آيات تدعو المؤمنين إلى الذكر و التسبيح و تبشرهم و تعدهم الوعد الجميل و تخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بصفاته الكريمة و تأمره أن يبشر المؤمنين و لا يطيع الكافرين و المنافقين، و يمكن أن يكون القبيلان مختلفين في النزول زمانا.
قوله تعالى: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا" الذكر ما يقابل النسيان و هو توجيه الإدراك نحو المذكور و أما التلفظ بما يدل عليه من أسمائه و صفاته فهو بعض مصاديق الذكر.
قوله تعالى: "و سبحوه بكرة و أصيلا" التسبيح هو التنزيه و هو مثل الذكر لا يتوقف على اللفظ و إن كان التلفظ بمثل سبحان الله بعض مصاديق التسبيح.
و البكرة أول النهار و الأصيل آخره بعد العصر و تقييد التسبيح بالبكرة و الأصيل لما فيهما من تحول الأحوال فيناسب تسبيحه و تنزيهه من التغير و التحول و كل نقص طار، و يمكن أن يكون البكرة و الأصيل معا كناية عن الدوام كالليل و النهار في قوله: "يسبحون له بالليل و النهار": حم السجدة: 38.
قوله تعالى: "هو الذي يصلي عليكم و ملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور" المعنى الجامع للصلاة على ما يستفاد من موارد استعمالها هو الانعطاف فيختلف باختلاف ما نسب إليه و لذلك قيل: إن الصلاة من الله الرحمة و من الملائكة الاستغفار و من الناس الدعاء لكن الذي نسب من الصلاة إلى الله سبحانه في القرآن هو الصلاة بمعنى الرحمة الخاصة بالمؤمنين و هي التي تترتب عليها سعادة العقبى و الفلاح المؤبد و لذلك علل تصليته عليهم بقوله: "ليخرجكم من الظلمات إلى النور و كان بالمؤمنين رحيما".
و قد رتب سبحانه في كلامه على نسيانهم له نسيانه لهم و على ذكرهم له ذكره لهم فقال: "نسوا الله فنسيهم": التوبة: 67، و قال: "فاذكروني أذكركم": البقرة: 125 و تصليته عليهم ذكر منه لهم بالرحمة فإن ذكروه كثيرا و سبحوه بكرة و أصيلا صلى عليهم كثيرا و غشيهم بالنور و أبعدهم من الظلمات.
و من هنا يظهر أن قوله: "هو الذي يصلي عليكم" إلخ، في مقام التعليل لقوله: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا" و تفيد التعليل أنكم إن ذكرتم الله كثيرا ذكركم برحمته كثيرا و بالغ في إخراجكم من الظلمات إلى النور و يستفاد منه أن الظلمات إنما هي ظلمات النسيان و الغفلة و النور نور الذكر.
و قوله: "و كان بالمؤمنين رحيما" وضع الظاهر موضع المضمر، أعني قوله: "بالمؤمنين" و لم يقل: و كان بكم رحيما، ليدل به على سبب الرحمة و هو وصف الإيمان.
قوله تعالى: "تحيتهم يوم يلقونه سلام و أعد لهم أجرا كريما" ظاهر السياق أن "تحيتهم" مصدر مضاف إلى المفعول أي إنهم يحيون - بالبناء للمفعول - يوم يلقون ربهم من عند ربهم و من ملائكته بالسلام أي إنهم يوم اللقاء في أمن و سلام لا يصيبهم مكروه و لا يمسهم عذاب.
و قوله: "و أعد لهم أجرا كريما" أي و هيأ الله لهم ثوابا جزيلا.
قوله تعالى: "يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا و مبشرا و نذيرا" شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم) على الأعمال أن يتحملها في هذه النشأة و يؤديها يوم القيامة و قد تقدم في قوله: "لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا": البقرة: 121، و غيره من آيات الشهادة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد الشهداء.
و كونه مبشرا و نذيرا تبشيره المؤمنين المطيعين لله و رسوله بثواب الله و الجنة و إنذاره الكافرين و العاصين بعذاب الله و النار.
قوله تعالى: "و داعيا إلى الله بإذنه و سراجا منيرا" دعوته إلى الله هي دعوته الناس إلى الإيمان بالله وحده، و لازمه الإيمان بدين الله و تقيد الدعوة بإذن الله يجعلها مساوقة للبعثة.
و كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) سراجا منيرا هو كونه بحيث يهتدي به الناس إلى سعادتهم و ينجون من ظلمات الشقاء و الضلالة فهو من الاستعارة، و قول بعضهم: إن المراد بالسراج المنير القرآن و التقدير ذا سراج منير تكلف من غير موجب.
