ولد الشيخ مبارك بن محمّد بن صالح بعداش عام 1935م في منطقة " قنا " التابعة لمدينة " قبلّي " في دولة تونس ، وترعرع في أحضان عائلة ملتزمة ومحافظة تعتنق المذهب المالكي.
تشرّف بالانتماء إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في عقد الثمانينات بعد حوارات عديدة أجراها مع العلماء والأساتذة، وبعد دراسات معمقة إندفع إليها لمعرفة الحقّ.
السيرة الحسنة وبلورة الفكر:
يقول الشيخ مبارك بعداش: " كنت أعيش في أجواء أسرة دينية محافظة بحيث ترك هذا الأمر الأثر البالغ في توجّهي الديني، ودفعني منذ صغري أن أكون مقيماً للصلاة ومداوماً على صيام شهر رمضان، كما أنّني التحقت في وقت مبكر بحلقات دروس القرآن الكريم، وكان لهذا الأمر الدور الكبير في بلورة فكري وسلوكي نحو الاتجاه الديني، رغم أنّ الأجواء التي كان يعيشها بلدنا تسير نحو الانحراف، وذلك بسبب الاستعمار الفرنسي المقيت الذي سعى لسلخ بلدنا عن هويته العربية والإسلامية، والذي فشل في نهاية المطاف ونبذ خارج البلاد، لكنة خلّف في ساحتنا الإسلامية رواسب فكرية جعلت مجتمعنا يعاني منها بعد ذلك.
الانجراف مع التيار القومي:
بعد إتمامي للدراسة الإعدادية شجعني والدي على الالتحاق بالمعهد الثانوي في جامع الزيتونة، فلبّيت طلبه وقضيت مدّة سبع سنوات في ذلك المعهد حتى تخرّجت منه عام 1957م بحصيلة تاريخية وفقهية وثقافية يعتد بها، وكنت ذلك الحين في ريعان شبابي، وتزامنت هذه الفترة مع حركة التحرّر العربي والمدّ القومي الذي إجتاح الساحة حتى هيمن على عواطفي وأحاسيسي فأصبحت من المتحمسين والمؤيدين له، واستمر هذا الحال إلى أواخر الستينات حتى إلتقيت بــ "راشد الغنوشي أحد الحركيين الإسلاميين البارزين في شمال قارة افريقيا، إذ كان عائداً لتوه من سوريا وهو يحمل معه أفكاراً جديدة لاتلتقي مع ما كنت عليه من أفكار.
الإعجاب بحركة الأخوان:
وبحكم رابطة الصداقة التي كانت بيني وبين الغنوشي جلسنا معاً حتى دار الحديث حول ما يخص بلدنا، فتباحثنا معاً حول أفضل أسلوب وأفضل خط فكري بوسعه أن ينتشل أمّتنا من التدهور الذي تعاني منه، فوجدت فكره ومنهجه أفضل من الرؤى المادية التي أنا عليها، لأنّه كان يدعو إلى الله تعالى متبنياً للأطروحة الإسلامية، في حين كنت أدعو إلى تمجيد شخصيات كانت أفكارها محدودة وذو أبعاد ضيقة، فدعاني الأستاذ راشد للانضمام إلى حركة أخوان المسلمين، فقبلت ذلك وأصبحت أحد أعضائها الناشطين والمتميزين، وكنت أتصوّر أنّ الدين كله متمثل بهذا التنظيم، وأنّ أفكار " حسن البنا " و " السيد قطب " و " الشيخ المودودي " فريده في ذاتها، والأطروحة التي ليس لها مثيل في الساحة الإسلامية المعاصرة!.
ولكنني بعد فترة اطلعت على نقاط ضعف كثيرة في هذه الحركة كانت محفزة لابتعادي عنها، حيث وجدتها حركة مهتمة بالبعد الثقافي أكثر من أهتمامها بالبعد الروحي للشريعة الإسلامية، ومما زاد بعدي عنها طريقة تعامل قيادتها معنا، فهم يسكنون خارج تونس ومع ذلك كانوا يعممون أفكارهم التي لا تنسجم مع الأجواء التي كنا نعيشها ولايسمحون لنا بنقدها!.
