عن الإمام الباقر عليه السلام : ( يموت سفيه من آل فلان يكون سبب موته أن ينكح خصياً فيقوم فيذبحه ويكتم موته أربعين يوماً فإذا سارت الركبان في طلب الخصي لم يرجع أول من يخرج حتى يذهب ملكهم) عن كتاب الممهدون للمهدي.
-------------------------
لم يصدر قانونا في السعودية بمنع تجارة الرقيق الا في عام 1962 م بقرار وقعه فيصل بن عبدالعزيز عندما كان رئيسا للوزراء. و نشر في جريدة ام القرى العدد 1944 الجمعة 12 جمادي الثاني 1382 هـ. بناء على قرارات اممية.
و كان المنع على العامة فقط اما في قصور ال سعود فالرق مستشري الى اليوم.
و ربما يكون الصحفي السعودي السوري الاصل نهاد الغادري الذي كان مستشارا صحفيا للملك فيصل هو اول من اذاع ان بندر بن سلطان هو ثمرة علاقة بين الامير سلطان و احدى جواريه السود في احدى مقالاته في جريدة سوراقيا اللندنية بعد ان اختلف مع الملك فهد. و لم يعترف به الامير سلطان الا متاخرا .
و عودة الى الرواية الشريفة في مستهل الموضوع , كنت اود ان اذكر نبذة عن حقيقة الرق في السعودية حتى وجدت بحثا ثريا للكاتب محمود عبدالغني صباغ في مدونته مما اغناني عن مواصلة جمع المعلومات من هنا و هناك. والبحث يحتوي على ما يقارب 105 مراجع تعمد الكاتب اخفاء بعضها في مدونته على ان يقوم بايرادها في كتابه الذي سيصدره حسب ما ذكره في مدونته.
و قد اعتمد الباحث على مصادر موثقة باسلوب علمي و هي :
- أرشيف وزارة الخارجية البريطاني
- أرشيف وزارة المستعمرات البريطانية
- الأرشيف العثماني
- مواد أرشيفية صحفية تعود لبعض وكالات الاخبار العالمية والصحف المحلية
- مؤلفَات لمؤرخين محليين مثل أحمد زيني دحلان وعبدالله غازي أو رحّالة مكثوا بالحجاز مثل المستشرق الهولندي سنوك هوروخرنيه والضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين أو عرب مهجريين مثل أمين الريحاني
- مذكرات بعض القناصل المتعاقبين على جدة
- روايات مكتوبة او شفهيّة متفرقة عن تاريخ المنطقة.
------------------------------------------------
كتب: محمود عبدالغني صباغ
“العبودية نتيجة الضعف، والجهلُ سبب الضعف. والحرية نتيجة القوة، والعلمُ سبب القوة.“- حمزة شحاتة
قبل خمسين عاماً بالتمام أُلغي الرق مطلقاً بقرار رسمي. هذا تطواف تاريخي سريع يبدأ من عام 1855م وينتهي بعد لحظة اعلان الغاء الرق في المملكة العربية السعودية بقليل.
في عام 1855م أصدرت الدولة العثمانية مرسوماً بقضي بمنع بيع الرقيق في جميع الأراضي الخاضعة لسيادتها. وطلب كامل باشا والي الحجاز العُثماني المقيم في جدة، من قائم مقامه في مكة، أن يجمع دلّالي الرقيق، ويخبرهم بالاجراءات الجديدة، بمقتضى أوامر الباب العالي.
يصف أحمد زيني دحلان، مؤرخ مكة المعاصر لتلك الفترة، في (خلاصة الكلام في بيان أمراء البلد الحرام) تسلسل الأحداث بعد ذلك الاجتماع بشئ من الايجاز: فلما علم الأهالي في مكة صاروا من ذلك في انزعاج واضطراب، وصاروا يقولون: “كيف يمنع بيع الرقيق الذي أجازه الشارع؟” .. وتنادوا بالجهاد، واجتمع طلبة العلم في بيت رئيس العلماء ومفتي الأحناف، الشيخ جمال شيخ وطلبوا اليه ألا يرضخ لما يخالف الشرع وان ينتقل معهم الى دار القاضي ليمنع صدور ذلك الأمر، فلما مشت جموعهم في الشوارع انضم اليها الجمهور ونادوا بالثورة واشتبكوا مع الاتراك في قتال عنيف وامتد القتال الى المسجد الحرام، فقُتل فيه عدة أشخاص من الفريقين، فلما انتهت الاخبار الى الشريف عبدالمطلب بالطائف غضب للأمر وجمع جموعه من القبائل لاعانة الأهالي في مكة ضد الترك، فخف الاتراك الى جدة وتحصّنوا بها، واعلن كامل باشا ان المراسيم السلطانية قد وصلت اليه بعزل عبدالمطلب وتولية الشريف محمد بن عبدالمعين بن عون .
