إن المؤمن إذا تكلم، فإنه يدرس ما يقول دراسة عبد مراقب لنفسه، ويضع دائماً نصب عينيه هذه الآية الكريمة: ?مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ?.. فالإنسان عندما يريد أن يذّم، لابد أن يعلم أن الذم قريب للغيبة؛ لأن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما يكرهه.. وبالنسبة إلى المدح أيضاً يجب أن يكون المؤمن مراقباً لنفسه، فلا يمدح من لا يستحق المديح، حيث أن هناك ضوابط شرعية لهذا الأمر.
أثر المدح..
1. عن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم : (إذَا مُدَحَ الْفَاجِر: اهْتَزَّ الْعَرْشَ، وَغَضَبَ الرَّبِّ)!..
إن الفاجر ينبغي ألا يُمدح، لأنه إنسان يخالف رب العالمين، ويتحداه بمعصيته؛ فأي مدح يستحق هذا الفاجر؟!.. وكلما زاد فجوره، كانت المسؤولية أعظم!.. فإن كان يخاف من الفاجر؛ عليه ألا يذّمه ولكنه أيضاً ليس ملزماً بمدحه!.. بعض الناس يتعجب من قساوة قلبه، رغم أنه لم يعص الله عز وجل؛ ولكن عندما يتأمل جيداً، يرى أنه تورط في مدح الفجار، وهذا من موجبات غضب الله عز وجل.
2. يقول الإمام علي عليه السلام: (مَن مَدَحَك؛ فقد ذَبَحك).. أي: احذر المدح؛ فإنه في حكم الذبح!.. فلو عملنا بهذه الروايات؛ لكنا على خير!.. هناك من يدفع المال ليُمدح كأيام الانتخابات وغيره، بينما المؤمن إذا مُدح أخذته القشعريرة، يخاف من المدح؛ لأنه يخاف أن يُصدق ما يُقال فيه!.. فمثلاً: لو أن هناك إنساناً ذهب إلى السوق، فارتكب معصية، ثم بعد ذلك ذهب إلى الحمام واغتسل وترطب وتطيب بالبخور، فيراه أحدهم فيقول له: ما أشد النور في وجهك!.. أو أنك أصبحت نورانياً!.. هذا النور هو نور الحمام والنظافة، ولكن ذاك الشخص يتعدى من نظافة الظاهر إلى نظافة الباطن.. رغم أن هذا المؤمن قد ارتكب معصية في ذلك اليوم، ولكن ذاك الشخص لا علم له بالأمر.. وإذا بالممدوح كأنه يصدق ما يُقال عنه.
الميزان..
1. يقول الإمام علي عليه السلام: (أيها الناس!.. اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه، ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه).. إن بعض الناس مبتلى بمرض الحساسية، كحساسية الجلد وغيره.. وبعضهم مبتلى بحساسية في القول؛ فيتأثر بكل كلام يقال فيه سواء كان إيجاباً أو سلباً!..
-(اعلموا أنه ليس بعاقل من انزعج من قول الزور فيه).. إن كان ذاك الإنسان يقول كلاماً باطلاً؛ فلمَ الانزعاج!.. عليه أن ينظر إلى الواقع: إن كان مقصراً؛ فلينزعج، وإلا فلا!..
-(ولا بحكيم من رضي بثناء الجاهل عليه).. هذه عادة الملوك، عندما يُمدحون يصدقون ما يُقال فيهم، فـ "أعذب الشعر أكذبه" كما يقولون!.. ولكن العاقل لا يهتم بثناء الناس ولا بذمهم؛ إنما يهتم بواقعه!..
2. عن الإمام الصادق عليه السلام: (لا يصير العبد عبداً خالصاً لله عز وجل؛ حتى يصير المدح والذم عنده سواء!.. لأن الممدوح عند الله عز وجل لا يصير مذموماً بذمهم، وكذلك المذموم.. فلا تفرح بمدح أحد؛ فإنه لا يزيد في منزلتك عند الله، ولا يغنيك عن المحكوم لك والمقدور عليك.. ولا تحزن أيضاً بذم أحد؛ فإنه لا ينقص عنك به ذره)..
يا له من حديث!.. إذا أراد الإنسان أن يعلم إخلاصه من عدمه، فإن هناك ضابطة ومعادلة، هي أن يصبح المدح والذم عنده سواء، ولكن قلّ من وصل إلى هذه الدرجة!.. فالمدح إن كشف عن واقع؛ هذا أمر طيب.. والذم إن كشف عن عيب؛ فإنه يتابعه ويصلحه.. وإلا فإن الذم والمدح عنده سواء!..
3. عن الإمام علي عليه السلام: (اللَّهُمَّ!.. إِنَّكَ أَعْلَمُ بِي مِنْ نَفْسِي، وَأَنَا أَعْلَمُ بِنَفْسِي مِنْهُمْ.. اللَّهُمَّ!.. اجْعَلْنَا خَيْراً مِمَّا يَظُنُّونَ، وَاغْفِرْ لَنَا مَا لاَ يَعْلَمُونَ).. إن بعض الناس لا يحب المديح، ولكن إنْ مُدح فعليه بهذا الدعاء!.. فإن كان مدحهم صادقاً، فليسل الله المزيد.. وإن كان المدح كاذباً؛ يستغفر الله مما هو فيه.