التوجّه نحو التصوّف:
وبالفعل بدأت أنسحب من حركة الأخوان بشكل تدريجي غير ملفت للنظر، وكنت خلال هذه الفترة أبحث عمّا يشبع روحي ويروي ظمأي ويوقظ فطرتي ويجعل وجداني ممتلىء بشهود الله تعالى، فصممت أن أتوجه إلى التصوف لأسد هذا الفراغ الروحي الذي كنت أُعاني منه، فسافرت إلى مدينة " توزر " وإلتقيت بــ "الشيخ إسماعيل الهادفي" زعيم الجماعة المدنية، فجلسنا معاً وتحاورنا حول بعض المسائل الدينيّة، وتلقيت من أتباعه منهجهم الديني، ولكن بعد عودتي إلى مدينة " قفصة " التي كنت مقيماً فيها، تأملت في التصوّف فوجدته عبارة عن عمل دائري يدور على نفسه، ويعود من حيث يبدأ! فخاب أملي فيه.
الاطّلاع على حقائق تاريخية:
بعد ذلك صادف أن إلتقيت بأحد الشباب المؤمنين، فدار حديث بيّننا حول الوضعية الاجتماعية لحركة أخوان المسلمين؟
فقلت له: لا علم لي بهم منذ فترة.
ثم سألني عن وضعي النفسي؟
فقلت له: إنّني لا أشعر بارتياح وأنا ضجر من الحالة التي نعيشها.
فقال لي: هناك جماعة تسمى جماعة أهل البيت، فلماذا لا تذهب إليهم وتتعرف عليهم لعلك تجد بغيتك عندهم.
فتأملت في كلامه! وقلت في نفسي: إنّ أهل البيت (عليهم السلام) يمثلون فكرة تاريخية تراثية، برزت في العصر الإسلامي الأوّل ولم يكتب لها البقاء، وإنّ الإمام عليّ وفاطمة الزهراء والحسن والحسين (عليهم السلام) هم كباقة زهور فوق منضدة الإسلام، ولم أتصور أنّ لهم إمتداداً حيّاً إلى يومنا هذا!، ولكن لا بأس أن أتعرف عليهم بصورة مباشرة لأرى ماهم عليه.
وبالفعل أخذني ذلك الشاب إلى أحد أصدقائه فدعانا إلى تناول طعام العشاء في منزله، واتصل هاتفياً بعدد من أصدقائه ليحضروا المأدبة على شرفي، فلبيت الدعوة.
بعد تناول وجبة العشاء جلسنا معاً نتجاذب أطراف الحديث، فسألني أحدهم عن اختصاصي في مجال العلوم الإسلامية؟
فقلت له: أنّا ملم بالسيرة، وقد بذلت جهدي لإتقانها ودراستها بصورة معمّقة.
فقال لي: بودّي أن أسألك عن ثلاثة أسئلة حول السيرة؟
قلت له: إسأل.
فقال لي: أين ترك رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) أبنته فاطمة الزهراء(عليها السلام) حينما هاجر إلى المدينة؟
فكرت في الإجابة، فلم أجد جواباً لسؤاله!، وراجعت ذاكرتي فلم أجد في الكتب التي قد قرأتها أي خبر في هذا المجال، فكل ما ذكر في هذا المقطع التاريخي يرتبط بعائشة وأسماء إبنتي أبي بكر.
فقال لي: إن تريد الواقع، إنّ عدم ذكر هذا الأمر هو دليل على بتره، فإنّ مدوّني التاريخ والسيرة ديدنهم عدم تسليط الأضواء على الأمور المرتبطة بعترة الرسول (عليهم السلام) ، لكونهم تبعاً للحكّام الذين حاولوا إخفاء ما يمنح أهل البيت (عليهم السلام) فضلاً أو منقبة!.