لكن نحن يجب ان نُخضِع رواية الدحلان الكلاسيكية تلك لشئ من التفكيك.
كانت الدولة العثمانية خارجة لتوها من حرب القرم مع روسيا، يقف الى جانبها حلفاؤها الجُدد البريطانيون والفرنسيون، الذين ضغطوا عليها لالغاء تجارة الرقيق على أراضيها ولاتخاذ بعض الاصلاحات فيما يخص حقوق الأقليّات. ولاذت النخبة العثمانية التي كانت تميل نفوسها الى الاصلاح بتلك التوجّهات الدولية، فبلورت شروطها في فرامانات اصلاحيّة أبطلت في احداها ممارسة الرقيق.
وكان النفوذ الاوروبي في الحجاز والبحر الأحمر يشهد تصاعداً منذ توقيع اتفاقية التجارة العثمانية-البريطانية عام 1838م.. وما صاحبها من تنامي لمشاعر العداء المحلية ضد التجار والرعايا الانجليز القادمين حديثاً لمزاحمتهم في ميناء جدة. تزامن ذلك أيضاً مع نفوذ شركة الهند البريطانية وارهاصات شروق شمس التاج البريطاني على شبه القارة الهنديّة واخضاع عدن للسيطرة البريطانية عام 1839م، وما رافقه من بدء ترتيبات منح امتيازات للحجاج الهنود الذين باتوا يحملون الرعويّة البريطانية، ويحظون اثر ذلك بعناية غير مسبوقة من قبل القنصلية البريطانية في جدة.. وهي امتيازات خاصة شملت مجالات الصحة والرسوم الجمركيّة والكورنتينات والتنقل. خدش ذلك مشاعر الوطنيين وكراماتهم في مدن الحجاز وبواديه.
هكذا كانت نغمة التوجس من الأوروبيين في أوجها لدى المحليين. ولما كان كامل باشا، والي الحجاز، اقرب لأفكار النخبة العثمانية المستنيرة، أشاع ضده أمير مكة العشائري، الشريف عبدالمطلب، بانه موالٍ للنصارى، يريد بذلك الطعن في هيبته والتقليل من شعبيته.
كان عبدالمطلب – قبيل اندلاع فتنة منع الرقيق في مكة – قد تورط في حادثة مقتل نقيب السادة العلويين في مكة السيّد اسحاق بن عقيل بصورة بشعة – كون الأخير كان حليفاً لرجال السلطنة، خصوم الشريف في مكة، في صراعه الدائم والمفتوح على السلطة.
وأدرك عبدالمطلب، الذي تحصّن في اطراف الطائف، حضن الحجاز العشائري، فاراً من مواجهة جنود الوالي، دنو صدور مرسوم اعفائه من شرافة الحجاز، فوثب الى استغلال موجة العداء الشعبية التي انفلتت من عقالها مع صدور قرار منع بيع الرقيق، وتماهى مع غارات المضار، فأجج في نيران الفتنة بما اتفق مع مصالحه.
لم يكن عبدالمطلب مدفوعاً بايمان أيديولوجي في تبنيه لمطالب الغوغاء بالشارع المكّي قدر ما نُظر دوماً لموقفه على انه استغلال سياسي وتوظيف ذرائعي. وبالمثل، لم تكن عوامل اندلاع الفتنة في الشارع بريئة خالصاً.
لقد أجبر عبدالمطلب، بإيعاز من دلاّلي الرقيق في مكة وتجار جدة، علماء مكة الى اصدار فتوى تناهض قرار الغاء تجارة العبيد. ثم قاد مناوشات عسكرية ضد الحامية العسكرية التركيّة، قبل ان يتقهقر ويتحصّن في صفوف المقاومة طيلة سبع أشهر.
انتهت الأزمة لاحقاً بالقاء القبض على عبدالمطلب من قبل السلطات العثمانية ونفيه الى سالونيك باليونان، لكن قرار الغاء الرقيق في ولاية الحجاز كان قد جُمّد الى أجلٍ غير معلوم.
