نقض فتوى تهديم القبور لشيخ حسين كاشف الغطاء .طاب ثراة
بتاريخ : 08-09-2011 الساعة : 12:19 PM
أما كلمتنا التي لا بد لنا من إبدائها في الجمع بين تلك الاخبار، ونظريتنا في استجلاء الحقيقة من خلال تلك الحجب والاستار، فسوف نبديها في تلو هذا السجل ناصعة بيضاء مستقرة، وعليه التكلان، وبه المستعان .
ها نحن اولاء، وبعد ان سردنا عليك ذرواً من الاحاديث، وشذوراً من الروايات، نريد أن نأتي على الخلاصة، ونوقفك على الفذلكة، ونمنحك الحقيقة المكنونة، والجوهرة الثمينة فنتوصل الى الحقيقة من اقرب طرقها، ونتوسل الى البغية المنشودة بأقوى أسبابها، وأوثق عراها، وامتن أواخيها، فنقول: نقدر على الفرض ان رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ها هو امام كل مسلم من امته يراه بعينه ويسمعه باذنه قائلاً له : « لاتدع تمثالاً إلا طمسته، ولاقبراً مشرفاً إلاسويته » بناءً على صحّة كل ما ورد في الصحيحين ـ البخاري ومسلم ـ إذ هذا الفرض ـ وان كنا لانقول به ـ ولكن نجعله من الاصول الموضوعة بيننا ـ اعني به ما هو فصل النزاع وقاطع الخصومة ـ ومعلوم ان المتخاصمين إذا لم يكن فيما بينهما اصول موضوعة ينتهون إليها، ويقفون عندها، لاتكاد تنتهي سلسلة النزاع بينهما والتخاصم طول الابد، وعمر الدهر، إذاً فنحن على سبيل المجاراة والمساهمة مع الخصم نقول بصحة ذلك الحديث، كما يلزمنا معاً ان نقول بصحة غيره من احاديث الصحيحين فها هو النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ يقول: « لاتدع قبراً مشرفاً إلاسويته» ، كما رواه مسلم، ـ ولكنه يقول حسب روايته ايضاً: « فزوروا القبور فإنها تذكر الموت ... » ، و « استأذنت ربي في زيارة امي فأذن لي » ... وقد زار هو قبور البقيع ... وفي البخاري عقد باباً لزيارة القبور وحينئذ ـ فهل هذه الاحاديث متعارضة متناقضة ؟! النبي الذي لا ينطق عن الهوى ان هو الا وحي يوحى يأمر بهدم القبور ... ويأمر بزيارتها ... يأمر بهدمها ثم هو يزورها ...
فإن كان المقام من باب تعارض الاحاديث واختلاف الروايات وجب الجمع بينهما لا محالة، على ما تقتضيه صناعة الاجتهاد، وطريقة الاستنباط، وقواعد الفن المقررة في الاصول، بحمل الظاهر على الاظهر، وتأويل الضعيف من المتعارضين وصرفه الى المعنى الموافق للقوي، فيكون القوي قرينة على التصرف في الضعيف، وإرادة خلاف ظاهره منه كما يعرفه ارباب هذه الصناعة، فهل المقام من هذا القبيل ؟!
كلا ثم كلا، ومهلاًُ مهلاً: ان هذه الساقية ليست من ذلك النبع، وتلك القافية ما هي من ذلك السجع؛ وليس المقام من باب التعارض كي يحتاج الى التأويل والجمع.
ما كنت احسب ان ادنى من له حظ من فهم التراكيب العربية والتصاريف اللغوية يخفى عليه الفرق بين « التسوية» و « المساواة» .
ان الذين يصرفون قوله ـ عليه السلام ـ: «ولاتدع قبراً مشرفاً إلا سويته » الى معنى ساويته بالارض اي «هدمته» اولئك قوم أيفت أفهامهم، وسخفت أذهانهم، وضلت البابهم، ولم يكن من العربية لهم ولا قلامة ظفر فكيف بعلمائهم ؟!
ولايخفى على عوام العرب ان تسوية الشيء عبارة عن تعديل سطحه او سطوحه، وتسطيحه في قبال تقعيره او تحديبه او تسنيمه وما اشبه ذلك من المعاني المتقاربة(1) والالفاظ المترادفة، فمعنى قوله ـ صلى الله عليه وآله ـ: « لاتدع قبراً مشرفاً ـ اي: مسنماً ـ إلا سويته ـ اي ـ سطحته وعدلته ـ » وليس معناه: إلا هدمته وساويته بالارض كي يعارض ما ورد من الحث على زيارة القبور واستحباب إتيانها، والترغيب في تشييدها، والتنويه بها، وذلك المعنى ـ اعني ان المراد من تسوية القبر تسطيحه وعدم تسنيمه ـ كان هو الذي فهمته من الحديث اول ما سمعته بادئ بدء وعند أول وهلة، ثم راجعت الكتاب ـ اعني صحيح مسلم ـ ونظرت الباب فوجدت صاحب الصحيح ـ مسلم ـ قد فهم فيه مافهمناه من الحديث حيث عنون الباب قائلاً: ( باب تسوية القبور ) واورد فيه اولاً بسنده الى تمامه قال: كنا مع فضالة بن عبيد بأرض الروم برودس فتوفي صاحب لنا فأمر فضالة بقبره فسوي ثم قال: سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ يامربتسويتها (2) ثم اورد بعده في نفس هذا الباب حديث ابي الهياج المتقدم: « ولاقبراً مشرفاً الاسويته » .