فلم أجد جواباً أستند إليه لردّ مدّعاه، وقلت: هذا الموضوع غير مهم جداً، هات سؤالك الآخر؟
فقال لي: هل تعلم كيف خرج الإمام عليّ (عليه السلام) من مكة بعد أن أدى أمانات وودائع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم)؟ وهل تعلم مع من هاجر؟ وكيف دخل المدينة المنورة؟
راجعت مرّة أخرى ذاكرتى فلم أجد فيها ما يحضر ببالي من كتب السيرة والتاريخ ما ذكر في هذا المجال، فإنّ الأضواء كلّها كانت مركزة على غيره من النساء والصبيان والعبيد، ولم يذكر التاريخ الذي طالعته شيئاً يرتبط بالإمام عليّ (عليه السلام) في هذا الخصوص بشكل لائق، سوى ما ورد أنّه أدّى الودائع وخرج بعد ثلاثة أو أربعة أيام، وأمّا كيفية خروجه ومن خرج معه وما جرى عليه فلم أجد له تفصيلا يذكر!
وكاد رأسي يتصدّع، لأنّه السؤال الثاني الذي لم أجب عليه.
فذكر ذلك الشخص مرّة أخرى مسألة وجود البتر في تدوين السيرة!.
فقلت له: إنّ هذا الأمر يحتاج إلى تتبع ودراسة، وقد يكون كما تقول، فإنّني سوف أبحث عن ذلك في ما بعد، ولكن هات سؤالك الثالث؟
فقال: سؤالي الثالث يرتبط أيضاً بهذا المجال، ويؤكّد ما ذكرته إليك بأنّ معظم مدوّني السيرة لم يكتبوا السيرة بصورة كاملة، بل دوّنوا منها ما كان يتلائم مع أهوائهم ومأربهم، وسؤالي هو: هل تعلم سبب بقاء رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) في " قبا " وهي على مشارف المدينة، في حين كان المسلمون من الأنصار والمهاجرين يخرجون كلّ يوم ـ رغم حرارة الجوّ ـ ينتظرون مجيء النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، فهل تعلم أي داع دعى النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) لذلك؟
هنا أيضا وجدّت كتب التاريخ والسيرة لم تشر إلى هذا الأمر، فقلت له: لا يوجد على ما في بالي ذكراً في الكتب التي قرأتها في هذا الخصوص!.
فقال لي: هل تعرف سبب ذلك؟
فحرت بالجواب، وأسقط ما في يدي، وأصبحت رجلاي لاتحملاني!.
وهنا أشار إليّ بالبتر من جديد.
فعرفت أنّ معلوماتي ملفقة وناقصة، فجلست أمام هذا الشاب كالتلميذ لأصغي إلى كلامه، فكانت إجاباته قوّية مؤيدة بالمصادر التاريخية للفريقين، فعجبت من التزييف الذي طال هذا الموضوع! كما طال غيره أيضاً كالحديث والتفسير والفقه و... ".
وحيث أنّ هجرة النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كانت تمثلّ منعطفاً مصيرياً في مسيرة الإسلام، حاولت الأقلام أن تسلّط عليها الأضواء بشكل مكثّف، فأشاروا في تبيينها إلى من يهيء الراحلة للنبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، وعلى من يحمل له الطعام، والمرأة التي يمر عليها في طريقه، والذي يقصّ أثره ويتبعه لينال الجائزة و...، في حين نرى أنّهم لم يذكروا ما يعتدّ به حول وصيّه الإمام عليّ (عليه السلام) ، الذي هو منه بمنزلة النفس ، والمؤدي عنه أماناته، والفادي له بنفسه!.
ومهما يكن من أمر فإنّ الحقائق أكبر من أن تحجب، خصوصاً وقد أنّزل الله تعالى في كتابه ما يؤكدها، كقوله تعالى: (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللهِ وَاللهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ) ، إشارة إلى الإمام عليّ (عليه السلام) ليلة مبيته في فراش النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)، حتى أنّ الله تعالى باهى به ملائكة السماء! حيث ورد أنّه تعالى أوحى إلى جبرائيل وميكائيل: " إنّي آخيت بينكما، وجعلت عمر أحدكما أطول من الآخر، فأيكما يؤثر صاحبه بالحياة؟ فاختار كلاهما الحياة، فأوحى الله إليهما: ألا كنتما مثل عليّ بن أبي طالب، آخيت بينه وبين محمّد(صلى الله عليه وآله وسلم)فبات على فراشه يفديه بنفسه ويؤثره بالحياة؟! إهبطا إلى الأرض فاحفظاه من عدوه، فنزلا، فكان جبرئيل عند رأسه، وميكائيل عند رجليه، وجبرئيل ينادي: بخّ بخّ! من مثلك يا بن أبي طالب، يباهي الله عزّوجلّ به الملائكة.