كان الحجاز يخضع حينها لفضاء المحيط الهندي الكبير، وهو فضاء ثقافي وحضاري ممتد جغرافياً، تشد أطرافه المتباعدة حركة التجارة البحرية المنطلقة من البحر الأحمر الى تخوم الصين. وقبل صعود أفكار الدولة القومية عالمياً، اشترك الحجاز، مع مصر وسواحل السودان والقرن الافريقي وتنزانيا وكيبتاون، وسواحل تهامة واليمن وحضرموت ومسقط مع غرب القارة الهندية وسنغافورة وأرخبيل ملاوي (أندونسيا وماليزيا) وأجزاء من تايلاند والصين، في وحدة ثقافية وبشرية كان ابرز معالمها الانتماء للمذهب الشافعي، الأشد في التأصيل الفقهي – والأكثر تساهلاً – مع عادة شراء العبيد، وفي “اجتهادات” ورُخص التسرّي بالجواري.
الحجاز، الفقير يومها ومنعدم الموارد الذاتية، والذي كان يلمّلم شظايا شخصيته الحضارية، يريد استئناف دوره واستعلان موقفه من جديد في حركة التاريخ.. كانت سموم العوائد القديمة قد اجتاحت بنيته الذهنية فيما لا يزال هو يقاوم للخروج من وهنه الناتج من رزحه تحت وطأة غفلات الأبويّة وأوهام التقليد.
لقد سوّرت متاعب الزمان وتوابع المحن بسورها السميك على العقول التي تَلِفت ازاء التقاط اي حجة او شرعة ضداً على الواقع السائد للعوائد الكسيفة.
ومرّ عقدان ساكنان ويزيد منذ تمرد عبدالمطلب، واحداثه لفتنة مكة.
وفي العاشر من يناير 1877م، نشرت التايمز اللندنية خبراً من جدة عن رجل أسود عشريني سبح الى البارجة فاون المرابطة على ساحل جدة طالباً تخليصه من ربقة العمل مع النوخذة الذي يملكه.. فما كان من قائد البارجة، الكوماندور وارتن، الا تسليمه الى القائم بالأعمال في قنصلية جدة، السيّد أوزوالد، الذي سلّمه بدوره الى الوالي التركي، ممثل السلطات العثمانية المحلية في جدة.
واستشاط غضباً من مضمون الخبر المنشور في التايمز كلا من السادة جوزف كووبر وادموند ستورج من جمعية مكافحة العبيد، وارسلا برقية عاجلة من مقر الجمعية في 27 نيو-بورد ستريت بلندن الى قنصلية جدة، يخبرانهما بأنه كان الأدعى الالتزام من قبلهم بقوانين اتفاقية العاشر من اغسطس 1876م الخاصة بعدم تسليم العبيد اللاجئين لسلطات بلدانهم.
واضطر السيّد أوزوالد ازاء التساؤلات الحقوقية والصحافية الى فتح تحقيق رسمي خلص الى الآتي: الرجل اللاجئ الى البارجة، اسمه مرجان، وهو نوبي، اُختطف عن طريق البربر عبر مجرى النيل الى ميناء القصير ومنها هُرّب مع مجموعة أخرى من العبيد الى جدة، حتى بيع الى احد ملاّك القوارب الشراعية في جدة؛ اسمه ابراهيم عجلان، الذي سخّره لأعمال التحميل ومساعدة الركاب في سنبوكه. واعترف مرجان ان مالكه كان يُحسن معاملته ولم يكن يضربه قط. ولكنه كان يشتكي من تعرض جسده للبرودة حيث لا تكفيه ملابسه الخفيفة. ولأجل ذلك لجأ -عفوياً- للبارجة.
واعتبر اوزوالد، في تقريره المرفوع، انه حيث لم تكن هناك اتفاقية بيّنية ملزمة فيما يخص العبيد اللاجئين فقد تم تسليمه للوالي التركي، الذي اعاده بدوره لمالكه بعد انتفاء دعوى اساءة المعاملة.
كانت محاولة مرجان أولى حوادث لجوء العبيد الى الجهات القنصلية البريطانية في جدة.. وهي وان مرت دون تدخل جوهري، فانها ستشكّل نقطة تحوّل في طريقة عمل الجهات القنصلية الأجنبية ازاء العبيد اللاجئين فيما بعد كما سنرى.
كانت تجارة العبيد مزدهرة بين ضفّتي البحر الاحمر: في انطلاقها من موانئ تاجورة (جيبوتي) وزيلع (الصومال) وبربرة ومصوّع (ارتريا) الى موانئ البحر الاحمر الآسيوية.
