انطلق وهو تلميذ ابن عمه الشهيد السعيد الصدر الذي تتلمذ عليه، وعاش حياته معه، وكان الشهيد الصدر يتنبأ بأنه سوف يكون له شأن كبير في حركة العلم والبحث والانفتاح، حيث كتب هذا في مقدمة موسوعة الإمام المهدي ـ عجل الله فرجه ـ التي ألفها السيد محمد الصدر. وعاش آلام شهادة الشهيد السعيد وآلام شهادة أخته العلوية بنت الهدى، وعاش مأساة العراق، ودخل السجن وعاش الاضطهاد، وانطلق في خط المرجعية، وظلمه الكثيرون ولا يزالون يظلمونه عندما قالوا عنه (إنه مرجع السلطة)، وقالوا عنه كلمات كنا نرى منذ البداية أنه يأثم صاحبها.
إني أعتقد أن هؤلاء لو كانوا في زمن الأئمة (عليهم السلام)، لاتهموهم بولائهم للسلطة، لأن الذهنية هي الذهنية. لذلك إنني أتصور طيبته وطهارته وصفاء نفسه، وأتصور أنه كان يرى ـ سواء ناقشته في ما يرى أو لم تناقشه ـ أنه يستطيع أن يقوم بخدمة الإسلام، باعتبار ما يعتقده من تقية أو ما أشبه ذلك.
لم ينقل عنه في كل حركة مرجعيته أنه قال كلمة في السلطة بالطريقة التي توحي أنه يؤيِّدها، فمن الناحية السياسية أو الفكرية على الأقل، أنا لم أسمع ذلك ولم يُنقل لي ذلك، من الممكن أنه كان هناك نوع من الهدنة أو نوع من المداراة التي كان يرى باجتهاده أنها مشروعة، ولاسيما في العراق الذي تتميّز حكومته بأنها من أكثر الأنظمة شراسةً في الجريمة. لذلك، أن تكون خارج العراق لتعلق على بعض المواقف شيء، وأن تكون في داخل الزنزانة حتى وأنت تتحرك في مدينتك شيء آخر.
وعليه، لا بدَّ من أن ندرس كلَّ ظروف أهلنا وأخواننا، وعلى الإنسان المؤمن عندما يريد أن يحكم على أي شخص، ولاسيما في مثل هذا الرجل الذي ملأ الثقافة الإسلامية علماً وفقهاً، أن يدرس ظروفه النفسية وظروف الساحة وظروف الواقع الذي كان يعيشه. إننا أصبحنا نقلب كلمة علي (عليه السلام) الذي قال: "ضع أمر أخيك على أحسنه، ولا تظننَّ بكلمة خرجت من أخيك سوءاً وأنت تجد لها في الخير محملاً"، فـأصبحت المسألة (ضع أمر أخيك على أسوأه، ولا تظننَّ بكلمة خرجت من أخيك خيراً وأنت تجد لها في السوء محملاً). أصبحنا نغلِّب احتمالات الشرّ على احتمالات الخير، ونظلم الناس على هذا الأساس، ونحن نعرف القاعدة الحضارية الإنسانية التي تقول: (المتهم بريء حتى تثبت إدانته). وقضية الإدانة تحتاج إلى حيثيّات في دراسة الموقف والكلمة؛ لأن من الممكن أن تكون هناك بعض الظروف الدقيقة التي لا تسمح له أن يتكلم بكلمة. نحن نقرأ في أحاديث أهل البيت(عليهم السلام) كيف كانوا يواجهون الظروف التي كانت تحيط بهم بأسلوب المداراة حفظاً للخط، حتى يستمر الخط الأصيل، وحتى يمكن حماية المعارضة والجهات الممانعة. من الطبيعي أن للتقية حدوداً، ومن الطبيعي أن لها برامج وقوانين، ولكن علينا أن لا نعذر أنفسنا في ما لا نعذر به الناس: "اجعل نفسك ميزاناً بينك وبين غيرك، فأحبب لغيرك ما تحب لنفسك".
إنَّ الكثيرين الذي يسجّلون ملاحظات قاسية، لو كانوا في الموقع نفسه ماذا يفعلون؟ نحن لا نريد أن نتبنى كل الأسلوب، فقد يكون لنا رأي في أسلوب معين أو أسلوب آخر، وقد نعارض أسلوباً ونؤيد آخر، ولكن هناك فرقاً بين أن تعارض أسلوباً معيناً لتجد أنه خطأ، وأن تحكم على الذي يمارس هذا الأسلوب بالخيانة، وبما أشبه ذلك من الكلمات التي تحدَّث بها البعض، وهناك من قد يخطىء في فكره، ولكنه قد يكون معذوراً. ونحن من نتمسك بقول: "إن المجتهد إن أصاب فله أجران وإن أخطأ فله أجرٌ واحد".
