لست أدري ما الذي استدرجني لمتابعة أحداث تونس وانتفاضة أبناء "أبو القاسم الشابي" ، أو ما أطلق عليه "ثورة الياسمين" ، حيث انكسر القيد في تونس واستجاب القدر بناءً على طلب "البوعزيزي" الذي أصبح الرمز الأول في تونس الخضراء اليوم !
وأنا الذي لا أبالي بأشد المعارك السياسة ضراوة في المنطقة ولا أشعر بشيء من الخطورة مادمت أعقد مآتم الحسين وأبكي على عقيلة بني هاشم وأندب الزهراء وأولادها كما أشاء !
لكن سبحان من جعلني أتابع تطورات أحداث شمال أفريقيا السياسية لحظة بلحظة دون أن أسد أنفي أو أتقيء ؛ أو أصاب بمغص على الأقل ! بل أترقب اندلاع الثورة في الجزائر ومصر وسائر البلدان التي لم تهدأ وتنتظر "بوعزيزي" آخر يضحي من أجل الشعوب التي تريد الحياة !
على كلٍّ ؛ أحاول استلهام الدروس وفهم الحياة أكثر ، فلا تكون متابعتي لأحداث "سيدي بوزيد" متابعة رجل بطـّال أنهكه الفراغ ويتصارع لقتله في المقاهي ! . أن أكثر ما لفت انتباهي خطاب الرئيس المخلوع (الطاغية الهارب ؛ حسب المسمى الجديد له) حيث قال بعد أن أرقه الرعب أياما وجعل أسنانه تصطك ببعضها ، فتحدث في آخر خطاب لعل بوادر أمل تلوح أمامه ويخدع الشعب المغفل مرة أخرى ويخمد ثورته ؛ قائلا :"والمجال مفتوح من اليوم لحرية التعبير السياسي بما في ذلك التظاهر السلمي المؤطر المنظم ؛ التظاهر الحضاري"
يبدو بشكل واضح أن الخشية على ضياع المُلك والرعب الذي سيطر عليه من الشعب المظلوم الثائر ، جعله يستجدي الرفق منهم وتسكين فورتهم باللجوء إلى خيمة : "الحضارة" أكثر من مرة في خطابه أو ذكر مصطلحات : "الشعب التونسي المتحضر والواعي" ، متحدثا معهم كأنهم أطفال في الابتدائية أثاروا الفوضى فصاح بهم مدير المدرسة أنتم أفضل طلاب أنتم المجتهدون والمميزون بين سائر المدارس ، لا تليق بكم الفوضى !
هكذا كان يريد أن يخرس ألسنة الثوار ويخمد لهب الثورة ، متاجرا بالبضاعة التالفة "مصطلح الحضارة" ...
والحقيقة أنه وحده كان يرى أن حركة الشعب غير حضارية ... كان يريد الشعب أن يستنكر ويغضب لكن برفق ولين وابتسامة ! ...
لأن الرفق واللين لا يرعب الملوك ...
هو الوحيد كان يرى هذه الثورة غير حضارية ؛ لأنه خائف يتشدق بالأعذار ...
أما بقية العالم فقد اكتشفوا أنه طاغية وظالم ، ورسالة "التوانسة" وصلت بشكل جيد للعالم عندما أحرق "البوعزيزي" نفسه ، فلم يتباكَ تونسيٌّ غبيٌّ على هذا التصرف باعتباره مشوها لتونس والتونسيين ، بل كان صرخة مدوية في العالم أنبأتهم أن الشعب مظلوم !
كان هناك عشرات الأحزاب المعارضة للنظام ، وهناك المفكرين المهجرين ، وهناك القابعين في السجون التونسية ، بل ثمة كتب ومؤلفات علمية وأكاديمية في مهاجمة النظام التونسي وفضحه وتعريته وتعرية أسرته على الخصوص زوجته وعائلتها !
ومع كل ذلك لم يكن عامة الناس يعلمون أن الشعب يعيش الظلم إلى هذا الحد ، بل ربما يظن الكثيرون أن البلد يعيش الاستقرار والشعب لا يشكو شيئًا من هذا القبيل ...