وضمت تجارة العبيد الى جزيرة العرب عناصر افريقية عدة من ارتريا والصومال وجيبوتي واثيوبيا يدخلون عبر موانئ جدة والحُديدة والمخا، وقوقاز وجاويين يأتون في مواسم الحج، ونساء هندوس من بومباي ونساء من فارس وزنجبار يأتون عبر قنطرة جُزر كمران (بالبحر الاحمر).. بعضهم للاحتياج المحلي والآخر يجري اعادة تصديره شمالاً الى تركيا ومصر.
وبدت تجارة العبيد متجذرة حينها بشكل يتعذر معها مجرد التفكير في اجتثاثها، حد ان نائب القنصل البريطاني في جدة، مستر وايلد قد كتب في مذكرته التوضيحية الى الخارجية البريطانية في 1877م بان “ممارسة الرق في الحجاز غدت مؤسسة معقدة حيث انها تمارَس منذ عهد النبّوة، وان التدخل بين العبيد وملاّكهم انما هو مسألة شديدة الصعوبة”.. لكنه عاد واستدرك بأن عبيد جدة يجري معاملتهم بشكل انساني وخال من الاهانات ونادرا ما تسجل ضد ملّاكهم اي شكاوي.
وصير الى مبادرات تنظيمية كان مُلهمها الأول الحد من نشاط تهريب الرقيق المتفاقم.
وفي الأول من ابريل 1877م، رُصد على قارب “قونيه” الذي يملكه عيسى بن خليفة من تجار سواحل الخليج، ستة عبيد كان يجري تهريبهم للحجاز من قِبل وكيله سلطان بن حارب. وفطنت حينها السلطات البريطانية، الى حِيَل التهريب عند تجار الخليج ومتعهدي النقل البحري فيه. ورأىَ ماكدونالد، نائب الادميرال، “ان غياب قوائم المسافرين الهنود للحج وعدم طباعة اسم الراكب على التذكرة سبب في رواج تجارة العبيد بين رعايا الهند والحجاز”.
وفي الحادي والعشرين من مارس 1877م اصدر الكوماندور كلايتون المقيم في مسقط الى نائب الادميرال ماكدونالد، يخبره ان عدداً كبيراً من العبيد يجري تهريبهم سنوياً من سواحل الخليج الى الحجاز في مواسم الحج. [6]
وشرعت القنصلية البريطانية في الزام وكلاء شركات البواخر والقوارب في جدة، التي تتعامل مع حجاج الهنود وسواحل الخليج، على كتابة اسماء الركاب على التذاكر وتقييدهم في قوائم دخول.
وظلّت اكبر مسارات جلب العبيد لجدة تلك التي تأتي بالمخطوفين من اثيوبيا عبر وكلاء عرب مستقرون في موانئ تاجورة وزيلع ومصوّع ومنها عبر البحر الاحمر الى ميناء الحُديدة ومنها الى جدة واسواق مكة في مواسم الحج.
وقدّر الكوماندور بويز في السويس في 3 يوليو 1877م عدد من جرى تهريبه من اثيوبيا -وحدها- الى ميناء الحديدة بثلاثين ألف عبد فقط في عام 1876م. كان العبيد يصلون للميناء ويباعون عبر وكلاء ومن يفيض يجري نقله الى مكة والطائف وينبع والمدينة دون اعتراض من السلطات التركية. ويقدّر عدد الذين يستهلكهم او يُعيد تصديرهم سوق جدة سنوياً من عشر آلاف الى خمسة عشر ألف عبد.
وكانت جدة، درّة موانئ اقليم الحجاز، مركزاً رئيسياً لوصول العبيد، فيما كانت مكة، عاصمة الاقليم، مركزاً لاعادة تصديره، اضطراداً مع حركة مواسم الحج.
كان العبيد ينزلون على موانئ الحديدة وجدة وينبع على التوالي.. وحين سأل الكوماندور باوليت، الذي زار جدة لتفقد احوالها في يناير 1878م الوالي التركي في جدة، ان كان مينائيّ الليث والقنفذة يُستخدمان ايضاً لتهريب العبيد، اجاب بالنفي لان البدو سيسرقونهم فور رسوّهم. وكان البدو يقتنون عبيدهم من جدة بالشراء.
