اذكر اني قبل فترة ليست بالقصيرة قرات مقال يتحدث فيه صاحبه عن لقاء دار بين صدام والسفير البريطاني , حاول فيه صدام الطلب من السفير التدخل لدى حكومته لوقف حملات اعلامية كانت صحف واعلام بريطانيا تشنها ضد النظام , يقول الكاتب ان السفير استغرب ايما استغراب من طلب صدام هذا (والذي ينم عن جهل بطبيعة وسياق نظام الحكم الديمقراطي ) وحاول قدر الامكان الاعتذار منه وبطريقة دبلوماسية , موضحا له ان حكومة بلاده لا يمكنها بأي شكل من الاشكال ولا بأي طريقة من الطرق التدخل في صميم العمل الاعلامي والصحفي او التأثير عليه , لانه وبكل بساطة , مؤسسة مستقلة وغير تابعة للحكومة, بالمقابل يذكر الكاتب ان صدام استغرب كثيرا من كلام السفير , وقال بعد مغادرة السفير (لا خير في امة لا تسيطر على لسانها ) .
ذكرني بهذه القصة , ما قرأته قبل ايام في تقاريرعربية تعرب عن خيبة امل كبيرة بادارة الرئيس الاميركي اوباما , بعد ان اكتشف العرب تشابها كبيرا في السياسات العامة بين الادارة الاميركية الحالية والسابقة, فراحت هذه التقارير تصف اوباما بالتنصل عن وعوده بل وحتى بالكذب.
يتناسى العرب دوما حكومات وشعوب (او قد يكونوا يجهلون ) طريقة الحكم في الدول الديمقراطية , وعلى رئسها الولايات المتحدة , ويظنون ان تلك الدول تدار بنفس طريقة ادارتنا للدولة , حيث الرئيس هو الدولة وهو القاضي وهو المفتي وهو الامر الناهي , يتناسى العرب او يجهلون ان تلك الدول تديرها المؤسسات وما دور الرئيس فيها الا دور المنفذ والمشرف والمنسق بين رؤى المؤسسات ومراكز القوى .
يجهل معظمنا سياق ونمط الحكم الديموقراطي وقد نكون معذورين فانما جهلنا بالديمقراطية ناتج عن جهلنا بها ذاتها ,اقصد الديمقراطية فكرا وسلوكا ,لا مصطلحا وتنظيرا, وهو ناتج من تراكمات فكرية (دينية وسياسية وحتى ادبية ), هذه التراكمات الفكرية والسلوكية التي مرت على شعوبنا تعوقها عن فهم الية الفكر والسلوك الديمقراطي , بل وحتى تصطدم مع بعض اركانها , فلا يستطيع البدوي مثلا ان يقتنع بقيادة المرأة لسيارتها , وهو مثال رغم بساطة تأثيره على المجتمع لا انه يبين بعد سلوكياتنا عن سلوكيات غيرنا , واذا ما قسنا امثلة اخرى اشد وقعا وتأثيرا على المجتمع , سنجد في النهاية اننا بعيدون جدا عن الديمقراطية فكرا وسلوكا .
واكاد اجزم لو ان السفير الذي قابل صدام ,قراء التقارير العربية حول اوباما لاصيب باسغراب وذهول ,لايقل عن استغرابنا وذهولنا بانتخاب اوباما رئيسا لاكبر دولة في العالم , ومؤكد ان هذا الاستغراب المتبادل بين الطرفين ناتج عن الاختلاف الكبير بين النظامين (الديمقراطي والشمولي ) فالمجتمع الذي لم يمارس الديمقراطية يستغرب بشدة الممارسات والافكار والسلوك الديمقراطي , بل ويعدها مستهجنة , وهو لن يستطيع ادراك ميزاتها وفوائدها واساليبها , وان وصلت الديمقراطية اليه بطريقة او اخرى فلن يفهم منها سوى عملية الاقتراع وسب الحكومة كما في حالة العراق ولبنان .بينما نلاحظ ان الديمقراطية في البلدان الغربية تعني حكم الشعب , وحكم الشعب هذا يعني ان شعوب تلك البلدان لا يمكن تسييرها , بل العكس , فحكام تلك البلدان مسيرين من قبل مراكز القرارات الخاضعة بدورها لرغبات تلك الامم والشعوب .
يحظى العراق اليوم بفرصة عظيمة لتغيير مساره تغييرا تاريخيا ومصيريا كبيرا , يكون فيه منارة وشعلة من نور تضئ ضلام المنطقة الذي امتد لعصور ليست بالقصيرة , الفرصة التي نالها العراق في التحول نحو النظام الديمقراطي تعد من الفرص النادرة الحدوث تاريخيا , وذلك لانها يمكن ان تجمل كل تاريخ العراق وحاضره ومستقبله ,وتجعله يعاود لعب دوره الكبير الذي طالما لعبه او مثله , والذي ابعدته عن لعبه ضروف محلية ودولية واقليمية , والذي تحتمه مكانته ومكانة شعبه وتراثه وثروته , لذلك فهاك قضيتين اثنتين لابد منهما لكي يعبر العراق من ضفة التسلط والاستبداد والدكتاتورية الى ضفة الحرية والسلوك الديمقراطي .هاتان المفردتان هما ان يفهم الفرد العراقي ماهية الديمقراطية وسلوكياتها , وان يؤمن بهذه السلوكيات ,طريقا للانعتاق والخلاص من التراكمات الفكرية الدكتاتورية, والتي كان وما زال الفرد العراقي يمارسها يوميا مع عائلته او في الشارع او في مكان العمل او حتى في طريقة العبادة , وبرغم من صعوبة خلاصنا من سلوكيات تكاد تكون ذات طابع قدسي في بعض الحالات , الا ان الخلاص منها ممكن اذا ما امنا بخطئها , وقمنا بنبذها, واستهجانها .
المفردة الاخرى هي ان يعي السياسيون ومن هم في مراكز القرار مسؤوليتهم في توصيل فكرة الديمقراطية ,وتوضيح سبلها ,للقواعد الجماهيرية ,وان يعملوا على تعميم هذا السلوك في الدوائر التابعة للدولة , او في داخل مراكزهم ,او في احزابهم ,لنشر الفكر الحر , لتتعاطاه اكبر شريحة ممكنة من القواعد , فيكون بذلك فكرا عاما للدولة ككل , وصولا الى ان يكون سلوكا عاما .