستوجب عذاب القبر وضغطته بعد الموت.
وعذاب القبر ينزل بالأشخاص الذين تتسم أخلاقهم داخل منازلهم بالسوء أما استخدام الكلام البذيء الفاحش في البيت مع الزوجة والأولاد، فهو أمر أكبر في مدلوله من سوء الأخلاق.
ولكي يتسم كلامنا بالحذر من الفحش والبذاء ننقل القصة التالية:
موقف الإمام من رفيقه
كان صاحب القصة مشهوراً بين الناس بأنه رفيق الإمام الصادق عليه السلام. وذات يوم دخل الإمام الصادق ورفيقه إلى سوق الحذائين، وكان بمعيتهم غلام لرفيق الإمام الصادق، كان يمشي خلفهم، ثم فجأة التفت رفيق الإمام على الوراء فلم ير غلامه، فمشى عدة خطوات ثم التفت ثانية فلم يجد غلامه أيضاً، ونظر خلفه للمرة الثالثة فلم يعثر على الغلام، وكان مشغولاً بالنظر إلى ما في السوق، ولما أعاده الكرة وقع نظره على غلامه فقال: يا ابن الفاعلة، أين كنت؟
لما سمع الإمام الصادق (ع) هذا الكلام منه ا ستهجنه ورفع يده وضرب بها جبهته وقال: سبحان الله تقذف أمه، كنت أرى أن لك ورعاً فإذا ليس لك ورع!
فقال الرجل: جعلت فداك ـ يا ابن رسول الله ـ إن أمه سندية مشركة.
فقال عليه السلام: فلتكن أمه كافرة، أما علمت أن لكل أمة نكاحاً، وأن أبناءهم ليسوا بأولاد زنا!
ثم قال له عليه السلام: إليك عني.
ولم يشاهد الإمام (ع) بعد ذلك ماشياً مع رفيقه حتى فرق الموت بينهما.
إذا كان هذا حال من يجري الكلام البذيء على لسانه، فما حال من يعتمد أسلوب الضرب والكلام الفاحش البذيء وسيلة في التعامل مع زوجته داخل بيته؟ إنه في هذه الحالة سيكون ظالماً، والظالم معلوم مصيره في الإسلام.
إن سوء الأخلاق في البيت وإلحاق الأذى بالزوجة بالكلام الزائد، فضلاً عن آثاره السلبية داخل البيت فهو يتحول بمرور الأيام إلى ملكة تتأصل في نفسية وسلوك صاحبها.
إن الفلاسفة وعلماء الأخلاق والسلوك والعرفان، وكذلك القرآن الكريم، يؤكدون جميعاً على أن أعمالنا تتحول بالتكرار والاستمرار ومرور الزمن إلى "ملكات" و"قابليات" تستقر فينا، فتغير من هويتنا وشكلنا.
فالإنسان الذي يحكم علاقته بالله تتفتح فيه الاستعدادات الإنسانية ويكتسب هويته من هذه الجهة، أما الإنسان الذي ينطوي على نقصٍ وسبعية فإن هذه الصفة السبعية تكسبه ـ بدورها ـ هويته الجديدة التي تقوم مقام إنسانية!
إن الإنسان السبعي يكون في سلوكه ووضعه النفسي كالكلب المفترس الوحشي.
إن القرآن الكريم وعلماء الأخلاق والفلاسفة، بحثوا هذه النقطة بشكل عميق ومفصل. وبالنسبة للفيلسوف الكبير صدر المتألهين الشيرازي يطلق على هذه الحالة أسم حالة تجسم العمل.
إن حالة كثرة الكلام وإيذاء الزوجة به، وإثارة المشاكل وعموم سوء الأخلاق داخل البيت، تتحول بمرور الأيام إلى ملكة تؤدي بصاحبها على أن يخرج عن صفة الإنسانية، ويدخله في الصفة "الحيوانية".
إن الحياة الزوجية تتطلب من الإنسان أن يترك التشاؤم والسلبية وينحو نحو التفاؤل والإيجابية، وقد أكون قاسياً في وصف الزوج سيئ الخلق الذي يتحجج بالصغائر ويتذرع بها لإثارة المشكلات وتعكير جو العائلة وصفائها، فهو كالذبابة التي تدور في المكان ولا تحط على الفراش والأشياء النظيفة، وإنما تبحث عن نقطة قذرة مهما كانت صغيرة لتحط عليها!
فالزوج السيئ الخلق يترك كل إيجابيات زوجته وامتيازاتها وما تبذله من جهد داخل المنزل، ليلتقط ثغرة صغيرة ينفذ من خلالها لإثارة المشكلات وتعكير جو العائلة.
