إن من المعطيات التي نستفيدها لدى السير في ظلال هذه الرواية،هو تبجيل العلماء والاحتفاء بهم، بل الإفادة منهم علمياً ومنهجياً وسائر الأُطر المعرفية الأخرى؛حيث ارتبطت العلاقة مع العالم بالعلاقة مع الله تعالى،وهذا ما يدلل على شرف العلم و قدسية العالم،الأمر الذي يحدد تكليف الفرد بأن تكون علاقته مع العالم غير عادية بل متميزة.
وإن من مصاديق التوقير هو إقامة ما يميزهم إعلامياً،ويذكّر بهم، كهذا المؤتمر الاستذكاري الذي أقامته كلية الفقه في جامعة الكوفة الموقرَتَين؛لأن الخطاب العالمي الحاضر يولي الإعلام وأدواته عناية خاصة؛ حيث يتسنى إيصال الفكرة لأوسع شريحة اجتماعية وفي مدة زمنية وجيزة،الأمر الذي يجعل من الوسيلة الإعلامية حالة عصرية ينبغي التفاعل معها ؛لأنه – كما قال الإمام شرف الدين – (لا ينتشر الهدى إلا من حيث انتشر الضلال)،فلابد من استخدامها للتعريف بالطاقات العلمية على صعيد الدين والمذهب أو النجف الأشرف، بل إن التعاطي معها وفقاً لذلك يثمر الانتشار الواسع للمعلومة، و تلاقح الأفكار مع تنامي القدرات،وإضافة رقم آخر الى أرقام رصيد القوة والاصالة لدينا،لذا فقد سعيت الى استثمار هذه الحالة الحضارية لإبراز دور فقيه من فقهائنا الأعاظم ممن سجل لهم التاريخ النجفي حضوراً متميزاً،من خلال فاعليته العلمية و فكره الأصيل،وهو آية الله المحقق الشيخ حسين الحلي قدس سره(1309-1394هـ)، فحاولت إثارة الأجواء وتحفيز الأشخاص للمشاركة،من خلال إقامة ما يمكن عدّه تكريماً لهذه الشخصية ذات المواهب العلمية المتعددة،بل وقد سبقت ذلك مشاركة متواضعة عندما:
أ - أسهمت في التنويه عن ذكرى وفاته السنوية في (تقويم بداية الشهور القمرية الصادر عن مركز البحوث والدراسات الفلكية) ابتداءً من عام 1423هـ -2002/2003م.
ب – وبوّبت مخطوطاته المصورة في مكتبة الإمام الحكيم العامة،كونها تحتوي تقريرا ته الأصولية للشيخ محمد حسين النائيني(1355هـ) وللسيد أبي الحسن الاصفهاني(ت 1365هـ)- مع اشتهاره بكونه فقيهاً- وتقريرا ته الفقهية للشيخ أغا ضياء الدين العراقي(1361هـ) – مع اشتهاره بكونه اصولياً- وسواها من آثاره القيّمة.
ت – وحفزت الى تحقيقها من خلال طريقة الرسائل الجامعية؛لما في ذلك من جهد علمي يظهر الخصائص ويقيّم البحوث بموضوعية.
ث – و شجعت الأخ الفاضل حيدر المالكي على تناول سيرة الشيخ من خلال مقال ينشر في مجلة (ينابيع).
ج – و تحدثت في عقب درس الدراية والرجال الى الطلاب الكرام عن أهمية إحياء تراث الشيخ والإشادة بخدماته الجليلة،فكان أن ابتدر الأخ الفاضل الدكتور علي خضير حجّي بالقول ليكن ذلك في بداية العام الدراسي 2006-2007م كأول نشاط دأبت عليه كلية الفقه، وقد عمل على عرض الأمر ومناقشته في مجلس الكلية ،وفعلاً تجاوب الجميع فجزاهم الله خيراً إذ كانوا من مصاديق الرواية الشريفة السابقة.
وحقاً ما يروى عن الإمام أمير المؤمنين a (اكتسبوا العلم يكسبكم الحياة)غرر الحِكَم 1736 ؛إذ أننا نحيا بالعلم،وبدونه فنموت وإن حيينا.
وقد انتظم البحث في توطئة ومقدمة وفصلين وخاتمة.
وفي الختام أسأله تعالى إدامة التوفيق للجميع والقبول منهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.
