من مفارقات بعض الشيوخ أنهم رفضوا حديثاً في صحيح مسلم بمجرد وضوح تعارضه مع القرآن....والمفارقة تكمن في أنهم لم يتعرضوا لسَنَد هذا الحديث، ولم يبحثوا في أحوال الرواة..وكأنه يظهر من سلوكهم أنهم عجزوا عن تبرير هذا الحديث أو تأويله..فلجأوا إلى رفضه وعدّة من مسموعات الحبر اليهودي الشهير كعب الأحبار ..وإليكم تفصيل ما حدث..
الرواية كما هي في صحيح مسلم:
حدثني سريج بن يونس وهارون بن عبد الله قالا حدثنا حجاج بن محمد قال قال ابن جريج أخبرني إسماعيل بن أمية عن أيوب بن خالد عن عبد الله بن رافع مولى أم سلمة عن أبي هريرة قال :
"أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فقال خلق الله عز وجل التربة يوم السبت وخلق فيها الجبال يوم الأحد وخلق الشجر يوم الاثنين وخلق المكروه يوم الثلاثاء وخلق النور يوم الأربعاء وبث فيها الدواب يوم الخميس وخلق آدم عليه السلام بعد العصر من يوم الجمعة في آخر الخلق في آخر ساعة من ساعات الجمعة فيما بين العصر إلى الليل "
-قلت:يظهر من الحديث أن الله قد خلق السماوات والأرض وما بينهما في سبعة أيام..وليس في ستة أيام مصداقاً لقوله تعالى..( ولقد خلقنا السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وما مسنا من لغوب) ..ولن نتعرض لأقوال المُبررين الذين صححوا الحديث من اختلاف خلق آدم عن السماوات والأرض فهو قولُ هزل ..ومع هزليته نرى العديد من الفقهاء رفضوا حديث صحيح مسلم كما قلنا لعجزهم عن التبرير أو التأويل..
وسنتعرض لأقوالهم جميعاً:
1- قال البخاري في تاريخه الكبير في ترجمة أيوب بن خالد وروى إسماعيل بن أمية، عن أيوب بن خالد الأنصاري، عن عبد الله بن رافع عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "خلق الله التربة يوم السبت"، وقال بعضهم عن أبي هريرة عن كعب وهو أصح ا هـ.
3-قال ابن القيم في المنار المنيف ويشبه هذا ما وقه فيه الغلط من حديث أبي هريرة: خلق الله التربة يوم السبت، وهو في صحيح مسلم ولكن الغلط في رفعه، وإنما هو قول كعب الأحبار، ثم نقل عن البخاري قوله من تاريخه الكبير الذي نقل آنفا ثم قال: وقال غيره من علماء المسلمين أيضا وهو كما قالوا، لأن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهذا الحديث يقتضي أن مدة التخليق سبعة أيام، والله تعالى أعلم.(المنار المنيف ص84)
4-أورد الحديث ابن كثير في البداية والنهاية (ج1ص71) نقلا عن مسند أحمد بإسناده ثم قال: (( وهذا الحديث من غرائب صحيح مسلم , وقد تكلم عليه علي بن المديني والبخاري وغير واحد من الحفاظ , وجعلوه من كلام كعب , وأن أبا هريرة انما سمعه من كلام كعب الأحبار )).
5-ونقله القاسمي في تفسيره(ج3ص178) ، ثم قال بعد إيراده هذا الحديث وبيان من أخرجه، ورواه النسائي من غير وجه عن حجاج بن محمد الأعور عن ابن جريج وفيه استيعاب الأيام السبعة، والله تعالى قال: في ستة أيام، ولهذا تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث، وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار وليس مرفوعا والله تعالى أعلم.
6-وقال العلامة المناوي في فيض القدير على شرحه على الجامع الصغير للسيوطي(ج3ص447): أخرجه مسلم وهو من غرائبه، وقد تكلم فيه ابن المديني والبخاري وغيرهما من الحفاظ، وجعلوه من كلام كعب الأحبار، وأن أبا هريرة إنما سمعه منه لكن اشتبه على بعض الرواة فجعلوه مرفوعا، وقد حرر ذلك البيهقي، وذكره ابن كثير في تفسيره، وقال بعضهم: هذا الحديث في متنه غرابة شديدة، فمن ذلك أنه ليس فيه ذكر خلق السماوات، وفيه ذكر خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام، وهذا خلاف القرآن لأن الأرض خلقت في أربعة أيام ثم خلقت السماوات في يومين ا هـ.
الآن:
رأينا ما قاله الفقهاء... فجميعهم رفضوا الحديث من مرجعية تعارضه فقط مع القرآن، ولم يُبينوا لماذا قالوا بسماع أبي هريرة هذا الحديث من كعب الأحبار ورفضوا هذا المنطق في مواضع أخرى..
الإشكالية الأكبر أنهم سكتوا عن التعرض لأحوال الرواة..والسر في ذلك لأنهم لو تعرضوا لأحوال الرواة سيضربون كافة القواعد التي وضعوها في علم الحديث..وسيظهر للناس أن ثمة أزمة في علم الحديث ليست فقط أزمة نظرية وتطبيق..بل أيضاً هي أزمة أخلاقية يعاني منها من انبرى للدفاع عن روايات بشرية منسوبة لرسول الله زوراً وبهتاناً..فقط لأن هذه الروايات هي منقولة لديه من أناسٍ هم أقرب إليه في المذهب أو الأيدلوجية...
أما أن يغار على دين الله فالمسألة لديه بسيطة وهي التأويل والتبرير..!