وأنزل الله عزّوجلّ على رسوله(صلى الله عليه وآله وسلم)وهو متوجّه إلى المدينة في شأن عليّ (عليه السلام) : (وَمِنَ النّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ...) " .
( أنظر: أسد الغابة لابن الأثير: 4 / 25، تاريخ اليعقوبي: 2 / 39، شواهد التنزيل للحسكاني: 1 / 96 (133)، التفسير الكبير للرازي: 2 / 350، وقد ذكر السيد جعفر مرتضى العاملى في الصحيح من سيرة النبيّ الأعظم(صلى الله عليه وآله وسلم): 4 / 33 ـ 35 جملة من المصادر التي تروي ذلك فراجع ) .
هجرة الإمام عليّ (عليه السلام) إلى المدينة:
تبدأ خطوات هجرة الإمام عليّ بن أبي طالب(صلى الله عليه وآله وسلم) بعد مبيته في فراش النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بخروجه من مكّة جهاراً متحدّياً لكبرياء قريش ومرغماً لأنوفها، ليوصل ودائع النبوّة ـ ضعينة الفواطم ـ إلى رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بسلام.
والعجيب! ماروى بعض العامة عن الإمام عليّ (عليه السلام) ، أنّه قال: " ما علمت أحداً هاجر إلاّ مختفياً، إلاّ عمر بن الخطّاب! فإنّه لمّا همّ بالهجرة تقلّد سيفه وتنكب بقوسه وانتضى بيديه أسهماً، واختصر في عنزته، ومضى قبل الكعبة والملأ من قريش بفنائها، فطاف بالبيت سبعاً متمكّناً، ثم أتى المقام فصلى متمكّناً، ثم وقف على الحلق واحدة واحدة، فقال لهم: شاهت الوجوه، لايرغم الله إلاّ هذه المعاطس، من أراد أن تثكله أمّه أو يؤتم ولده أو يرمّل زوجته، فليلقني وراء هذا الوادي ـ وقال ـ: فما تبعه أحد " .
( أنظر: تاريخ ابن عساكر: 44 / 51، السيرة الحلبية للحلبي: 2 / 184، وأشار إلى ذلك الشبلنجي في نور الأبصار: 91، حياة الصحابة للكاندهلوي: 2 / 65 ).
فمدونوا التاريخ رغم أنّهم قصّروا في حقّ الإمام عليّ (عليه السلام) ، نجدهم في قبال ذلك قد عظّموا بعض الرجال ونسبوا إليهم مواقف بطولية لا حقيقة لها في أرض الواقع كما في هذا الحديث.
شخصيّة عمر بن الخطّاب الحقيقية:
إنّ المتتبّع للتاريخ الإسلامي يكتشف أنّ عمر لم يسلم إلاّ قبل الهجرة بقليل، خائفاً مختبئاً في داره، حتى جاءه العاص بن وائل السهمي وتحدث معه وسأله عن حاله، فقال عمر: زعم قومك أنّهم سيقتلونني إن أسلمت، فقال العاص:
لاسبيل إليك!
( أنظر: صحيح البخاري: 3 / 1403 (3651)، تاريخ الإسلام للذهبي: 2 / 104، السيرة الحلبية للحلبي: 1 / 332 ).
فبالله عليك! إنّ من يختبىء في دراه ويخشى الناس، ويستجير بالكافرين لحمايته، هل يقال عنه: أنّه أعزّ الإسلام عند إسلامه، أو أنّه خرج متحدّياً قريشاً في هجرته؟!.
وإن صحّ ما قيل عنه بخروجه الشجاع، فأين تلك البطولة حينما أرسله النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مشركي مكّة في الحديبية ليؤدّي عنه رسالته؟!
فقد ورد أنّه قال: "إنّي أخاف قريشاً على نفسي، وليس بمكة من عدي أحد يمنعني " وأشار على النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) بإرسال عثمان لهم! .
