الإلغاء هو الإبطال لكل شيء ما عدا؟!……؟! (وألغيتُ الشيء أي أبطلته). لذلك تبطل كل لغة سواها حين الاستعمال (يقال: هذه لُغتهم التي يلغون بها)، أي ينطقون بها ويبطلون النطق بسواها.
والأشياء المستعملة يبطل استعمالها بالزمن. أو باتفاق الناس على إلغائها. أو بإكراههم على هذا الإبطال والإلغاء. آن ذلك يتحول الإلغاء إلى لغو، لذلك (قالت كفار قريش: إذا تلا محمد القرآن فَالَغو فيه أي ألغطوا فيه يبدل أو ينسى فتغلبوه). فاللغو هو الإكراه على الإلغاء بالباطل. فهو من فوضى القول والفعل
ولأن الاسلام لم يقم على ألغاء ما قبله، حارب كل إكراه على الإلغاء والإبطال، باللغو. لقوله تعالى: (والذين هم عن اللغو معرضون) ( المؤمنون:3). من منطلق أن تلك هي صفات العقلاء. إذ طالما أن العقل الذي يلغي، يحرم نفسه من القدرة على الإخصاب بالتعديل، من أجل فرض رأي آحادي تحت جاذبية شعار الجدة، ورفض الأصول. وتلك هي الخطوة الأولى نحو الاستبداد بفكرالآخرين، بإجبارهم على نماذج لايقبل من يسعى إلى الإلغاء، ترك أي رأي سابق يدحضها.
إن أفلاطون حين اعتبر أن الأشياء كمعطى أمامنا في هذا الوجود، هي إما (ما نستعمل… وإما ما نصنع،… وإما ما نقلد) أكد أن أهم صفات المستبد هي عدم رغبته في تقليد أي شريعة أو نظام.
لماذا؟!
لإنه إذا لم يلغِ لايستطيع أن يدّعي.
يقول أرسطو إن (خاصة الطاغية أنه يقصي كل من يحمل نفساً عزيزة وحرة، لأنه يظن أنه الوحيد الجدير بأن تكون له هذه الخلال السامية). ويهون الأمر لو كان هذا الإقصاء والإلغاء لمن حوله، من معاصريه فقط. فذلك يفقده رَشَدَ وإرشاد الرجال، فيعجل بهلاك نفسه. لكنه إذا حاول إلغاء فكر سابقيه، ومنع تداوله بإدعاء أن لديه فضائل أفضل، وذهب إلى فرض عقيدة تقوم على رفض سابقاتها، يساهم لابالاستبداد بحياة الناس اليومية فقط بل بالاستبداد بتراثهم، وهو الأخطر من كل ديكتاتورية وقتية.
لذلك نرى ان روح عدم الألغاء هي التي تحكم سير التنزيل.. فإذا كان (من كلام العرب الاختصار المُفَهِم والإطناب المُفَخَّم _فقد_ يقع الإيماء إلى الشيء فيغني).
فأن هذه التي تسمى بالبلاغة لاتعني اختصار اللفظ لمعنى يمكن إيراده بعدة جملٍ فقط، بل تعني أيضاً تضمن اللفظ لأكبر قدر من المعاني فيه. وهذا عكس الإلغاء.
إن الكلام البليغ لايتجنب أي معنى متضمن فيه. وبعض هذه المعاني أبين من بعض، ضمن سطور الجمل البليغة.
والقرآن الكريم كأكمل صيغة من صيغ البلاغة العربية، لايلغي أي مفهوم من مفاهيم المنطوق، بل يبرز ما يُمَكِن كل سامع أو قاريء له، من تبين أحد هذه المفاهيم بسطوع يتناسب مع حجم معارفه. فإذا سطع مفهوم منه لقاريء، فإن مفاهيم أخرى تبقى تحت ستر غشاء ينتظر فهماً آخرَ.
هذا التضمن في البلاغة القرآنية لأكبر قدر من المعاني، في سعته الشمولية، ما كان ممكناً لو أن روح الإلغاء فيه.
إن الجملة القرآنية متروكة لكل شمولية المفاهيم التي تتضمنها، لالعدد كبير منها فقط، كالجمل الشعرية والأدبية العربية البليغة الأخرى.
وهذه الشمولية في مفاهيم الجمل القرآنية، في عدم استثنائها أو إلغائها لأي مفهوم، هي أساس إعجاز، أو تفوق البلاغة القرآنية على كل بلاغة بلغة الضاد.