لايزال إلى يومنا هذا واقع الحاجة موجود إلى عادة قراءة ماكتبه الوردي في لمحاته وغيرها, انها حاجة تكتنف النخب قبل غيرهم , و لعل هذا يكون خطوة في مرحلة صياغة الوعي الاجتماعي الذي لاشك انه من وظيفة النخب قبل غيرها على وفق القراءة الصحيحة والأسس الثابتة المتكفلة لبناء مجتمعنا العزيز .
ورغم إن الوردي قد سلط الضوء على المجتمع العراقي على وجه الخصوص وافرده بالبحث والتنقيب والتقيم معا إلا انه لايمكن أن نغفل البعد الإنساني الذي تكفلته هذه الموسوعة وخصوصا أوجه التشابه والاشتراك التي تحملها الطبيعة البشرية كوجود واحد , فموسوعته إنسانية قبل أن تكون قطرية محدودة بحدود معينة , فالثلاثية التي اعتمدها ( الفقيه – السلطان – الظاهرة الاجتماعية ) ثلاثية مطردة وواضحة ومستمرة من حيث التفاعل يوميا في حياتنا المعاصرة , ولعلها سوف تستمر إلى ماشاء الله مادام التراث عنصرا فعالا في تكوين الذهنية العراقية بماله من مرارة وألم .
إن مايؤسف له حقيقة هي عدم وجود مراحل تكميلية لماكتبه الوردي ولعل هذا المقال دعوة لتتمة هذا الجهد الاجتماعي الجبار ولاضرر ان يكون على شكل موسوعي تتظافر من خلاله الجهود من خلال نفس النسقية التي ارتآها الوردي رحمه الله .
لاشك ان العقول العراقية عقول راقية , لاتقلعما احتواه الوردي نقدا في التشخيص والقراءة للظاهرة الاجتماعية , وفيهم من يمتلك القلم الساحر والساخر معا . ويمكن لهذه العقول ان تعيد رسم المشهد الوردي بفرشاة أخرى , انها عقول تمتلك منظومة كبيرة من وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة التي تقرب البعيد , وتمتلك وسائل التوثيق المتطورة ؛ لتضيف بعدا آخر في الدلالة أكثر تأثيرا وأكثر جاذبية .
نعم أحسن الوردي اختيارا حين انتخب المجتمع العراقي محلا لدراساته من دون بقية المجتمعات الأخرى , لا لكونه يشكل وعيا طبيعيا لظاهرة الانتماء , وان كان هذا الوعي ظاهرا وحاضرا في كل الكتابات التي تصدر من أقلام الأخوة العراقيين الكرام من دون استثناء , ان هناك بعدا أخر لعله يكون وراء هذا الانتخاب كامن في القابلية (المولدة ) التي يمتلكها المجتمع العراقي, ان مجتمع مولد على كل الأصعدة , مولد على صعيد المصطلح ومولد على صعيد الظاهرة . وهذا ماكشفتة أو تكشفه التقارير التلفزيونية التي كثيرا ما يطالعنا بها الذهبي فلاح .
ودعني هنا أسوق لك بعض الأمثلة حتى لاياخذ الكلام النزعة التجريدية فقط , فعلى سبيل المثال تجد بعض المصطلحات عراقية رغم دلالتها اللغوية , وجولة صغيرة في الشارع العراقي تعكس هذا المدعى فتلاحظ ان التسميات العراقية للسيارات مباينة لتسميات الشركات الأم , فأين أنت من رأس الثور والأرنب والدولفين واوباما , كذلك في الموبايلات تجد الدمعة واياد علاوي والشصره وغيرها , ولم يقتصر الأمر على حدود السيارات والموبايلات بل تعداها لبيان حتى الحالات النفسية للفرد العراقي لتجد ( مشلغم _ مدبك _كلك _ مضروب بوري ) وغيرها.
إننا بصريح العبارة أمام مجتمع خلاق , مجتمع تفاعلي رهيب إلا ان هذه الخلاقية والتفاعلية ناشئة من وحي الذات المنعزل عن الآخرين , انها خلاقية ناشئة بين أكوام الزبالة , وأكوام التراب والاخياس والفوضى المحلية , خلاقية أضيف إليها عناصر أكثر سوءا من المحيط الآسن, متمثلة بالشعور بالضياع والإحباط, الذي ولده الإرهاب الديني والسرقة المنظمة لكل ماهو جميل .