إننا عندما ندرس ممارسته الثورية في صلاة الجمعة التي استطاعت أن تعيد هذه الروح الإسلامية التي غابت من الشارع الإسلامي في ظلّ الضغوط التي حصلت وأدّت إلى إلغاء مجالس العزاء والمواكب الحسينية وإلغاء كلّ الحريات، ولم يبق إلاّ الزيارات لمقامات الأئمة(ع) كمتنفس وحيد لهم...
فقد كان ـ بحق ـ المعارضة والثورة الصامتة، وعندما جاءت صلاة الجمعة، استطاعت أن تكون المتنفَّس للكلمة الدينية والموعظة والكلمة الإسلامية، ولذلك أيَّدناه بكل قوة، لأن صلاة الجمعة هي الصلاة التي حرمنا منها في مدى القرون الأولى، ولأنها الصلاة التي تجمع المسلمين في كلِّ منطقة ليلتقوا في أجوائها، وليسمعوا الكلمات التي تتَّصل بحياتهم.
وقد لاحظنا في المدة الأخيرة كيف بدأ يخرج من هذا الطوق، ويتكلم بكلمات فيها من المعارضة الشيء الكثير، ومن النقد للسلطة، وأعتقد أن هذه الجريمة رد فعل لما أثاره من التهديد للسلطة، ولما يمكن أن يقوم به الناس ضدها إذا لم تطلق سراح أئمة الجمعة الذين سجنتهم. وإنني أتصور أن هذا الموقف كان قمةً في إطلاق كلمة الحق، ولعل السلطة لم تصبر على ذلك، لأنها لا تتحمل أن تُقال كلمة قوية في وجهها، لم تكن تتصور أن الوضع سوف يمتد إلى هذا الالتفاف الجماهيري، ولذلك ربما خطَّطت لشيء، لكنها اصطدمت بشيء ربما يهدد وضعها في المستقبل، لأن هناك صلاة تجمع الناس، وعندما يجتمع الناس في صلاة واعية، فإن من الطبيعي أن ينفتح هذا الوعي ويتحرك ويعبّر عن نفسه، ولاسيما في هذه الظروف السياسية التي تحاصر السلطة الصدّامية عربياً ودولياً كما تحاصرها محلياً.
لذلك، إننا نعتقد أنه الشهيد المظلوم، أنه الرجل الذي أعطى الإسلام الكثير في كتبه، وانطلق من أجل أن يؤكد حركة الإسلام بحسب ما يتسع له ظرفه، ولا يجوز أن يُتحدث عنه بسوء. قد يملك أحد أن يتحدث عن خطأ في الأسلوب أو خطأ اجتهادي كما يتحدث المجتهدون، لكن أن يتحدث عنه بسوء، فهذا ظلم له. لذلك نقول لكل الذين يتحدثون أو ينتقدون: لقد ظُلم هذا الإنسان الكبير من قبل طاغية العراق، فلا تضيفوا إلى ظلامته ظلامة أخرى، لقد اغتاله النظام الطاغي جسدياً فلا تغتالوه معنوياً، ومن الممكن كما قلت أكثر من مرة في هذا الحديث، أن تناقشوا بعض كلماته أو أساليبه، ولكنكم لن تستطيعوا أن تناقشوا أنه كان صالحاً تقياً يخاف الله ويعمل بما يعتقد أن الله يعذره فيه.
إننا نشعر بخسارة كبيرة جداً، وبظلامة كبيرة جداً، ونشعر بالمأزق الذي يعيشه هذا الشعب الذي عذِّب كثيراً من حاكمه، وعذِّب من الواقع الدولي، ولا يزال يُعذَّب جوعاً وتشريداً وقتلاً وما إلى ذلك، ولعل من أشد عذاباته هو ما يعانيه الآن من هذه الجريمة، ولا ندري كيف يكون رد الفعل هناك؟ وقد سمعنا أن هناك ردود فعل غاضبة، ولكننا نعرف أن العراق كله يعيش في بلد تحكمه المخابرات ويحكمه الحديد والنار.
فليكن الصوت واحداً ضدّ هذه الجريمة، ولا تتركوا للخطوط هنا وللخطوط هناك أن تتحرّك بين من يشمت وبين من يأثم في كلماته. ليكن الصوت واحداً، لقد كان هذا الرجل شهيداً مظلوماً عاش من أجل الإسلام، ومات من أجل الإسلام، وعلينا أن نعمل ونحفظ البقية الباقية من الحوزة العلمية في النجف الأشرف، التي اغتالها النظام، ومن المراجع الذين كانوا ولا يزالون في خطر ))