النجف الأشرف
ليلة27/شوال/1427هـ
محمد صادق الموسوي الخرسان
مقدمة
إن الحديث عن شخصية علمية كشيخنا الحلي يحتاج الى الدقة وتوخي الموضوعية؛لما تميز به من مميزات تجعل منه عَلَماً من أعلام مدرسة النجف الأشرف؛ إذ مازال يسجل حضوراً علمياً ذا بُعدٍ معرفي غير تقليدي،وهاهو قد مضى على رحيله ثلاث وثلاثون سنة، ومازال نتفيأ ظلاله،ونتزود من عطائه،وسأقتصر في حديثي عنه اليكم عن ميزتين مهمتين لم تفقدا بريقهما الفكري حتى هذه المرحلة مع ما لها من سمات التجديد والحداثة؛إذ نجده الفقيه السبعيني الذي يبحث استدلالياً عن موضوعات عصرية ذات صلة مباشرة عملية بأجيالٍ قادمة،الأمر الذي يجعل من بحثها على مستوى البحث الخارج وقبل ما يقرب من خمسة عقود زمنية،قضية تستحق الدراسة والتحليل للموضوعات العلمية المبحوثة،كما تتطلب التقدير والتبجيل لشخصية العالم الباحث،كما وجدناه وهو يعيش في هذا المناخ العلمي الحوزوي يبحث بعض المسائل فيعرضها باسلوب المقارنة،الأمر الذي ييسر للمتلقي التعرف على مستويات فكرية متعددة بتعدد الانتماءات المذهبية التي اختارت السير على خطوطها الفكرية،وبالتالي يهيء الفرصة للوصول الى معرفة الرأي الصحيح بعد إخضاعه لمقاييس التحقيق، ولابد من تسليط الضوء على كلٍ من الميزتين.
إننا نؤمن بأن الإسلام دين الحياة، بل(إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْأِسْلامُ)(آل عمران: من الآية19)؛الأمر الذي يؤكد ضرورة تعاطيه مع مفردات الحياة بما ينسجم والحالة المُثلى، وإلا لما تهيأ له الاستمرار حتى يرث الله الأرض ومَنْ عليها؛فقد غطى مساحة واسعة مما تتخلله حاجة الإنسان ويحتك به في معاشه أو معاده،ولم يقتصر على جانب دون آخر،بل ان القرآن( بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: من الآية138)،فلم تشذ عنه واقعة من الوقائع التي يحتاج المكلفون الى معرفة حكمهاالا كان فيه ما يعينهم على ذلك؛فلذا نجد أن الفقهاء استنبطوا احكاماً لموضوعاتٍ ابتلائية وسواها، ومنها المستحدثات التي أفرزتها طبيعة العصر وما يقتضيه من تطوير في الاسلوب أو تغيير في المنهج الحياتي؛ رغبة في التيسير والسرعة،إلا أن بعض تلك الموضوعات تشتبك مع بعض المباديء الشرعية، لذا كان لزاماً التفكير في حلِّ الأزمة ومسايرة العصر وعدم التخلف عن ركب الحضارة من دون تضحية بالثوابت.
وإن من الأوائل البارزين الذين نشرت بحوثهم العلمية في هذا المجال العملي ووصلتنا هو سماحة المحقق آية الله الشيخ حسين الحلي فقد بحث حول:
1.التأمين على الحياة،وهو:
(اتفاق بين الشركة وطالب التأمين،وبمقتضاه يتعهد الطرف الأول بأن يدفع للطرف الثاني مبلغاً معيناً من المال أو ما يساويه بمجرد وقوع حادث معين مبين في وثيقة العقد في مقابل أن يدفع أو يتعهد بدفع مبلغ يتفق عليه الطرفان يسمى بقسط التأمين)
ظ/بحوث فقهية بتصرف16.
2.اليانصيب،وهو:
(عملية يتوخى من ورائها جمع المال أو تفريقه لغرضٍ مّا عن طريق بيع أو توزيع بطاقات معينة
تصدرها جهة خاصة مع تعيين جوائز للفائزين)
م . ن بتصرف51 .
3.الأوراق النقدية والطوابع البريدية وتذاكر وسائل النقل وهي:
إصدارات اعتبارية تصدرها جهة عامة أو خاصة لأغراض عقلائية معينة .
4.أعمال البنوك والمصارف،الشاملة للإيداع، والتوفير، والكفالات، والحوالات، وتحصيل الشيكات، وتحصيل الأوراق التجارية، والحسابات الجارية،وبيع وشراء الأسهم والسندات،والكمبيالات،والأعتمادات المستندية،وخطاب الاعتماد،ومعاملات مصارف الرهون والعقار والصناعي .
5.السرقفلية،وهي:
(أن يتنازل المستأجر عما تحت تصرفه من إيجار المحل الذي يشغله الى الآخر ويتقاضى إزاء هذه العملية مقداراً من المال يتفق عليه الطرفان).
م . ن 147.
6.إزالة الشيوع،وهو:
(فيما لو وقع النزاع بين الشركاء في شيء تمتنع قسمته) م .ن بتصرف169.
