لنتعلم من شيعة العراق
المحامي خالد الشطي
هناك إعلام، حوله صخب وضجة وضجيج، يتوجه بخطابه وفعله وتأثيره الى العوام، يعيشون في دوامته ويخوضون في ارقامه الكاذبة ومعادلاته الزائفة، ويتخذون مواقفهم على ضوء معطياته... وهناك نخب تقرأ ما بين السطور، وترصد المؤشرات، وتلتقط الاشارات، تميز الغث من السمين وتفصل الحَبَّ عن الحصى، فتعرف الحقائق وتبصرها. وفوق هذه الفئة وتلك، هناك صناع القرار ومن بيدهم أزمة الأمور، وهم الذين يخلقون الحدث ويضخمون الكم الذي يريدون من الهرج والمرج والضجة والصخب حوله، كل حسب الماكينة الاعلامية التي يمتلكها...
اذا كانت تخرصات فيصل القاسم وتشنجات الخصاونة وتحليلات الفضائيات العربية تنطلي على العوام، ويصدقها الشارع العربي الذي ما زال يتحدث عن اربعة آلاف يهودي تغيبوا عن مراكز عملهم صبيحة الحادي عشر من سبتمبر، او ان الزرقاوي شخصية وهمية، والملا عمر وليّي يستسقي به الغمام! اذا كان هذا الاعلام المنظم وغسيل الأدمغة المبرمج الذي تمارسه الجزيرة وأضرابها، يفلح في امتهان عقول العوام، ويخلق المد الشعبي لولاة الامر وصناع القرار في مواجهة مشروع الشرق الاوسط الجديد...
فان النخب والمثقفين العرب يعلمون جيدا ان السنة في العراق لم يهمشوا ولم يتعرضوا للاقصاء والعزل. كما يعلمون جيدا ان الاداء الشيعي هناك بلغ القمة في الرقي، والغاية في الالتزام الأخلاقي والوطني، والذروة في تحسس المسؤولية. وان اطبق الاعلام واجمع على تجاهل هذه الحقيقة والاعراض عنها (بل سوق بعضه لعكسها!)، فانها لو خليت لخربت، اذ قيض الله جمال الخاشقجي ليكتب مقالته العصماء، ليتم بها الحجة على لفيف باع ضميره، وجماعة عشعش فيها الحقد حتى اعماها، وشرذمة أبت الا المكابرة والخيانة!
السنة (على الاطلاق المتداول، والا ففيهم من خارج هذا الحكم) هم الذين قاطعوا الانتخابات، وهم الذين سعوا لافشالها وتقويضها، لم يمنعهم غريب ولا أقصاهم قريب. ورغم المواقف التي اصروا على ان يظهروا بها، رغم دعمهم لما يسمى بالمقاومة، رغم كل الآلام والجراح، مد الشيعة ايديهم الى اخوانهم ودعوهم للالتحاق بالركب، بل أوقفوا سير القافلة وعطلوا المسيرة لأجلهم، وبلغوا في ذلك حد التوسل وكأنهم يستنجدون؟! فلم يلقوا إلا العناد.
وعندما فشلت كل تلك العوائق، وما استطاعت هاتيك الموانع، من الاعلام الذي مسخ العقول، الى التفجيرات القذرة التي استهدفت الهوية المذهبية مباشرة، فشلت كلها، ونجحت الانتخابات وتشكل المجلس الوطني.. بدأت المعزوفة الجديدة بضرورة اشراك السنة في صياغة الدستور!
كان بامكان الشيعة والاكراد أن يأبوا ذلك، ويرفضوا ان يتساوى من جازف وجاهد ليشارك في الانتخابات، بالآخر المرجف في المدينة، الذي انكفأ في داره مهزوما، او مضى في تثبيطه وسعيه اللاهث لافشال الانتخابات، فدعم الارهابي الذي فجر ودمر، وعلى اقل تقدير عاش الأمل ورفع يديه بالدعاء لتفشل الانتخابات!
