تناولت صحيفة القدس العربي التصريحات التي ادلى بها الجنرال مارتن ديمبسي رئيس هيئة الاركان المشتركة في الجيش الامريكي اثناء توقفه في لندن وقال فيها 'ان اسوأ نتيجة محتملة للأزمة في سورية ستكون حالة من الفوضى وعدم الاستقرار' ستشكل صدمة للدول العربية ومعظم فصائل المعارضة السورية، التي راهنت، ولا تزال، على تدخل عسكري خارجي لتغيير النظام .
فما يقلق الادارة الامريكية هذه الايام، حسب ما ورد في العديد من التقارير الاستراتيجية، هو تزايد نفوذ الجماعات الجهادية الاسلامية على الارض السورية، وصعوبة السيطرة عليها بالتالي. وهذا الموقف الامريكي المتردد دفع بعض جماعات المعارضة السورية الى مهاجمة الادارة الامريكية، واتهامها بخذلان الشعب السوري وثورته، والتهديد بالتحالف مع الجماعات الاسلامية المتطرفة ضد الولايات المتحدة.
ومن الواضح ان الضغوط التي مارستها وتمارسها حكومة السيد رجب طيب اردوغان التركية على امريكا، وحلف الناتو ايضا، بإقامة مناطق عازلة داخل سورية لاستيعاب عشرات الآلاف من اللاجئين السوريين، لم تجد آذانا صاغية لصعوبة اقامة مثل هذه المناطق في ظل الدعم الروسي ـ الصيني المطلق والمفتوح للنظام السوري.
الجنرال ديمبسي بعث رسالة واضحة الى الحكومة التركية بعدم وجود الرغبة والحماس لدى إدارته لإقامة مناطق الحظر الجوي هذه عندما قال بالحرف الواحد 'ان المقارنة المتكررة للحالة السورية مع ليبيا، حيث تم فرض منطقة حظر طيران بموجب قرار من منظمة الامم المتحدة، هي في احسن الحالات مصدر للتسلية'.
وربما تكون مثل هذه التصريحات الصادرة عن الرجل الأقوى في المؤسسة العسكرية الامريكية، الى جانب اسباب اخرى، هي التفسير الاكثر منطقية لخفوت صوت السيد اردوغان وابتعاده عن الملف السوري، علنيا على الأقل، وللهجوم الشرس الذي خص�'ه به وحكومته الرئيس بشار الاسد في مقابلته الاخيرة مع قناة الدنيا
الموقف في سورية يختلف كليا عن نظيره في ليبيا، فتدخل حلف الناتو في الاخيرة كان 'مجرد نزهة'، ومعدوم المخاطر، لأن الجيش الليبي كان ضعيفا، بل غير موجود اساسا، بعد ان حل�'ه العقيد القذافي واستبدله بكتائب امنية بقيادة ابنائه وأفراد خُل�'ص من قبيلته.
الجيش السوري ما زال قويا، ويملك قدرات دفاعية هائلة وفق التقديرات الغربية، علاوة على بطاريات صواريخ روسية حديثة يمكن ان تتصدى لأي غارات جوية من قبل حلف الناتو، والأهم من ذلك ان النظام السوري يجد كل الدعم من روسيا والصين كما قلنا (بوارج الاولى ما زالت ترابط في ميناء طرطوس) وايران وحزب الله في دول الجوار.
القلق الأكبر لدى واشنطن هو من قيام تنظيمات جهادية اسلامية متشددة على نمط 'القاعدة' بملء اي فراغ يمكن ان ينشأ في حال تحو�'ل سورية الى دولة فاشلة، في حال سقوط النظام، خاصة ان تجارب في دول مثل افغانستان والعراق بعد الاحتلال، واليمن وليبيا بعد سقوط النظام، تؤكد مثل هذه المخاوف، بصورة او بأخرى.
الأمر المرجح ان الوضع الراهن يناسب واشنطن والدول الغربية الاخرى، وان كان لا يناسب المعارضة السورية والدول العربية الداعمة للمتمردين من الشعب السوري. فالتحالف الغربي العربي المناوئ للنظام يرى ان حرب الاستنزاف الدائرة حاليا على الارض السورية، بعيدا عن اي تدخل اجنبي مباشر، قد تؤدي الى اضعاف الجيش السوري، وتقويض قواعد التأييد للنظام من الداخل، وإحداث انشقاقات اكبر داخل المؤسسة العسكرية السورية.