الزوجة ـ مثلاً ـ تتحمل مشاق يوم مجهد من العمل داخل المطبخ لإعداد الطعام، وعندما يكون الأكل جاهزاً أمام الزوج تراه يقيم الدنيا ولا يقعدها، لأن الملح في اللبن أكثر مما يتحمل مزاجه!
إن الزوجة كثيرة الحسنات والإيجابيات، ولكنها تسقط مرة واحدة لخطأ صغير، أو لسلوك لا ينسجم مع مزاج الزوج.
الروح الإيجابية في قصة السيد المسيح(ع)
نقرأ في الروايات تلك القصة الأخلاقية المعبرة ، حيث يروى أن نبي الله عيسى بن مريم (ع) مر مع بعض حوارييه بجثة كلب ميت تنبعث الرائحة الكريهة من جسده المتفسخ، فقال الحواري الأول: إن المكان مملوء بالرائحة الكريهة، أما الثاني فقد بادر إلى ترك المكان مسرعاً، والثالث من أصحاب المسيح وضع يده على أنفه ومر مسرعاً.. وهكذا.
عندما جاء الدور للسيد المسيح مر بالكلب الميت ثم قال لأصحابه بوقار وطمأنينة: انظروا إلى أسنانه ما أشد نصاعة بياضها!
لقد أعطى عليه السلام لأصحابه درساً في الإيجابية، وإلا هل يوجد إنسان خال من النقص؟
إن التوافق الزوجي المطلق بين الزوج والزوجة أمر مستحيل، فالفلاسفة يقولون: إن الإنسان نوع منحصر في فرد، لذلك تختلف الطبائع والأذواق والأخلاق بين فرد وآخر، وتختلف كذلك بين الزوجة والزوج.
يقول أحد الباحثين النفسيين: إن الاختلاف في البيت أمر طبيعي، وهو لابد أن يحصل.. قد يتأخر إلى ما بعد شهر العسل، أو ما بعد السنة الأولى أو الثانية، حيث تكون الغريزة الجنسية قوية فتحجب ظهور المشاكل. أما بعد أن تنطفئ الشهوة الجنسية ويقل لهيبها، فإن شؤون الحياة اليومية تبدأ بإفراز مشكلاتها، وهنا تبدوا الحاجة للتعاطي الإيجابي مع شؤون الحياة وأمور العائلة، كي تنمو المودة الإلهية المودعة. بين الزوجين، وتثمر عطاء حلواً وعيشاً هنيئاً قاراً.
عندما تستقر المودة في القلوب تكون كالزجاجة، فهي إذا تعرضت لحجارة صغيرة تنكسر لذلك ينبغي عدم إيلام القلوب، لأن من الصعب جبرها. ومن الأمثلة السيئة لهذا الإيلام ما قد يصدر من بعض الزوجات عندما تخاطب زوجها بقولها: ترى أي خير جنيته معك!
إن زوجة مثل هذه تحبط أعمالها من وجهة نظر الإسلام ويكون مصيرها جهنم وبئس المصير.
على الزوجة ـ بدل ذلك ـ أن تتهيأ بالزينة والتجمل وتنتظر استقبال زوجها بإعداد نفسها وترتيب بيتها وتنظيف أطفالها، وتطرد عن نفسها الملالة والسأم، وعندما يطرق الزوج الباب عليها أن تستقبله بابتسامة ووجه طلق بشر، ثم تأخذ بيده وترحب به وتقدم له الشراب والطعام، كي تنسيه تعبه، لا أن تقوم بالتأفف وإظهار الضجر، لأن مثل هذا السلوك يترك في نفس الزوج أسوأ الأثر.
عندما عرج برسول الله (ص) إلى السماء رأى طائفتين من أمته تمتازان بطول ألسنتهما حتى تمتد إلى أرض المحشر وتطأهما الأقدام، ثم يؤمر بهما إلى جهنم، ويعلقان هناك من ألسنتهما.
الطائفتان هاتان هما:
أولاً: الذين يغتابون الناس وينتقصون من شخصياتهم من وراء ظهورهم، فتكون لهم يوم القيامة ألسنة طوال توطأ بالأقدام قبل أن يؤمر بهم إلى جهنم فيعلقون بها.
ثانياً: المرأة السيئة الأخلاق في البيت التي تتجرأ بلسانها على زوجها وتراده الكلام.
فعلى الزوجة أن تلتزم طاعة زوجها وتتجاوز عنه ولو كان مقصراً، وإلا فإن عليها أن تتحمل عاقبة أمرها سوءً ومهانة وعذاباً.
