لقد أراد لنا الأسلام الحنيف أن يكون حوارنا وجدالنا مع بعضنا البعض منطلقاً من الرغبة في الوصول إلى الحقيقة ، وإكتشاف المصلحة المشتركة ، ويريد للأنسان عندما يفكر مع الآخر أو عندما يحاوره أو يجادله ، أن تكون نيته نية إصلاحية بعيدة عن النية العدوانية ، لأن بعض الناس ربما يجادلون لغرض القمع الفكري أو لتسقيط الأشخاص أو لغرض العداوة والبغضاء في نفوسهم !
ويحدثنا القرآن الكريم عن فريق من الناس ممن يمارسون الجدال مع الآخرين بطريقة عدوانية وشرسة ، بحيث يتحركون من خلال عناصر الأثارة والعاطفة في نفوسهم وليس من خلال العقل ..قال تعالى :[ويجادل الذين كفروا بالباطل ليدحضوا به الحق ] الكهف 56.. فهؤلاء لايستهدفون الحق بمحاولة إثارة أفكار الباطل التي لاترتكز على أية حقيقة فكرية أو أية موضوعية عقلية ، من أجل أن يدحضوا الحق بأساليب السخرية والعناد والأستهزاء، مما لايملك المجادل الواعي معهم أية فرصة للدخول في قضايا الفكر والعقل ، لأنهم لاينفتحون بأسماعهم على مايسمعون ، ولا بأبصارهم على مايقرأون ، الأمر الذي يجعل الجدال معهم جهدا ً ضائعاً ،لايحقق غرضاً ولايؤدي إلى نتيجة إيجابية لمصلحة الوصول إلى الحقيقة بأسلوب الحوار ..!
وفي عصرنا الراهن هناك الكثير من الأتجاهات والأفكار الموجودة في ساحتنا المحلية والعالمية ، فكيف نستطيع أن نواجهها ؟ وما هو الأسلوب الذي ينبغي أن نتبعه معهم ؟هل نترك الحوار والجدال معهم ..أم نعطيهم الحرية في هذا المجال ؟
إن القرآن الكريم هو كتاب الحوار ، وقد أعطى المشركين المجال أن يقدموا كل ماعندهم ، ونقل لنا ماكانوا يثيرونه ضد الرسول المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم وضد الأنبياء عليهم السلام من قبله ، وهذه هي عظمة القرآن الكريم ، فمن أين عرفنا أنهم كانوا يقولون عن الأنبياء مثلاً بأنهم مجانين ؟ ومن الذي خّلد لنا القول بأنهم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم عن القرآن [ وقالوا أساطير الأولين إكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً ] الفرقان 5..ومن أين عرفنا أيضاً أنهم كانوا يقولون عن النبي إنه شاعر وإنه ساحر ، من الذي خلدّ لنا هذه الأشياء ؟ إنه القرآن ، وقد خلدها لنا لنعرف كيف واجه النبي هذا المجتمع الذي كان يطلق هذه الأفكار التي لم تكن أفكاراً علمية ولاموضوعية ولاثقافية ، وكان النبي يرد عليها ، وكذلك القرآن الكريم .
لذلك فأن موقفنا مع أهل الباطل هو موقف القرآن الكريم ، ونستمع إليهم ونرد عليهم ونناقشهم ، ونحاول أن ندخل في جدال معهم ،ولكن بشرط أن يكونوا موضوعيين غير فوضويين ولاعاطفيين ، أي أنهم يجب أن لا يجادلوا على أساس عناصر الأثارة أو عناصر السخرية والأستهزاء ، أو أنهم معبأون في [ثلاجة الحكم المسبق] الذي لانقاش فيه !!
وهناك الكثير من الناس [ اليوم ] ممن يأخذون بأسباب الجدل من دون أن يملكوا ثقافة الموضوع الذي يجادلون فيه ، بل أنهم يتحركون من مواقع الجهل الذي يسيطر على ذهنياتهم التي لاتحمل أي نوع من أنواع العلم ، قال تعالى : [ ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ولاهدى ولاكتاب منير ] الحج 8 ، وقوله تعالى : [ومن الناس من يجادل في الله بغير علم ويتبع كل شيطان مريد ] الحج 3..
فهؤلاء لاينطلقون في جدالهم مع الرساليين وأهل العلم والثقافةوغيرهم من أية وسيلة لدراسة المسألة في معطياتها الفكرية ، فهم لايملكون الهدى الذي يضيء لهم طريق الحق والصواب ، ولاينفتحون على العلم الذي يثبت لهم الحقائق كل يوم من عمر الدنيا ،ولايرجعون إلى مصادرهم وتراثهم الثقافي والفكري ، ولكنهم يتبعون في إلتزاماتهم الجدلية وسلوكياتهم المضادة يتبعون الشياطين والمتمردين على الحق والعلم والتاريخ ، والمتحركين في إتجاه الباطل !!
إن أمثال هؤلاء ، لايطلبون الحصول على المعرفة التي تفتح لهم أبواب التفكير الذي يلتقي مع الآخر الذي يلتزم البحث العلمي ومنهجه القويم ، فلا يستمعون إلى وجهة نظره في عملية البحث والمناقشة ، أو في عملية الأشارة والدليل والأستشارة ، لأنهم أغلقوا عقولهم عن الحركة الفكرية ، تماماً كالأشخاص الذين يملكون عقولاً لايفكرون بها ، وآذاناً لايسمعون بها ، وأعيناً لايبصرون بها ، بل هم في موقع الجمود الثقافي والروحي والفكري ،لايتقدمون إلى الأمام خطوة واحدة للتعرف إلى آفاق العلم والفكر الآخر أو الموقف الآخر ، ومن الطبيعي أن مثل هؤلاء لايلتقون مع الناصحين في موقع المسؤولية المشتركة التي يطرح فيها الأنسان وجهة نظره ،لأنهم يخافون أن تفتح تلك الأفكار الجديدة نافذة الخطأ على عقولهم وأفكارهم التي آمنوا بها وإطمأنوا إليها ، فهم مع الأسف الشديد قد عطلوا عقولهم وتركوا غيرهم يفكر نيابة عنهم، ويقرر لهم ماعليهم أن ينطقوا به أو يتكلموا عنه ، فأصبحوا مجرد إمعّات وتوابع ، فصاروا كالأنعام أو هم أظلُ سبيلاً !!