قال تعالى: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاء وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ}.. في هذه الآية الكريمة تعداد لبعض مظاهر الحياة الدنيا من الشهوات المزينة للناس، ما هو مضمون هذه الآية؟..
إن هذه الآية من أجمع الآيات القرآنية، وأكملها في بيان عناصر الشهوات في الحياة الدنيا.. وهي تتضمن محطات للتأمل والتفكير، منها:
* إن التعبير في كلمة {زُيِّنَ} بصيغة المجهول فتح مجالاً للعلماء؛ للبحث عن الفاعل من هو، هل هو رب العالمين، أم هو الشيطان الرجيم؟.. ولبيان ذلك لابد من دراسة كل الآيات المتناولة للشهوات والزينة في القرآن الكريم؛ لنلاحظ أن القرآن الكريم أسند الزينة إلى رب العالمين تارة: {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ}، {جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا}.. وإلى الشيطان تارة أخرى: {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}، {قَالَ رَبِّ بِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ} .. ومن هنا نكتشف أن الشيطان زين الأعمال، ورب العالمين زين ما على الأرض من الطيبات التي أخرجها لعباده.. معنى ذلك أن الله زين هذه الذوات: النساء، والقناطير المقنطرة، والخيل المسومة، والأنعام، والحرث؛ وهي في حد ذاتها زينة إلهية أكرمنا الله تعالى بها.. لكن المشكلة في علاقة الإنسان السلبية بهذه الوجودات، التي جعلها الله تعالى؛ لأجل استمرارية الحياة، ولهذا تجد هذا التعبير الذمي لهذه العلاقة.
* إن الذين يحاربون عناصر هذه الحياة الدنيا كالمتزهدة وغيرهم، أخطؤوا في سلوك طريق الزهد،واشتبهوا في نظرتهم إزاء ما على الأرض من زينة.. وفي كلمة جامعة نلاحظ أن الزهد فسر تفسيراً بليغاً: (ليس الزهد أن لا تملك شيئاً، بل الزهد أن لا يملكك شيء)، وعن أمير المؤمنين علي (ع) قال: ( لو أن رجلاً أخذ جميع ما في الأرض، وأراد به وجه الله تعالى؛ فهو زاهد.. ولو أنه ترك الجميع، ولم يرد وجه الله تعالى؛ فليس بزاهد).. وهذا ما نراه في نبي الله سليمان (ع)، الذي أعطي ذلك الملك الخيالي: الرياح، والجن، ومنطق الطير.. وهو قطعاً من الزاهدين، وإلا لم يكن نبياً.. وأما الذي يترك الدنيا، ويريد بذلك جلب قلوب الخلق؛ فهو بعيد كل البعد عن هذا المعنى الأخلاقي السامي.
* بعد آية الشهوات مباشرة تأتي هذه الآية الجميلة: {قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ}.. لتعد المتقين الذين تجاوزوا بأنفسهم عن الانغماس، والتعلق بالشهوات الدنية الفانية، بأن لهم عند ربهم من النعيم الذي لا يخطر على قلب بشر من الجنات والحور والقصور.. أضف إلى ذلك الرضوان الإلهي.. فإن كانت الحور والقصور غير ممكنة لأهل الدنيا، إلا أن المؤمن بإمكانه بعمليات معينة، أن يستصحب هذه الحالة النفسية في القلب من السكون والاطمئنان.