مدح النفس..
أولاً: هل يجوز أن يمدح الإنسان نفسه، وخاصة إذا كان في صدد تقديم طلب للعمل، ويقدم ما يُسمى بـ:"السيرة الذاتية"؟.. إن الأئمة عليهم السلام أصحاب الواقعية، فقد جاء في تفسير العياشي، قال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبد الله عليه السلام : ما يجوز أن يزكي الرجل نفسه؟.. قال: (نعم، إذا اضطر إليه، أما سمعت قول يوسف: ?اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ? وقول العبد الصالح: ?أَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ?)؛ فهذا مدح حتى يثبت نفسه في هذا الموقع، وهو من أبواب الاستثناء!..
ثانياً: إن الإنسان إذا أراد أن يمدح نفسه، عليه أن يكون حذراً!.. فها هو النبي الأعظم يعلمنا درس المراقبة والمحاسبة، تقول الرواية: سمعت أبا عبد الله الصّادق عليه السلام يقول: «أتى يهودي إلى النبي صلى الله عليه و آله و سلم فقام بين يديه يحد النظر إليه، فقال: يا يهودي، ما حاجتك؟.. فقال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي، الذي كلمه الله تعالى، وأنزل عليه التوراة والعصا، وفلق له البحر، وأظله بالغمام؟.. فقال له النبي: أنه يكره للعبد أن يزكي نفسه، ولكن أقول: إنَّ آدم عليه السّلام لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال: اللهم إِني أسالك بحق محمّد وآل محمّد، لمّا غفرتَ لي؛ فغفر الله له.. وأن نوحاً لما ركب في السفينة وخاف الغرق، قال: اللهم إني أسالك بحق محمّد وآل محمد (لمّا أنجيتني) من الغرق؛ فنجاه الله عنها.. وأنّ إبراهيم عليه السّلام لما ألقي في النار، قال: اللهم!.. إني أسألك بحق محمد وآل محمّد لما أنجيتني منها؛ فجعلها الله عليه برداً وسلاماً.. وأن موسى لمّا ألقى عصاة فأوجس في نفسه خيفة، قال: اللهم!.. إني أسألك بحق محمّد وآل محمّد (لما آمنتني) منها؛ فقال الله جل جلاله: ?لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأَعْلَى?.. يا يهودي، إنَّ موسى عليه السلام لو أدركني ثم لم يؤمن بي وبنبوتي، ما نفعه إيمانه شيئاً، ولا نفعته النبوة.. يا يهودي، ومن ذريتي المهدي إذا خرج نزل عيسى بن مريم لنصرته، فقدمه وصلى خلفه)..
-(أتى يهودي إلى النبي فقام بين يديه يحد النظر إليه).. أي ينظر إلى رسول الله نظرة حادة.
-(فقال: يا يهودي، ما حاجتك)؟.. أي لماذا تنظر هذا النظر؟!..
-(فقال: أنت أفضل أم موسى بن عمران النبي).. أخذ اليهودي يفصل في مزايا موسى بن عمران عليه السلام.
-(الذي كلمه الله تعالى، وأنزل عليه التوراة والعصا، وفلق له البحر، وأظله بالغمام)؟.. هو الآن في مقام السؤال، ولكن كأنه يريد أن يتحدى رسول الله !..
-(فقال له النبي: أنه يكره للعبد أن يزكي نفسه).. تزكية النفس مكروهة.
-(ولكن أقول .. أجاب بشكل غير مباشر.
-(إنَّ آدم (عليه السّلام) لما أصاب الخطيئة كانت توبته أن قال).. وهذه بشارة لنا جميعاً: فما الذي جعل رب العالمين يتوب على آدم عليه السلام لما أصاب الخطيئة؟.. يقول تعالى: ?فَتَلَقَّى آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ?.. والنبي صلى الله عليه و آله و سلم يفصل هذه الكلمات، وهي:
-(اللهم!.. إِني أسألك بحق محمّد وآل محمّد، لمّا غفرتَ لي؛ فغفر الله له).. أي؛ يا يهودي!.. آدم وهو أبو البشر، رب العالمين تفضل عليه ببركة النبي وآله؛ فاقرأ ما بين السطور!.. فالنبي صلى الله عليه و آله و سلم بهذه العبارة بيّن فضله وفضل آله صلوات الله عليهم أجمعين.
ثالثاً: إن تزكية النفس والمديح، تثير في النفس شيئاً!.. فعندما يمدح الإنسان نفسه، كأن هنالك شيئاً من الرياح الخبيثة تنبعث من نفسه.. عن الإمام علي عليه السلام: (احْتَرِسُوا مِنْ سَوْرَةِ (أي الحدّة) الْإِطْرَاءِ وَالْمَدْحِ؛ فَإِنَّ لَهُمَا رِيحاً خَبِيثَةً فِى الْقَلْبِ).