نقرأ في الروايات الإسلامية التي ترسم أجواء الأسرة من منظور الإسلام، أن المرأة التي تبيت ولا تحرز رضا زوجها لا يقبل منها عمل. وفي المقابل ليس هناك ثواب أعظم من ثواب خدمة الزوج لزوجته وخدمة الزوجة لزوجها وحسن تبعلها.
ثم تقرر الروايات أن ليس ثمة بعد الشرك من جرم أعظم من إساءة الزوج لزوجته وإيذائها، أو إساءة الزوجة لزوجها وإيذائه.
حوار بين امرأة ورسول الله (ص)
والآن لنبق مع هذه الواقعة التي ترسم لنا حقوق الزوجية من فم رسول الله صلى الله عليه وآله.
جاءت امرأة إلى رسول الله (ص) فقالت: ما حق الزوج على المرأة؟
فأخبرها (ص) أن للزوج على زوجته ثلاثة حقوق هي:
أولاً: "أن تجيبيه إلى حاجته وإن كانت على ظهر قتب" بمعنى أن الزوج متى ما رغب بالوصال الزوجي والممارسة الجنسية، فعلى الزوجة أن تستجيب لذلك راضية أما لو تعللت بأي شاغل أو حجة فإنها تتحمل إثم هذه المعصية وعدم المطاوعة.
وينبغي أن نلاحظ هنا أن وظيفة الاتصال الجنسي من وجهة نظر الإسلام، لا تقوم على أساس إشباع الغريزة الجنسية الشهوية فحسب، وإنما يكون هذا العمل ـ من جهة ـ دليل المحبة ومادة المودة، ومن جهة أخرى هو ضروري لاستدامة النسل الإنساني بشكل عام.
ثانياً: ثم أخبر رسول الله (ص) المرأة التي سألته عن الحق الثاني فقال: ولا "تعطي شيئاً إلا بإذنه، فإن فعلت فعليها الوزر وله الأجر" على الزوجة أن تحفظ زوجها في ماله وأن لا تتصرف به إلا بإذنه.
ثالثاً: أما الحق الثالث الذي حدده رسول الله للزوج على زوجته، فهو قوله (ص): "ولا تبيت ليلة وهو عليها ساخط" إن الحياة الأسرية تشهد أنواع المشاكل والاختلاف بين الزوج وزوجته، وهنا على الزوجة أن تبادر إلى إرضاء زوجها وأن لا تبيت ليلتها وهو عليها ساخط.
يبدو أن الشرط الأخير من شروط الزوجة الصالحة وقع ثقيلاً على المرأة التي سألت رسول الله (ص) لذلك بادرت للاستفهام، فقالت: يا رسول الله، وإن كان ظالماً؟ أي حتى لو كان الرجل مقصراً فعلي أيضاً أن أتحرك نحوه وأبادره لإرضائه؟
قال (ص): نعم.
وهنا استصعبت المرأة السائلة هذا الأمر فقالت: والذي بعثك بالحق لا تزوجت زوجاً أبداً.
هذه المرأة قررت عدم الزواج، ولكن قرارها لا يغير من حقوق الزوج على زوجته، فالمرأة ترادف العاطفة والمحبة، وعليها التواضع في مقابل زوجها.
لقد درج العالم على اختيار الفتاة النموذجية وفق شروطه ومعاييره التي تنسجم مع قيمه وحضارته، فعالم اليوم يختار المرأة النموذجية بمقياس واقعه المتفسخ، فتفوز باللقب من تشتهر بمجانبة العفة والحياء وتمتاز بالخلاعة أكثر من غيرها.
والإسلام اختار هو الآخر مواصفات للمرأة النموذجية، فتحدث القرآن عن ذلك بقول الله تعالى: (فالصالحات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله). [النساء: 34] بمعنى أن المرأة النموذجية من وجهة نظر الإسلام هي من تمتاز بما يلي:
أولاً: التواضع لله، وللزوج.
ثانياً: أن تلبس لباس العفة في الخلوة كما في الشارع، وأن يتسم سلوكها بالتزام أحكام الإسلام في ذلك، وعليها أن تحفظ زوجها في نفسها بحضوره وغيابه.
خلاصة
وهكذا ينتهي الكلام إلى تقرير الثمرة الآتية: على الجميع ـ أزواجاً وزوجات ـ أن يحافظوا على أن تكون بيوتهم وأجواء العائلة نابضة بالحب والمودة والعاطفة، وبدون ذلك سيتحول البيت إلى زنزانة وسيكون الثمن غالياً، فبالإضافة إلى تحطيم أواصر الزوجية الصالحة بين الزوجين، تنعكس الآثار السلبية على الأطفال الذين يكبرون على القسوة والعقد النفسية، الأمر الذي يلحق الأضرار بحركة المجتمع.