انعاش الروح
عن نوف البكالي:
بتّ ليلة عند أمير المؤمنين ( عليه السلام)
فكان يصلي الليل كلّه، ويخرج ساعة بعد ساعة فينظر إلى السماء ويتلو القرآن..
فمرّ بي بعد هدء من الليل،
فقال:
(يا نوف!.. أراقدٌ أنت أم رامقٌ)؟..
قلت: بل رامقٌ أرمقك ببصري يا أمير المؤمنين..
قال:
(يا نوف!..
طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة، أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً، والقرآن دثاراً، والدعاء شعاراً، وقُرّضوا من الدنيا تقريضاً على منهاج عيسى بن مريم..
إنّ الله -عزّ وجلّ- أوحى إلى عيسى بن مريم:
قل للملأ من بني إسرائيل:
لا يدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأكفّ نقية،
وقل لهم: اعلموا أني غير مستجيب لأحد منكم دعوة ولأحد من خلقي قبله مظلمة).
بعض الناس عندما يذهب في سفر مع جماعة، يقطع نافلة الليل؛
لأنه يخاف أن يكون في ذلك رياء..
بينما أمير المؤمنين (عليه السلام) يخرج من فراشه بالدعاء، ونوف ينظر إليه.
(فينظر إلى السماء)..
وهذا من أسرار المهنة، الإنسان عندما يستيقظ لصلاة الليل،
هناك عمل يوجب له النشاط البدني:
كالوضوء، وخاصة بالماء البارد..
وهناك حركة تنعش الروح لصلاة الليل،
وهي النظر إلى النجوم؛
وكأنها تحدث الإنسان..
وهذه الآية منعشة أيضا:
{إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِّأُولِي الأَلْبَابِ}،
ولكن ليس لكل أحد، فالناس أهل القشور.. أما الذي له لب، فهو الذي يفهم ما يقول هؤلاء:
{الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
ما هذه العلاقة بين صلاة الليل والنجوم؟..
عندما ينظر الإنسان إلى النجوم، ثم يصلي صلاة الليل، فإنه يقول:
أنا أصلي بين يدي من خلق هذه النجوم العجيبة..
-هناك نجوم منذ خلقت إلى الآن، لم يصل نورها إلينا-..
فمن يصلي بين يدي هكذا رب، إذا كان عنده مشكلة مع أحد، وهو بين يدي خالق النجوم، مسخر السموات..
هذا الذي بيده كل شيء؛
يعجزه أن يلين قلب من له مشكلة معه؟..
(يا نوف!.. أراقدٌ أنت أم رامقٌ)؟..
أي أن الإمام لا يستحي من العبادة بين يدي الله ، أمام الآخرين.
(يا نوف!.. طوبى للزاهدين في الدنيا الراغبين في الآخرة)!..
الزهد حالة في القلب، لا في الخارج..
في المستشفيات يؤتى للمريض بطعام شهي، وإذا به يصرف وجهه عنه..
الطعام موجود، ولكن نفسه لا تتشبث به..
إذا كان الإنسان كذلك في الدنيا؛
فليكن غنيا مثل سليمان (عليه السلام)..
المهم أن لا يتعلق قلبه بشيء، وإذا ضاع منه شيء لا يحزن
{لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ}.
(أولئك الذين اتخذوا الأرض بساطاً، وترابها فراشاً، وماءها طيباً)..
أي هؤلاء قوم طيبهم الماء، هم يعيشون عيشة المترفين، وهم ليسوا بمترفين.
وفي رواية أخرى:
قال أمير المؤمنين ( عليه السلام) لنوفل البكالي ذات ليلة،
وقد خرج -- من فراشه فنظر إلى النجوم،
فقال:
(يا نوف!.. إنّ داود (عله السلام ) قام في مثل هذه الساعة من اللّيل،
فقال: إنّها ساعةٌ لا يدعو فيها عبدٌ ربّه إلاّ استُجيب له، إلاّ أن يكون عشّاراً أو عريفاً أو شرطياً أو صاحب عرطبة -وهي الطنبور- أو صاحب كوبة -وهي الطبل- وقد قيل أيضاً العرطبة الطبل والكوبة الطنبور).
نعم، هذه ساعة جوف الليل،
ساعة الصفقات الكبرى:
من أراد أن يعقد صفقة مع رب العالمين،
فليتخذ الليل جملا،
عن الإمام العسكري ( عليه السلام):
(إنّ الوصول إلى الله -- سفر، لا يدرك إلا بامتطاء الليل.. من لم يحسن أن يمنع، لم يحسن أن يعطي).