وعندما أحرق البوعزيزي نفسه الكل فهم الأمر ... ولا يوجد من يقول أن البوعزيزي متخلف وغير متحضر ؛ والتوانسة شعب صاحب مبدأ وفكر وثقافة مثقف وواع ولغته لغة العلم والوعي ، والتوانسة من العرب القلة الذين يقرءون الكتب فلا تليق بهم هذه الوحشية في التعبير ...
ولم يظهر مفكر أو استاذ في العلوم السياسية أو فيلسوف شرقي أو أي مدعي ثقافة ينكر عليهم ثورتهم هذه ، بل سجلها العرب ووثقها من ساعتها كثورة أبطال شجعان وعلى سائر العرب الالتحاق بركبهم منتظرين بوعزيزي مصري وجزائري ومغربي وسوري وربما بوعزيزي بحراني !!!
لماذا لم يصرخ الجميع أن البوعزيزي متخلف وتصرفه غير حضاري ، ماذا يعني أن يحرق نفسه فيتفحم جسده ، ماذا سيفهم العالم عن التوانسة غير الوحشية والحرق والنار عندما يرون هذا المشهد ؛ ماذا سيفهمون من مبادئ هذا الشعب وحضارته وفكره غير الرعب ؟!
لم أسمع هذا النداء قط في المعركة !
لكني أصبت بالصداع من كثرة ما سمعت أنصاف الشيعة والجهلة والمتخاذلين والضعفاء منهم ، والمستغفلين والمغفلين من الشيعة كلمة : ماذا سيقول الغرب عندما يشاهدون مشهد الدم المرعب يوم عاشوراء ؛ إنه مشهد غير حضاري !
بل هذه قمة الحضارة والإنسانية ، إننا لم نهو بسيوفنا على رؤوس غيرنا ، ولم نفجر أنفسنا في سوق مليء بالنساء في بغداد ، إننا نصرخ بالمظلومية ليرى العالم كم شكى التشيع من الظلم والاضطهاد منذ الصدر الأول للإسلام ، ولم يهنئ بساعة أمن ...
إننا نصرخ أن إمامنا سحق تحت حوافر الخيل ولازال الدم يشخب من نحره الشريف ...
كم أشعر بحمق الطالب باستبدال التطبير بالتبرع بالدم ، كأنه يطلب من البوعزيزي أن يستبدل مشروعه الناري بمشروع التبرع بـ"دهان حروق" لمستشفيات أفريقيا التي تعاني نقصا في الأدوية !
ويقول أحدهم : " أيها الأحبة، اجرحوا أجسادكم، لكن بيدي أعدائكم بعد أن تجرحوهم، اجلدوا ظهوركم بالسياط ولكن بيدي أعدائكم بعد أن تجلدوهم، هذه هي المواساة"
إن أمثال هؤلاء لا يعرفون كيف يتحدثون ولا يعرفون ما هي القضية ، ولا يعلمون مدى بشاعة الجريمة ، ولا يعلمون أن الحسين هو السبب المتصل بين الأرض والسماء وأنه حجة الله على الخلق ، وكل جراحة في جسده الشريف تعد استخفافا بالذات الإلهية ، وأن مسألة مصرعه المفجع لا توصف بكلمات ولا تكفيها هذه النياحة وأن الثأر لدمه المسفوح هو ثأر الله ، فالحسين هو ثار الله ... إنهم لا يفهمون هذه الحقيقة أبدًا !
إنهم يريدون للأفواه التي تنادي واحسيناه أن تخرس على الآخر ، ويريدون أن تنفتح أفواهًا لا تعرف شيئا عن الحسين والدين والسماء ، يريدون فلسفة وعلوم اجتماعية وعلم نفس لكن باسم الدين ، إنهم لا يريدون أن نتذكر أن ضلع الزهراء كسر بين الباب والحائط لأن هذا الأمر "لا يشكل بالنسبة لهم أية سلبية أو إيجابية" ؛ لذلك يرون هذا الجزع والتفجع تخلفا ...