( أنظر: مسند أحمد: 4 / 324، تاريخ ابن عساكر: 39 / 78، البداية والنهاية لابن كثير: 4 / 129، تاريخ الطبري: 2 / 631 ).
ومن الأمور التي تكشف عن مدى شجاعة عمر وثباته، مارواه الزمخشري: " من أنّ أنس بن مدركة كان قد أغار على سرح قريش في الجاهلية، فذهب به، فقال له عمر في خلافته: لقد اتّبعناك تلك الليلة، فلو أدركناك؟ فقال: لو أدركتني لم تكن للناس خليفة "!
( أنظر: ربيع الأبرار: 1 / 707 )
وهي كناية ظريفة عن الفتك به وقتذاك.....!!!
ومن مواقفه أيضاً، إنّ الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) لمّا استشار أصحابه حول حرب بدر، قال عمر لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): " إنّها قريش وخيلاؤها، ما آمنت منذ كفرت، وما ذلّت منذ عزّت... "(4)، فأعرض عنه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) كما أعرض عن أبي بكر الذي كان له رأي مماثل لرأي صاحبه .
( أنظر: المغازي للواقدي: 1 / 48، السيرة الحلبية للحلبي: 2 / 386، الدر المنثور للسيوطي: 3 / 166 ، وانظر : أنظر: صحيح مسلم، باب غزوة بدر: 3 / 1403 (1779)، مسند أحمد: 3 / 219 (13320) ).
وأمّا في يوم أحد ما كان من عمر إلاّ الانهزام! ففرّ مع كبار الصحابة من ساحة الحرب، مخلفين رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وحيداً لايذب عنه إلاّ أخاه ووصيه الإمام عليّ (عليه السلام) ونفر ممن جاء بعد ذلك، وقد غمزه النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديبية فقال له: " أنسيتم يوم أحد! إذ تصعدون ولاتلوون على أحد، وأنا أدعوكم في أخراكم " .
( أنظر: المغازي للواقدي: 2 / 609، شرح النهج لابن أبي الحديد: 15 / 24 ).
ولو ثبتت شجاعة عمر في الميادين ـ على اختلافها ـ لما كان يقرّ على نفسه بالفرار قائلاً: " لمّا كان يوم أحد هزمنا، ففررت حتى صعدت الجبل، فلقد رأيتني أنزو كأنني أروى " ...!.
( أنظر: الدر المنثور للسيوطي: 2 / 88، كنز العمال: 2 / 376 (4291)، شرح النهج لابن أبي الحديد: 15 / 22، وقد ذكره بلفظ آخر ) .
وكذا عندما جاءته امرأة مسلمة ومعها بنت لعمر ـ أيام خلافته ـ تطلبان برداً من أبراد كانت بين يديه، فأعطى المرأة وردّ إبنته، فقيل له في ذلك؟ فقال: " إنّ أبا هذه ثبت يوم أحد، وأبا هذه فرّ يوم أحد ولم يثبت "(4)!.
وقد سجل هروبه هذا جمع من أعلام العامة ـ على اختلاف مشاربهم ـ كالجاحظ ، والسيوطي ، والشوكاني ، فضلا عن الذين ذكروا من ثبت عند النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) ولم يوردوا اسم عمر.
فهذه المواقف تبين شخصية عمر بوضوح وإن حاول البعض أن يبرروا ذلك، كالفخر الرازي الذي قال حول المنهزمين يوم أُحد: " ومن المنهزمين عمر، إلاّ أنّه لم يكن في أوائل المنهزمين ولم يبعد، بل ثبت على الجبل إلى أن صعد النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)! " .
( أنظر: التفسير الكبير: 9 / 51 ).
والجدير بالذكر أنّ الذي ينظر في التاريخ لايجد أنّ عمر أصيب بجرح، أو أنّه جرح أحداً، بل الجميع يقرّ بعدم امتلاكه المواقف البطولية في ساحة الحرب، وكل ما في الأمر أنّه فرّ في أُحد وخيبر وحنين، ولم يسجل له في حروب وغزوات رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) موقف يعتد به!.
وعلى العموم لم تكن مواقف الرجل مشجعة حتى يعقل تحدّيه لقريش حين خروجه من مكة إلى المدينة، وواقع الأمر أنّ هذا التحدي كان من قِبل الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، الذي شهدت له العرب بذلك قبل وبعد استضاءتها بنور الإسلام.