وكذلك فهم شارحوا صحيح مسلم وامامهم النووي الشهير، وها هو بين ايدينا يقول في شرح تلك الجملة النبوية ما نصه: فيه: ان السنة ان القبر لا يرفع عن الارض رفعاً كثيراً ولايسنم، بل يرفع نحو شبر، وهذا مذهب الشافعي ومن وافقه، ونقل القاضي عياض عن اكثر العلماء ان الافضل عندهم تسنيمها (3). انتهى كلام النووي .
ويشهد لأفضلية التسنيم مارواه البخاري في صحيحه في باب صفة قبر النبي وابي بكر وعمر بسنده الى سفيان التمار انه رأى قبر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مسنماً (4)...
ولكن القسطلاني احد المشاهير من شارحي البخاري، شرحه في عشر مجلدات طبعت في مصر القاهرة، قال ما نصه: « مسنماً» بضم الميم وتشديد النون المفتوحة اي: مرتفعا، زاد ابو نعيم في مستخرجه: وقبر ابي بكر وعمر كذلك، واستدل به على ان المستحب تسنيم القبور، وهو قول ابي حنيفة (5)ومالك (6)واحمد (7)والمزني وكثير من الشافعية:
وقال أكثر الشافعية (8)ونص عليه الشافعي: التسطيح افضل من التسنيم لانه ـ صلى الله عليه وآله ـ سطح قبر ابراهيم وفعله حجة لافعل غيره (9)، وقول سفيان التمار لاحجة فيه ـ كما قال البيهقي ـ لاحتمال ان قبره ـ صلى الله عليه وآله ـ وقبري صاحبيه لم تكن في الازمنة الماضية مسنمة (10).
وقد روى ابو داود بإسناد صحيح ان القاسم بن محمد بن ابي بكر قال: دخلت على عائشة فقلت لها: اكشفي لي عن قبر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ وصاحبيه فكشفت عن ثلاثة قبور لا مشرفة ولا لاطئة مبطوحة ببطحاء العرصة الحمراء، اي لامرتفعة كثيراً ولا لا صقة بالارض (11)، الى ان قال القسطلاني الشارح: ولا يؤثر في أفضلية التسطيح كونه صار شعار الروافض لان السنة لا تترك بموافقة أهل البدع فيها ! ولا يخالف ذلك قول علي ـ رضي الله عنه ـ أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وآله ـ ان لاادع قبراً مشرفاً الاسويته، لانه لم يرد تسويته بالارض وانما اراد تسطيحه جمعاً بين الاخبار، ونقله في المجموع عن الاصحاب (12) .
إنتهى ما اردنا نقله من شرح البخاري، وانت ترى من جميع ما أحضرناه لديك وتلوناه عليك من كلمات أعاظم المسلمين وأساطين الدين من مراجع الحديث كالبخاري ومسلم، وأئمة المذاهب كأبي حنيفة والشافعي ومالك وأحمد، وأعلام العلماء واهل الاجتهاد كالنووي وامثاله، كلهم متفقون على مشروعية بناء القبور في زمن الوحي والرسالة، بل النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ بذاته بنى قبر ولده إبراهيم؛ إنما الخلاف والنزاع فيما بينهم في ان الافضل والارجح تسطيح القبر او تسنيمه، فالذاهبون الى التسنيم يحتجون بحديث البخاري عن سفيان التمار انه رأى قبر النبي ـ صلى الله عليه وآله ـ مسنماً، والعادلون الى التسطيح يحتجون بتسطيح النبي قبر ولده إبراهيم، وصحيح القاسم بن محمد بن ابي بكر شاهد له، ولعل هذا الدليل هو الارجح في ميزان الترجيح والتعديل، ولا يقدح فيه انه صار من شعار الروافض وأهل البدع كما قال شارح البخاري ، فيما مر عليك نقله.
ولايعنينا الآن الخوض في حديث الروافض وانهم من اهل البدع ام لا، إنما الشأن في حديث « لاتدع قبراً مشرفاً إلا سويته » واحسب أنه قد تجلى لك بحيث يوشك ان يلمس بالانامل، ويرى بباصرة العين ان معنى « سويته » عدلته وسطحته في قبال سنمته وحدبته ويناسب هذا المعنى كل المناسبة التقييد بقوله « مشرفاً » فإن أصل الشرف لغة هو العلو بتسنيم مأخوذ من سنام البعير، وعليه فيحسن ذلك القيد، بل يلزم ويكون بلسان اهل العلم ( قيداً احترازياً ) . أما على معنى ساويته فالقيد لغو صرف، بل مخل بالغرض المقصود.
الشيخ محمد حسين كاشف الغطاء ـ طاب ثراه