ليس لأن النياحة والتطبير واللطم في نفسها أمرا غير حضاري ، بل لأن أصل الموضوع ، وأصل المظلومية ، والقضية بأكملها لا قيمة لها عندهم ... يريدون كلمات فرويد وانيتشه وسائر وطاويط الليل ... لا يريدون الكافي الشريف وبحار الأنوار وأمالي الشيخ الصدوق ... يريدون كتب أكاديمية عصرية ... لا يريدون الدين حتى وإن لبسوا العمائم !
لذلك يقولون أن الشعائر الحسينية غير حضارية ، لأن الجريمة التي ارتكبها قاتل الزهراء ، والتي ارتكبها الأمويون انتهت ويجب أن ننساها في نظرهم ونعيش اليوم كما يقولون !
لكن هيهات ؛ خسئت أفواههم وماتوا بغيضهم والقبور أمامهم والزبانية ستسقبلهم خير استقبال ، فالأمر محفوظ من السماء في عهد معهود من رسول الله ، والثأر له صاحب يطالب به ، ورب جليل شديد العقاب يحاسب كل مجرم أفاك ومنكر أو شاك ...
والجريمة يجب أن تبقى ، وثأر الله يجب أن يعظم ، وشعائر الله يجب أن تعظم لأنها من تقوى القلوب ...
فليست المسألة حضارة وفكر كما يزعمون ، بل هي كفر وتخاذل وضعة نفس ، ولو كان التونسيون أصحاب دين يطالبون بحرية دينية لاستخف الآخرون في البوعزيزي ليس لأن تصرفه وحشي بل استخفافا بدينه كما يستخف المستخف بشعائرنا الحسينية وبسائر الشعائر حتى بصلاتنا وسجودنا على التربة ؛ لكن هل نتراجع ؟ بل يتراجع الشكاك والمرتابون الذين يبقون يوم القيامة مع المنافقين والأشقياء ولا تشفع لهم مولاتنا الزهراء سلام الله عليها ...
إن المحاربين للشعائر الحسينية على ثلاثة أقسام ، إما يخافون على سلطانهم كرئيس تونس ! ، وإما يرون أن القضية لا تستحق كل ذلك وأنه ماض يجب أن يُنسى ، أو أن المصيبة لم تبلغ الحد الذي يستحق هذا التفجع إنهم أبناء "بنكي وبرين" وأسخف الخلق وحثالة البشر إن كانوا من البشر !
والقسم الأخير مغفل مخدوع لا يفهم ما هي الحضارة ، يظن التشبه بالغرب هو التحضر ... والحقيقة أن الغرب أيضا يظن أن مسابقات رمي الطماطم في أمريكا ومصارعة الثيران في اسبانيا والشذوذ من مظاهر الحضارة والتقدم ... وهذا ما سننتهي إليه في حال لحقنا ركب الغرب القذر !
وعلى كل حال ففي المفاهيم المعاصرة لا يمكن أن نعد الشعائر الحسينية من التخلف والرجعية ، ولا يمكن للكتب والمؤلفات العلمية في هذا العصر وفي العصور السابقة أن تفعل عُشر فعلة الشعائر الحسينية ، ولك في كتاب الغدير للعلامة الأميني أسوة ، فلا يبقى بعده مجال علمي لمنكر للغدير ... لكن ؛ بالله من يعرف الغدير الآن من عوام الناس بل مثقفيهم وأساتذتهم ؟ قلة قليلة من المهتمين في الحوار الشيعي السني لا أكثر ...
أما عاشوراء فيعرفها القاصي والداني !
إن اللطم والنياحة وشج الرؤوس هي سبب بقاء التشيع وحفظه لو تأمل متأمل منصف في هذا الأمر، والتخاذل في ذلك ضعف في اليقين والإيمان ، بل وضعف في الارتباط بالإمام المظلوم قتيل العبرات ، روحي وأرواح العالمين الفداء لتراب نعل الآخذ بثأره ...