فسأل بدراً واسأل أُحداًوسل الأحزاب وسل خيبر
لكن أعداء الإمام عليّ (عليه السلام) لم يتحملوا أن يروا مناقبه تزدهر في سماء المجد، فنسبوها إلى غيره!.
علّة تأخّر دخول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) للمدينة:
إنّ سبب بقاء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في " قبا " قد بيّنه(صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر حينما وجده يصر على الدخول في المدينة، بقوله: " ما أنا بداخلها حتى يقدم ابن أمّي وأخي، وإبنتي " .
( أنظر: الفصول المهمة لابن الصباغ المالكي: 52، السيرة النبويّة لابن هشام: 2 / 138، أمالي الشيخ الطوسي: 469 (1031)، اعلام الورى للطبرسي: 1 / 153، بحار الأنوار للمجلسي: 19 / 106 و116، الروضة في الكافي للكليني: 8 / 340 (536) )!.
فالإمام عليّ (عليه السلام) هاجر بمسمع ومرأى من قريش، وكان الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد ترك الزهراء(عليها السلام) عند فاطمة بنت أسد أم عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) ، فلمّا هاجر الإمام عليّ أخذ الفواطم معه تنفيذاً لوصية الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم)، والفواطم هنّ: أمّه فاطمة بنت أسد (رضي الله عنها)، وإبنة رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) فاطمة الزهراء(عليها السلام)، وفاطمة بنت حمزة بن عبد المطلب، وفاطمة بنت الزبير ـ على ما روي ـ وتبعهم أيمن ابن أم أيمن وأبو واقد فجعل يسوق بالرواحل فأعنف بهم، فأمره أمير المؤمنين (عليه السلام) بالرفق، فاعتذر بخوفه من الطلب، وقد أدركه الطلب قرب " ضجنان "، فكانوا سبعة فرسان وثامنهم جناح مولى الحارث بن أميّة، فأقبل عليهم الإمام عليّ(صلى الله عليه وآله وسلم)منتضياً سيفه، فطلبوا منه الرجوع، فقال: فإن لم أفعل؟ قالوا: لترجعن راغماً أو لنرجعن بأكثرك شعراً، وأهون بك من هالك.
ولما دنوا من الرواحل ليثيروها حال (عليه السلام) بينهم وبينها، فأهوى جناح بسيفه عليه، فراغ الإمام عليّ (عليه السلام) عن ضربته وضربه على عاتقه، فمضت الضربة حتى كادت تمس كاثبة فرسه! وشدّ على الباقين وهو يرتجز ويقول:
خلّوا سبيل الجاهد المجاهدآليت لا أعبد غير الواحد
فتفرقوا عنه، وقالوا: أغن عنا نفسك يابن أبي طالب!، فقال (عليه السلام) : فإنّي منطلق إلى ابن عمي رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) بيثرب، فمن سره أن أفري لحمه وأريق دمه، فليتبعني، أو فليدن مني...
ثم توجه بمن معه صوب النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) حتى وصل إلى " قبا "، ولمّا بلغه(صلى الله عليه وآله وسلم)وصول أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: أدعوا لي عليّاً، قيل: يا رسول الله لايقدر أن يمشي! فأتاه(صلى الله عليه وآله وسلم) بنفسه، فلمّا رآه اعتنقه وبكى عليه رحمة لما بقدميه من الورم، وكانتا تقطران دماً، وقال(صلى الله عليه وآله وسلم) لعليّ (عليه السلام) : يا عليّ، أنت أوّل هذه الأمة إيماناً بالله ورسوله، وأوّلهم هجرة إلى الله ورسوله، وآخرهم عهداً برسوله، لايحبّك ـ والذي نفسي بيده ـ إلاّ مؤمن قد إمتحن قلبه للإيمان، ولايبغضك إلاّ منافق أو كافر .
( أنظر: الامالي للطوسي: 471 (1031) بحار الأنوار للمجلسي: 19 / 64 ـ 67، تفسير البرهان للبحراني: 1 / 332، المناقب لابن شهراشوب: 1 / 183 و 184، أمتاع الاسماع للمقريزي: 1 / 48 ).