فكيف يمكن ان تؤمم هذه الخلاقية من كل ماتقدم ؟
لابد من الإشارة الصريحة والواضحة إلى ان العقلية العراقية لايمكن ان تصاغ من وحي الأسس النظرية مجردة عن الجنبة التطبيقية , فالعراقي مواكب من هذه الناحية لما يكتب ولما يقرا معا بشكل جيد , بل ان الاعتقاد الغالب عليه الشعور بالمعرفة بكل شي ولعل هذا هو سرتعاسته غير متناسين لمعنى البيت الشعري :
ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة بالشقاوة ينعم
فالعراقي بشكل عام يسوده الشعور بأنه افهم الناس وانه اذكي الناس , ولا يقبل ان تكون شارحا لها لما ينبغي ان يكون عليه حاله , هذا إذا أعطاك مجالا للكلام من الأساس , فلابد من ان تسمع منه أولا ثم تتكلم , فكل فرد عراقي هو طبيب وهو مهندس وهو عالم بالدين والحياة و....وهذا هو سر شقاءنا بصريح العبارة .
لابد من وجود منظومة مفهوميه وتصورات أولية للحياة بشكل عام سواء على الصعيد الذهني أو على الصعيد الاجتماعي تصاغ من خلالها العقلية العامة حتى تستمر الحياة على الأقل, هذه المبادئ تأخذا صورا وأشكالا متعددة قد تكون في غير الحالة العراقية أشبه بالمبادئ الفطرية إلا انها في وضعنا تحتاج إلى جهد مظني ورقابة فعلية , ولعل المقولة القائلة بان توضيح الواضحات من أشكل المشكلات .
ان من أهم القضايا التي تساعد في هذا المشروع هي المعاصرة والمعاشرة التي تكون في وعيها أفضل من أي خطبة رنانة أو كتاب مقفى , نحن أمام شعب لابد له ان ينفتح على كل الحضارات الأخرى , يكفينا غرورا بمسلة حمورابي ؛ فانها طنبور طين لا يسمن ولايغني من جوع وعفى عليها الزمن فلاتشكل أي جانب عصامي بعد اليوم. نحن أمام شعب يشكو من ابسط الحقوق انه شعب لاتوجد له( مرافق صحية نظيفة ) يختلي بها لافي البيت ولافي الكراج ولافي المدرسة ولافي دائرة حكومية , بل بلغني احد الثقات ان المشكلة سيارة وجارية حتى في المنطقة الخضراء ,ولازلت أتذكر آخر زيارة للعراق حين اخذت معي احد أطفالي الصغار الذي نشا في المهجر ليرى اثار البراز والغائط في احد الكراجات متسائلا متعجبا ماهذا يا أبي؟
فقلت له هذه حسنات أعمامك ياولدي نثروها على تراب العراق حتى يعممون البلوى.
نحن اليوم بحاجة الى بروتوكولات تعاون بين العراق وكل دول العالم يسمح من خلالها للعراقي بالسفر لكل بلدان العالم , ولاباس ان يضاف له شرط عدم إعطاءه حق اللجوء , حتى يزال محذور المنع , وحتى لايكون كلا على غيره . ان أمثال هذه البروتوكولات تعطي العراقي وعيا آخر , انه وعي المعاصرة فلاشك في نظري ان اشد الناس احتراقا على العراق اليوم إنهم العراقيون المهاجرون أكثر من غيرهم ؛ لأنهم أدركوا وعي المعاصرة كشاهد عياني لايقرا من كتاب . ولا ينظر إليه من خلال صورة صماء توقف مع لحظاتها .
لا زلت أتذكر ذلك العراقي الذي جاء مسافرا الى احد دول الجوار وكان يدفع عربة صغيرة تحمل طفلا صغيرا , فلما اتسخت عجلات العربة انحنى إمام الجميع ليمسح هذه العجلات بمنديل بيده ثم اخذ المنديل ورماه في سلة الزبالة , انه نفس العراقي الذي لعله كان في البارحة يرمي قناني الببسي في شوارع بغداد ان لم يكن يتغوط فيها على الهواء الطلق أو في كراجاتها.
الى حكومتنا المؤقرة اطلبوا من كل دول العالم ان تفسح المجال أمام سفر العراقيين من دون قيود الفيزا وغيرها لعل اطلاعه على أحوال غيره ينشا منه أنسانا آخر , بل من المؤكد ذلك لتقدموا لنا خدمة في الوقت والجهد .
أفسحوا المجال لكل عراقي ان يرى الدنيا في اتجاه تسير وفي أي بوصلة تتحرك حتى لايقع تحت الهوس الديني والفراغ والشعور بالإحباط ........ ولكم تمنيت ان يكون الأمر بيدي لفعلت وفعلت , ولكن قاتل الله لكن .