7.حقوق المرأة الزوجية،وقد جاء بحثه لها كواحد من الردود العلمية الرصينة لمَنْ يتوهم غمط حقوقها في الإسلام،أو كون الأحكام الشرعية في صف الرجل دائماً،فأوضح عكس ذلك في بعض الحالات.
انظر بحوث فقهية 190-191-213 .
8.الشوارع المستحدثة من قبل الدولة،وقد وسع في ذلك على الناس بالرجوع الى الحاكم الشرعي، بعد أن اعتبر(عدم قصور أدلة ولاية الحاكم عن مثل ذلك).
م .ن246.
9.طبيعة التعامل مع الوقف على البِِيَع والكنائس.
وإذا ما عرفنا زمان ومكان البحث،فسيتضح عمق التفكير في هذه المدرسة التي أنجبت الشيخ الحلي،ومدى الاهتمام بتكييف الموضوعات الحياتية فقهياً بما لا يترك فراغاً في حياة الفرد وطبيعة تفاعله اليومي مع أفراد المجتمع،بل قد تتخذ –هذه الموضوعات - واقعاً فاعلاً كونها تتحرك بقوة في مجالات الداخل البيتي أو الخارج التجاري، وتتضح أهميتها عند معرفة المترتبات الفعلية على إنجاز عملية الاستدلال الفقهي على صحة ذلك أو فساده،فهناك فوائد اقتصادية واجتماعية ونفسية وقانونية وسواها مما يُعدّ نتيجة لكلٍ من هذه الموضوعات كما هو الحال في التأمين على الحياة ،أو ما يحدثه التعامل بأوراق اليانصيب من ارتفاع في ضغط المال للبعض فينتشي،أو في ضغط الدم فينتكس،مع ما يؤثره من آثار سلبية كالبطالة وما تفرزه من الجرائم والحوادث،أوالدلالات المالية للنقود أو الشيكات ونحوها حتى ليشمل البطاقات الآلية المعاصرة؛كونها ترمز للالتزام حسب السياقات الخاصة،أو الآثار المترتبة على التعاملات الربوية وما تحدثه من إنهاك اقتصادي لبعض الطبقات،وما يحصل من آثار معنوية سيئة نتيجة أخذ السرقفلية،أو إزالة الشيوع،أو غصب الآخرين،فضلاً عما يحدث جراء عدم إنصاف المرأة- الزوجة- من تعسفٍ الزوج في استعمال الحق.
وخلاصة القول أن بحث هذه المستحدثات يشكل علامة بارزة في الأفق العلمي على مدى سعة باع الفقيه الذي يعيش هموم عصره ويشارك في إيجاد الحلول لها،كما ينبئنا أن السن وإن علت، والحدود من حوالي الإنسان وإن ضُيّقت،فلا تحدد نشاط العالم وحركته العلمية،بل يخوض غمار الفرضيات العلمية ويبدع في استنباط أحكامها الشرعية،وإن الثمرة المرجوة من تلك الجهود كلها هي أن يتأكد الإنسان أن الله تعالى لم يكلفه فوق طاقته،بل أتاح له سبيل الوصول الى مرضاته،ويسر ذلك بتذليل صعوبات المكان أو الزمان وسائر ما يصحبهما مما يعترض سير العبد نحو مولاه تعالى.
إذا ابتنت النتائج العلمية على مقدمات محققة،كانت الحجة أقوى، والدليل أمتن،وبخلافه يسهل الإيراد ،ويكثر الإشكال،والمتتبع للمنهج العلمي الذي التزمه الشيخ الحلي يجده محققاً في ما يختار-وإن لم يوافقه لاختلاف المبنى أو المنهج بينهما-؛إذ يسير في طريق إثبات المطلوب خطوة بعد أخرى،فيسايره المتلقي ويستمد منه اسلوب التعاطي المناسب مع هذه المسألة في حل دليلها،أو النقض عليه،وهي سيرة تربي الطالب وتؤهله لتحصيل الملَكة ببناء محكم،ولاسيما وأنه يتنوع في تحقيقاته أصولياً ولغوياً ورجالياً-وإن التزم الإشارة في الأخير-،ومن شواهد تحقيقه ما أفاده في مسألة تحديد الكر وزناً فبعد استعراضه لبعض كلمات المتقدمين من اللغويين في تحديد الرطل وأنه كيل أو وزن خلص الى القول(فالرطل أصبح مختلفاً فيه فكان مجملاً لا محالة،ولابد لنا من مراجعة الأخبار علّنا نجد التفسير الصحيح ) الدليل 1/79،ثم راجعها فلم تسعفه بما يبين الإجمال في روايات التحديد بالوزن لقوة احتمال كون المراد به الكيل ،فقال(...الحق أن التحديد بالأرطال لم يعلم المراد منه على التحقيق فلا يصلح للتعيين)م . ن83
وإن هذا الاستعراض لكلمات المتخصصين وللاخباربقيمتيه العددية والدلالية يغني الطالب بل يثريه،فيتعود أن يؤسس بنفسه ما يروم تشييده لتكون آراؤه بحق وصدق،ولا يتعود اسلوب التوافق في الآراء؛لأن مصادرة جهد الغير تذهب برونق النسبة للذات.