المعادلة على الارض، او بالأحرى في ميادين القتال، تميل لصالح النظام في الوقت الراهن، لأن تسليح الجيش السوري الحر�' ما زال ضعيفا بالمقارنة مع القدرات العسكرية الهائلة التي يملكها النظام وقواته، ولكن اذا صح�'ت بعض التسريبات الغربية والعربية التي تقول بأن دولا غربية قد تلجأ الى تزويد الجيش الحر�' بصواريخ حديثة لإسقاط الطائرات السورية التي تهاجم تجمعاته في حلب وإدلب ودير الزور وريف دمشق، فإن هذا قد يُحدث تحو�'لا خطيرا في الحرب، على غرار ما حدث في افغانستان.
صواريخ 'ستينغر' الامريكية المضادة للطائرات والتي تحمل على الكتف شل�'ت الطيران الحربي السوفييتي في افغانستان عندما زو�'دت بها واشنطن المجاهدين الافغان في الثمانينات، وجعلت من معظم افغانستان منطقة حظر جوي، فهل تتكرر السابقة نفسها في الايام والأشهر المقبلة؟ ثم ما هو الرد الروسي والصيني والايراني على هذا السيناريو المرعب في النهاية؟
وانا اجري ابحاثا لتأليف كتابي الاول عن 'القاعدة'، قال لي مصدر موثوق مقرب من التنظيم، ان عناصره عندما حاولت استخدام صواريخ ستينغر ضد طائرات امريكية اثناء الهجوم الامريكي على افغانستان بعد هجمات الحادي عشر من ايلول (سبتمبر) لم تنطلق هذه الصواريخ لأنها كانت مبرمجة لإصابة طائرات غير امريكية. واضاف ان بعض خبراء التنظيم نجحوا في فك الشفرة وتمكنوا من استخدامها في اسقاط عدة طائرات عمودية امريكية. ولست خبيرا عسكريا لأجزم بدقة هذه المعلومة.
الاستراتيجية الامريكية الجديدة في المنطقة تتمحور حول كيفية اضعاف، ان لم يكن تدمير الجيوش العربية وانهاء قدراتها القتالية حتى تظل اسرائيل هي القوة الاقليمية الأعظم في المنطقة دون منافس، والجيش السوري بلا شك هو على رأسها.
وليس صدفة ان العراق وبعد عشر سنوات على غزوه واحتلاله وتفكيك جيشه ما زال بلا اي جيش قوي، ولا سلاح طيران، والشيء نفسه ينطبق على ليبيا. وعندما سئل وزير الداخلية الليبي عن اسباب تصديه للجماعات التي دمرت الاضرحة ومساجد الصوفية في طرابلس ومدنا اخرى، قال بالحرف الواحد: لا يوجد لدي جيش او قوات كافية للتصدي لهذه الجماعات.
المسؤولون الغربيون يهربون من اتخاذ اي مواقف جدية دعما للمعارضة وقوات الثورة السورية، ليس بسبب الاسباب المعلنة مثل ضعف المعارضة وانقساماتها وتناسل فصائلها، وانما من منطلق الخوف من السقوط في مستنقع دموي لا يمكن الخروج منه بسهولة.
وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس هد�'د بان الرد الغربي سيكون ساحقا في حال استخدام النظام السوري اسلحة كيماوية وبيولوجية ضد قوات الجيش الحر�'. النظام السوري اكد انه لن يستخدم هذه الاسلحة، ولكن الانطباع الذي يتبادر الى ذهن اي انسان يستمع الى هذه التهديدات، ان القتل بالاسلحة التقليدية مقبول اما بالاسلحة الكيماوية فهو خط احمر!
الثقة التي ابداها الرئيس بشار الاسد اثناء مقابلته مع قناة الدنيا، ولهجة التحدي التي عبر عنها في اجاباته ربما تعود الى معرفته بالمخاوف العميقة لدى القادة الغربيين من مخاطر التدخل في سورية.
الغرب، وبعض العرب، صع�'دوا آمال المعارضين السوريين بإظهار استعدادهم للتدخل على غرار ليبيا، ثم قطعوا بهم الحبل وهم في منتصف الطريق. ( و.ع)