لكنهم تنازلوا للمرة الألف! وان شئت عددت لك ثلاث التسعات السابقة، ولكني اشير الى محطات رئيسية منها:
تنازل الشيعة عندما قبلوا أن تكون الديموقراطية نسبة لا اكثرية. بمعنى ان الاكثرية تنازلت عن حقها، وسمحت لكل طائفة وفرقة وجماعة مهما صغرت وتضاءلت ان يكون لها تمثيلها ودورها وحصتها ونصيبها في الحكم والادارة.
تنازلوا عندما سمحوا لثلاث محافظات ان تلغي الدستور اذا ما ارتأت انه لا ينصفها، وهذا لصالح الاكراد والسنة (وكلهم سنة).. وكلها مكاسب وامتيازات ما كانت لتكون لولا ان الشيعة اصروا على العمل بنظام الأكثرية.
تنازلوا عندما قبلوا بتأجيل اجراء الاحصاء السكاني باشراف دولي، مما كان سيظهر الحجم الحقيقي لكل طائفة في العراق، فلا يتبجح احد بمساحة محافظته، ويغمض ان بين الرمادي والرطبة اربعمائة كيلومتر قاحلة! ولا يتباهى بصحارى شاسعة تنافس الربع الخالي في قفرها! مقابل مدن الجنوب التي غدت متصلة لفرط الكثافة السكانية.
تنازلوا عندما عضوا على الجراح وسكتوا عن تفجيرات النجف الأشرف وكربلاء المقدسة، وعندما لم ينتقموا للشهيد الحكيم والشهيد عبد الزهراء عثمان (عز الدين سليم) والآلاف من قرابين القتل الطائفي.
تنازلوا عندما أعطوا رئاسة الجمهورية للسنة الأكراد. تنازلوا عندما اعطوا رئاسة المجلس للسنة العرب.وتنازلوا وتنازلوا...
كان بامكان الشيعة ان يتجاوزوا الحملة الاعلامية، وينطلقوا من واقع مدعوم بغطاء الشرعية الدولية، الذي لم يكن لتنطلي عليه تهويلات الجزيرة وافتعالات نظيراتها من الفضائيات العربية: فالحقيقة ، كل الحقيقة ان ليس هناك تهميش ولا اقصاء ولا تجاهل للسنة العرب، فعلى نفسها جنت براقش. وعلى ادنى صعيد، وأسوأ الفروض، كان بامكان الشيعة ان يقلبوا عاليها سافلها، ويزلزلوا الارض تحت اقدام الامريكان ويعلنوا عصيانهم وتمردهم، ثم جهادهم ومقاومتهم، ان لم تنزل امريكا على حق الاكثرية، ويتسلموا العراق خالصا مخلصا لهم...
كان يمكنهم ان يقولوا للسنة: نحن الأصل، وهذا التاريخ يشهد أن العراق كان مهد التشيع وحضنه الابدي، وأن يقولوا: نحن الأكثرية، ومن لا يعجبه ليبحث عن بحر يشرب منه، او وحائط يخبط به رأسه، او ان يلقي جنسيته ويرحل الى بلاد الله الواسعة. ولكنهم لم يقولوا ولم يفعلوا.
بل قالوا: نحن وأنتم ابناء بلد واحد، ودين واحد، اخوة كرام، لن نأخذكم بجريرة صدام ولا الزرقاوي ولا اي ارهابي يستغلكم، سنوفيكم حقكم ونزيدكم كيل بعير، ثم قالوا: (لئن بسطت الي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي اليك لاقتلك اني اخاف الله رب العالمين)، ولم يعقبوها بالآية التالية!
انهم ابناء علي، شيعة اهل بيت الرحمة والرأفة، اتباع مدرسة العدالة وانصاف الخصوم. لقد انطلقوا من المسؤولية، ومن قيم تندك في هويتهم، وسجايا جبلوا عليها..
وهنا الدرس البليغ الذي يجب ان يتعمله كل من يرى نفسه اكثرية في بلده، فيضطهد الأقلية ويزدريها ويبخسها حقوقها، ولا يبلث أن يواجه صوتها الخافت الذي لا يتجاوز الهمهمة ليخنقه قبل ان يقول!