وإنني أعتقد أنه لو لم تكن لشيخنا سوى هذه الميزة لكفاه فخراً أنه فقيه يُعمِل نظره بجد، كيف وله حسنة أخرى –وهو كثير الحسنات – ألا وهي المقارنة بين آراء المذاهب ،بما يحدث مناخا لاستعراض الرؤى المختلفة واستلال الصحيح القويم منها، ويشهد لذلك موارد عديدة ومنها بحثه في مسألة تصفية الوقف الذري –إزالة الشيوع- ظ /بحوث فقهية159،مبيناً عدم الجواز على مذهب الجعفرية والشافعية والمالكية والحنابلة،والجواز بشرط على رأي الحنفية،مع توقف الإباضية،ومنها بحثه الكرّي السابق ظ/دليل العروة الوثقى -1/82،فإن الغاية الوصول الى بيان الحق الذي هو الأحق بالإتباع،ومن الوسائل المتحضرة المقبولة عرض الآراء واستعراض الأدلة واختيار الاقوم،وهي المقارنة التي تعدّ اسلوباً إعلاميا ًللمذهب.
1 – يبقى أن أشير الى أنه قد ذكر قدس سره في الصورة الثانية -من بحثه حول الوقف على جهة مخصوصة مما حققه في موضوع الشوارع المفتوحة من قبل الدولة-( أن يقول المالك وقفت هذا المكان بِيعةً لعباد الله إذا كانوا يهوداً.....معتقداً...اليهودي أن عباد الله إنما هم جماعتهم وكذا المسيحي.....وفي هذه الصورة يقع الوقف صحيحاً؛لأن هذا الوقف في الحقيقة لنا نحن المسلمين لأنا عباد الله الحقيقون،وأما أولئك فعباداتهم باطلة وهم كفرة فليسوا بعبيد الله) بحوث فقهية262.
فيتوجه السؤال أنهم لو لم يكونوا عبيداً له تعالى فلمَنْ؟!
ولذلك الأظهر إرادته أنهم ليسوا عُبّاداً لله؛لاعتقادنا ببطلان عبادتهم، وبالتالي فلم يعبدوه،فلا ينطبق عنوان عابد وهو الموقوف عليه، ولو انطبق عنوان عبد الذي هو مفرد عبيد.
2- كما أنه في نهاية بحثه المشار اليه لم يشر الى الفرق الحكمي بين المساجد وغيرها من البِيَع والكنائس، مع أن الكلام-بدواً – عنها تحديداً.
نعم قد يجاب بشمول المساجد لاماكن العبادة بعامة؛كونها محلاً لتعبد الأمم كلاً بطريقته الخاصة.
لكنه خلاف الانصراف لدى الإطلاق، ولا يصححه ما أدعي من أن(الشائع التعبير عن البيع والكنائس بمساجد اليهود والنصارى وان ما حصل من الاختلاف فإنما هو في الاسم لا أكثر) بحوث فقهية257،فانه خلاف المتعارف المرتكز،فعهدته على مدعيه.
3 – يلاحظ على مقرريَ البحث عدم توثيق المنقولات عن مصادر فقهية أو لغوية أو سواها،بما يبين الجزء والصفحة وسواها من معلومات مهمة.
4 –كما يلاحظ على مقرر البحوث الفقهية عدم توحيده لطريقة العرض للمطالب،فقد يعرضها بعبارته،ولعل هذا خلاف كون الكتاب تقريراً يحافظ على نصوص عبارات الأستاذ،وإن كان كذلك فلماذا لم يشر له،ومما يؤكد وجاهة التساؤل هو ما يظهر في مواضع عديدة من تصريحه بنص عبارة الشيخ،أو لعله بنى على عرض المطلب مجموعاً منهما.
5 – وحبذا لو حققت تقريرات بحوثه قدس سره بما يتناسب والعمق العلمي لها،وعسى أن يتحقق ذلك قريباً فانه ليس على الله ببعيد.
وأخيراً فجزى الله خيراً شيخنا الحلي وتلميذيه الحافظين لجهوده العلمية المباركة السعيدين السيد عز الدين بحر العلوم والشيخ حسن سعيد الطهراني،مع التمنيات بسنوح فرصة أخرى للحديث والبحث حول شخصية شيخنا وآثاره العلمية النفيسة،ومن الله التوفيق.