أنت كردي فيلي، إذن أنت غير موجود!
هذه المعادلة الوجودية الظالمة كانت وما زالت القانون الأساسي المسيّر لنظرة الحاكم العراقي الى هذه الشريحة المظلومة من أبناء العراق.
لقد أخرجهم الحاكم العربي، المتباهي بعثمانيته، من محميته الوطنية، وجعلهم "بدون" مرة، ومرة أخرى جعلهم أكرادا من الدرجة الثانية، أقل كردية من الكردي البهدناني أو السوراني. لأنهم، في تقديره العرقي، أقل عثمانية منه.
والكردي لا يعترف بكرديتهم أيضا. لأنهم أدنى منزلة وأقل نقاء من كردي الجبل، يشوب كرديتهم كدر التفريس. فهم في نظر الهرر البيض، القيادات الكردية الحاكمة، قطط الكرد السود، الأقل منزلة وحظا من الجميع.
وحتى الإيراني، تهمة الفيلي الأبدية، يتنكر لهم، ويصفهم بالعراقيين، تقليلا من شأنهم.
هل رأيتم أو سمعتم شريحة حاق بها الخذلان بقدر ما حاق بالفيلي!
ما الذي يميز الكردي الفيلي عن غيره من المقهورين؟
في الفرهود الذي تعرض له اليهود قتل، في أعلى تقدير صهيوني، مئة وخمسون يهوديا، لكن حادثة الفرهود أضحت جزءا من تاريخ الأدب والثقافة والسياسة وحتى من تاريخ علم الكلام. أما دماء الكردي الفيلي ووجوده وتاريخه فتشبه العدم.
الفيلية هم الشريحة الوحيدة في التاريخ العراقي التي نهبت وسفرت ودمرت علنا، رسميا وشرعيا. (لاحظوا جيدا جدا غرابة المأساة: لم يشمل الفيلون أجمع بمكرمات الطاغية. ففيليو السلطة البعثية وحلفاؤها السمان ظلوا يمارسون خدماتهم الجليلة رغم تدمير أبناء جلدتهم أمام أنظارهم!! هذا لتذكير من يتباكى الآن عليهم بدموع التماسيح المفترسة!!) حينما بدأت السلطة الديكتاتورية حملة تنظيف المجتمع عرقيا كانوا هم الهدف الأول، وحينما بدأت عمليات خلع الفيلي من بيته ووجوده التاريخي، جرى انتهاب مزدوج للملكية والمواطنة والأرواح، لم تشارك فيه السلطة فحسب، بل شارك فيه نهابون متطوعون، جذبتهم رائحة الدم المراق والحق المهدور، فراحوا يشاركون في عمليات الافتراس البشعة، بضمائر مستريحة.
وحتى موت الكردي الفيلي لا يشبه غيره من الموت. فكل الشرائح استدلت على مظلومياتها حسيّا من طريق تجميع بقايا قتلاها، عدا الكردي الفيلي. مئات الشباب الفيلي البريء، الذين ساقهم الطاغية الى المجهول، لم يعثر أحد على بقاياهم، حتى هذه اللحظة، وقد حيكت عنهم الأساطير.
كأنهم لا يريدون للفيلي أن يكون موجودا، لا حيا ولا ميتا.
أي ظلم هذا؟
واليوم يقف الكرد الفيليون، قطط العراق السود، مجددا أمام الظلم. لكن المأساة الآن غدت أعمق وأبشع، فالذي يتلاعب بوجودهم هو من جاء باسمهم.
القادة الطائفيون العرب نسوا شأن الفيلية مع أو لحسة لمرق السلطة.
القادة الكرد، الذين تدخلوا في كل شادرة وواردة، وهددوا مرة بالانفصال إذا لم تزاد مالية رئاسة الجمهورية، ينظرون بسلبية وشراهة الى وصمة التبعية، التي تلحق بالكردي الفيلي، والتي أعيد تثبيتها رسميا، مرة أخرى، في عهد العراق الجديد، الحر!
كثيرون يتساءلون لماذا؟
الجواب نجده في محاكمات صدام. قضية الكرد الفيليين، التي تفوق قضية الدجيل بآلاف المرات في بشاعتها ولا شرعيتها وعمقها، لم تدرج في قائمة المحاكمات؟ لماذا مرة أخرى؟
لأن من قام بها- ولا أعني الشرطة وقوات الداخلية- وإنما الجهاز العسكري المختص بقضية الفيليلة، باعتبارهم عنصر مساس بالأمن الوطني، أي جهاز المخابرات، هو المحميّ الآن أكثر من شرائح المجتمع المظلومة. أولئك أثمن من آلاف الكرد الفيليين، في حسابات القتلة.
هذا الجهاز، بدءا من قيادته العليا، حتى أصغر شرطي فيه، يعمل بكامل طاقمه وأقسامه: شعبة فلسطين واسرائيل، شعبة ايران، شعبة أمريكا، شعبة أوروبا، شعبة العالم العربي، شعبة آسيا وأفريقية، شعبة المعسكر الاشتراكي، وغيرها من الشعب، تعمل بكامل طواقمها وأفرادها منذ اليوم الأول لسقوط الصنم حتى هذه الحظة، تحت أمرة المخابرات الأمريكية، باستقلال مطلق عن الحكومة العراقية، ماليا واداريا وفنيا ووطنيا ( أي يمكن أن يتجسسوا على العراق وعلى أعلى سلطة فيه، وهم يفعلون ذلك؛ لأن رصد الآخر، العدو، جزء من مهام الشعبة الجديدة، المستحدثة : شعبة العراق)
الجزء الآخر من هذه القوات ذهب للعمل تحت أمرة القادة الأكراد شخصيا، أو في جهاز المخابرات الكردي فرع الخارج والعلاقات الدولية (لأن العراق جزء من الخارج)!
كيف تحاكم هؤلاء، ومن يحاكمهم؟
الكردي الفيلي لا يريد محاكمة أحد، رغم أنه يملك حقا دستوريا في فعل ذلك أكثر من غيره؛ ولا يريد أن يستدل على أبنائه المذوّبين في غياهب العدم، رغم أنهم زهرات هذا المجتمع، التي يجب أن نقاتل من أجل معرفة مصائرها وإعادتها الى بيتها الوطني؛ لكنه يريد لمن تبقى منهم مواطنة عادلة تسقط عنهم هذه التهمة الشوفينية القذرة، التي استخدمها الحكام جميعا ضدهم، ويريد أن تعاد حقوقهم المادية والاجتماعية والدستورية التي اغتصبت علنا، وكنّا جميعا، جميعا من دون استثناء، شهودا جبناء في وقائعها، إن لم نكن مشاركين فيها.
آن الأوان أن يكون الفيلي عراقيا أصيلا، كعهدنا به، عراقيا له وجود دستوري كالآخرين. وآن الأوان أن يكف الحكّام عربا أو كردا عن هذه اللعبة القذرة، لعبة الاستهانة بوجود البشر، ولعبة استغلال مصائرهم لإغراض سياسية.