قوله تعالى: "و بشر المؤمنين بأن لهم من الله فضلا كبيرا"، الفضل من العطاء ما كان من غير استحقاق ممن يأخذه و قد وصف الله عطاءه فقال: "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها": الأنعام: 106، و قال: "لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد": ق: 35، فبين أنه يعطي من الثواب ما لا يقابل العمل و هو الفضل و لا دليل في الآية يدل على اختصاصه بالآخرة.
قوله تعالى: "و لا تطع الكافرين و المنافقين و دع أذاهم و توكل على الله" إلخ، تقدم معنى طاعة الكافرين و المنافقين في أول السورة.
و قوله: "و دع أذاهم" أي اترك ما يؤذونك بالإعراض عنه و عدم الاشتغال به و الدليل على هذا المعنى قوله: "و توكل على الله" أي لا تستقل بنفسك في دفع أذاهم بل اجعل الله وكيلا في ذلك و كفى بالله وكيلا.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن ابن القداح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ما من شيء إلا و له حد ينتهي إليه إلا الذكر فليس له حد ينتهي إليه فرض الله عز و جل الفرائض فمن أداهن فهو حدهن و شهر رمضان فمن صامه فهو حده و الحج فمن حج فهو حده إلا الذكر فإن الله عز و جل لم يرض منه بالقليل و لم يجعل له حدا ينتهي إليه ثم تلا: "يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا - و سبحوه بكرة و أصيلا" فقال: لم يجعل الله له حدا ينتهي إليه. قال: و كان أبي كثير الذكر لقد كنت أمشي معه و إنه ليذكر الله و آكل معه الطعام و إنه ليذكر الله و لقد كان يحدث القوم ما يشغله ذلك عن ذكر الله و كنت أرى لسانا لازقا بحنكه يقول: لا إله إلا الله. و كان يجمعنا فيأمرنا بالذكر حتى تطلع الشمس و يأمر بالقراءة من كان يقرأ منا و من كان لا يقرأ منا أمره بالذكر، و البيت الذي يقرأ فيه القرآن و يذكر الله عز و جل فيه يكثر بركته و يحضره الملائكة و يهجره الشياطين و يضيء لأهل السماء كما يضيء الكوكب لأهل الأرض و البيت الذي لا يقرأ فيه القرآن و لا يذكر الله يقل بركته و يهجره الملائكة و يحضره الشياطين. و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لا أخبركم بخير أعمالكم أرفعها في درجاتكم و أزكاها عند مليككم و خير لكم من الدينار و الدرهم و خير لكم من أن تلقوا عدوكم فتقتلوهم و يقتلوكم؟ فقالوا: بلى. قال: ذكر الله عز و جل كثيرا. ثم قال: جاء رجل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: من خير أهل المسجد؟ فقال: أكثرهم لله ذكرا. و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من أعطي لسانا ذاكرا فلقد أعطي خير الدنيا و الآخرة. و قال في قوله تعالى: "و لا تمنن تستكثر" قال: لا تستكثر ما عملت من خير لله. و فيه، بإسناده عن أبي المعزى رفعه قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): من ذكر الله في السر فقد ذكر الله كثيرا إن المنافقين كانوا يذكرون الله علانية و لا يذكرونه في السر فقال الله عز و جل: "يراءون الناس و لا يذكرون الله إلا قليلا". أقول: و هو استفادة لطيفة.
و في الخصال، عن زيد الشحام قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): ما ابتلي المؤمن بشيء أشد عليه من ثلاث خصال يحرمها. قيل: و ما هي؟ قال: المواساة في ذات يده، و الإنصاف من نفسه، و ذكر الله كثيرا. أما إني لا أقول: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر و إن كان منه و لكن ذكر الله عند ما أحل له و ذكر الله عند ما حرم عليه.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و البيهقي عن أبي سعيد الخدري: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل أي العباد أفضل درجة عند الله يوم القيامة؟ قال: الذاكرون الله كثيرا. قلت: يا رسول الله و من الغازي في سبيل الله؟ قال: لو ضرب بسيفه في الكفار و المشركين حتى ينكسر و يختضب دما لكان الذاكرون الله أفضل درجة منه.
و في العلل، بإسناده عن عبد الله بن الحسن عن أبيه عن جده الحسن بن علي (عليهما السلام) قال: جاء نفر من اليهود إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله أعلمهم فيما سأله فقال: لأي شيء سميت محمدا و أحمد و أبا القاسم و بشيرا و نذيرا و داعيا؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أما الداعي فإني أدعو الناس إلى دين ربي عز و جل، و أما النذير فإني أنذر بالنار من عصاني، و أما البشير فإني أبشر بالجنة من أطاعني.
الحديث.
و في تفسير القمي،: في قوله: "يا أيها النبي إنا أرسلناك إلى قوله و دع أذاهم و توكل على الله و كفى بالله وكيلا" أنها نزلت بمكة قبل الهجرة بخمس سنين