الانتماء لمذهب أهل البيت (عليهم السلام) :
يقول الشيخ مبارك بعداش: " لقد أذهلتني هذه الحقائق، وجعلتني أتساءل في نفسي: لماذا هذا التعتيم على دور الإمام عليّ (عليه السلام) ؟! ولماذا هذا الإخفاء لذكر فاطمة الزهراء(عليها السلام)؟! ثم لماذا هذه التغطية على مكانة الإمام (عليه السلام) عند النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم)؟!.
وحسب ـ جميع مطالعاتي ـ لم أرى من ذكر أنّ الإمام عليّ (عليه السلام) دخل مع النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فالجميع يذكرون أبا بكر فقط، كما طرأ في ذهني سؤال آخر: وهو أنّ وصول النبيّ(صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة المنورة إذا كان في شهر ربيع الأوّل، فلماذا نعتبر العام الهجري من أوّل شهر محرّم؟!.
وهكذا إنقدحت في ذهني أسئلة كثيرة لم أجد لها في كتبنا ـ أبناء العامة ـ ولاعند علمائنا جواباً، فبقيت حائراً أبحث عن مخرج لها، وأدركت أن لامخرج من هذه الدوامة إلاّ بالبحث والمطالعة والاستقصاء، فشمرت عن سواعد الجدّ وخضت في عباب القراءة لأصل إلى الحقيقة ".
وبالفعل بادر الشيخ مبارك إلى هذا الأمر، وقد تنبّه صديقه راشد الغنوشي إلى تحوله التدريجي، فلمّا سمع بأنّه إنتمى إلى التشيع أسرع إلى زيارته.
فيقول الشيخ مبارك بعداش: " جاء راشد الغنوشي إلى منزلنا بعد أن تشيّعت فلم يجدني، وبحكم الصداقة القوية التي بيني وبينه، دعاه من في الدار للدخول إلى المكتبة والانتظار ريثما أعود، فدخل هو وأحد أصدقاءنا إلى المكتبة، وأخذا يتأملان في الكتب ويبحثان لعلهما يجدان عندي كتباً شيعية، فلم يجدا شيئاً من هذا القبيل، ثم سألا زوجتي! هل حدّثك الشيخ عن معتقد جديد؟.
فقالت لهما: لم أسمع منه شيئاً بخصوص ذلك، إلاّ أنّه كان في الفترة الأخيرة كثير المطالعة والتتبع.
وبعودتي إلى المنزل إلتقيت بهما، فقال لي راشد: هنئنا! هل تشيعت؟
فقلت له: إنني أسالك عن ثلاثة أمور فإن أجبتني عنها تخليت عن التشيع.
فقال: لاأريد أسئلتك لأنّنا لانستطيع أن نجاري الشيعة في النقاش والحوار، فهم حزب قد شيدوا معتقدهم وأحكموا بناءه منذ زمن قديم، ولهم تاريخ حافل من أيام الإمام عليّ (عليه السلام) !.
فاستغربت من جوابه! وكان اعترافه هذا محفّزاً لتمسكي بالتشيع، وذلك لأنّني كنت أظن أنّ الشيعة أضعف منّا، وإذا برائد حركة الأخوان في تونس يقرّ بضعف العامة ـ قديماً وحديثاً ـ أمام الإمامية، فوجدت من غير اللائق لأيّ عاقل أن يتسلح بالعصا ويترك السيف!.
ومن ذلك الحين منّ الله تبارك وتعالى علىّ بالاهتداء إلى مذهب العترة (عليهم السلام) ، فتشرفت باعتناق مذهب أهل البيت (عليهم السلام) في عقد الثمانينات في بلادي تونس، بعد عناء وجهد مكثف بذلته في المطالعة والبحث ".
ويضيف الشيخ مبارك قائلا: " أنا اليوم بحمد الله تعالى أعمل قدر وسعي مع إخواني المؤمنين على نشر مذهب أهل البيت (عليهم السلام) ، وقد وفقنا الله تعالى إلى حدّ ما في جذب الكثير إلى مذهب أهل البيت (عليهم السلام) من خلال التوعية والتبليغ".