الأمراض الاجتماعية والوجه الآخر للتقدّم
* عبدالله عبد الدائم
** ** **
الحق، إننا حين نتصدى للأمراض الاجتماعية والإنسانية لحضارتنا، نشير إلى علة حضارية خطيرة، عبّر عنها عالم التحليل النفسي فرويد بقوله إن أي حضارة تولّد في ذاتها خمائر اندثارها.
فاجتماع ضروب النمو الإيجابي التي حدثت في ميادين الحياة المختلفة نمّى بمعنى من المعاني الوجه الآخر السلبي للفضائل الحضارية التي ما نزال نتمتع بها.
وأمراض المدنية هي حقاً الوجه الآخر لنمو الفردية والتقنية والمال والرفاهية:
فالتقانة مثلاً هي التي أفسحت المجال لاستثمار طاقات الطبيعة وتسخيرها.
ولكنها هي أيضاً التي يسّرت استغلال بني البشر، وسيطرة السلوك الفردي والمقنن الذي يحول دون ترابط الناس وتوادهم وتعاطفهم، وهي التي أدت إلى تلوث البيئة وخرابها وإلى هبوط المستوى النوعي لحياة الناس.
والنمو الرأسمالي هو الذي أدى إلى نمو الإنتاج والمبادلات التجارية والاتصالات، ولكنه في الوقت نفسه هو الذي جعل من شؤون الحياة كلها سلعاً تباع وتشترى، وقضى على التضامن، وجعل المصلحة المادية والكسب المادي أساس الوجود الإنساني.
والأمثلة أكثر من أن تحصى على الوجه الآخر للتقدم الذي يتجلى في شتى مجالات الحياة:
في بنى المدن المفككة ومجاهلها المتباعدة المعزولة اختناق السير فيها، وما يصاحب ذلك كله من ضيق ونزوات وحنق والتهاب للعقول والصدور –وفي سيطرة الحياة الفردية وبروز نزعات الانكماش على الذات وما دعاه بعضهم باسم "انبثاث الأنا" – وفي انحلال الروابط بين الأسرة والمدرسة، وبين الآباء والأبناء – وفي هشاشة الزواج وتكاثر الطلاق وشيوع العزلة والانفراد – وفي تزايد أعداد المنتحرين رواد المصحات العقلية وملتهمي الحبوب المهدئة – وفي عزلة الطاعنين في السن– وفي تفاقم مشكلات الشباب وارتفاع حالات الجنوح لديهم، بل في تكاثر الجرائم في أوساطهم وانتشار مظاهر العدوان لديهم انتشاراً غدا يهدد حتى سائقي وسائل المواصلات، ويهدد المعلمين في المدارس الثانوية نفسها، الأمر الذي يحمل بعض الباحثين إلى أن يروا في ذلك كله مقدمات لولادة "مجتمع بربري".
هذا فضلاً عن تزايد أعداد المنتحرين بين هؤلاء الشبان والمراهقين، وفضلاً عن ذيوع تعاطي المخدرات ذيوعاً أصبح من الصعب أن يتم ردعه عن طريق العقاب، مما يدعو العديد من المهتمين بهذا الشأن اليوم إلى المطالبة بإباحة تعاطي ما يدعونه بالمخدرات اللطيفة (وقد صدرت في العديد من الدول فعلاً قوانين تبيح ذلك).
وفي الجملة يبدو اليوم أن المراهق والشاب هو الذي تنعكس عليه مشكلات حضارتنا كلها على أعنف شكل، وأنه المرآة الصادقة التي تكشف بشاعتها وهولها.