ولم يخلو بيت في مكة والمدينة وجدة من العبيد والجواري، الذين يُستخدمون للعمل كسقائيين للمياه وعمال يدويين وقراريّة (عمال بناء) ومرافقين وباعة في الدكاكين ومديرين ومحاسبين وصيادين، ناهيك عن القيام بالأعباء المنزلية. والنساء هن جاريات وسريات للمُلاك الذين لا يستطيعون تحمل تكلفة الزواج الرسمي، بحسب تعاليم المذهب الشافعي، وهن ايضا سراري للأثرياء والمترفين الباحثين عن التسليّة.
وكان كثير من العبيد في سوق مكة يعودون لرعويّة بريطانيا او رعويّة الهند الشرقية الهولندية. وأغلب الرق الهولنديون ينتمون لجماعات: البورنيو، والسيليبس او من جزر نياز- وكلها في اندونوسيا الحالية- وهم يُرسلون اول مرّة الى مصر، ومنها في مواسم الحج الى الحجاز. وكثير منهم يُسترقون في قصور أمراء مصر.
وكان من ضمن العبيد الاثيوبيين المجلوبين للحجاز مسيحيون بالولادة، كما رُصد جواري في مكة من هندوستان.
وعقدت مصر مع بريطانيا اتفاقية في الرابع من اغسطس 1877م لالغاء الاسترقاق والنخاسة في جميع انحاء القطر المصري، ومنحت الاتفاقية البريطانيين حق توقيف السفن المصرية للتفتيش عن العبيد.
وتأثرت تجارة الرقيق في ميناء الحديدة مع القوانين الجديدة، وتفاعلت السلطات التركية في البحر الاحمر ببطء، وشرعت الى توفير قارب تجديف صغير في ميناء جدة للمراقبة الا انه لم يكن ذي اي تأثير.
وشرعت القنصليات الاجنبية في جدة في تحرير العبيد اللاجئين اليها وترحيلهم الى ديارهم الأصليّة – لكن هذا تسبب في اندلاع فتنة بين اوساط القبائل.
وحدثت فتنة في اطراف مكة، واختل الأمن في الطرقات خصوصاً في طريق جدة-المدينة المنورة، ومع شهر رمضان، الموافق يوليو 1883م، خرج بعض المتمردين من قبائل زبيد وبشر ومعبد وسليم، والثلاث الاوائل بطون مسروحية تنتمي لقبيلة حرب، “خرجوا في طريق جدة، وصاروا ينهبون الحمل الذي يمر بهم” بحسب احمد زيني دحلان في خلاصة الكلام.
وحين همّوا الى الاعتداء على القنصليات الأجنبية في جدة، تصدّى لهم الشريف عون الرفيق، وقاتلهم حتى تقهقروا الى عسفان، فأدركهم وأوقع بهم حتى اطاعوا له، وساقوا جملة من المبررات التي دعتهم الى اشعال الفتنة، كان في صدارتها “أن النصارى يأخذون رقيقهم، ويطلقونهم من أيديهم ويرفعون الرق عنه، حتى عصي عليهم عبيدهم” – بحسب دحلان.
وبات ظاهراً ان يلجأ الرقيق الهارب الى القنصليات الاجنبية في جدة ويحتمون بها للحصول على شهادات الحرية. وكانت القنصليات تمنحهم شهادات حرية دون الرجوع الى ولاية الحجاز او انتظار اوراقها الرسمية. ويحتوي الارشيف العثماني تفاصيل قصة عبد هارب توجه الى استانبول في اغسطس 1889م مع افراد اسرته بعد حصوله على ورقة الحرية من القنصلية الايطالية في جدة دون موافقة الولاية.
ونادى القنصل الانجليزي في جدة الأهالي صراحة باطلاق سراح عبيدهم في نوفمبر 1891م.
وكانت السلطات العثمانية تشعر بالضيق ازاء ذلك التدخل السافر في شئونها الداخليّة. وتوجست اسطانبول من اهتمام بريطانيا المتزايد بالحجاز، كونه كان يخالف مصالحها اقليمياً.
وعاد عثمان نوري باشا واليا للحجاز في فترة ثانية في منتصف 1892م.. لكن عداؤه الشخصي القديم مع الشريف عون الرفيق لم يلبث الاّ واندلع من جديد، محوره السيطرة على الحكم، وظاهره قضية الرقيق.
واُنتدب احمد راتب باشا من قبل السلطان عبدالحميد للتحقيق حاملاً معه تعليمات تتلخص في اربع مهام، أولها: التحقيق في تمرد القبائل في الحجاز بسبب اعتراضهم على فرار عبيدهم.
ورشا الشريف عون الرفيق، راتب باشا بستة آلاف جنيه ذهباً وضِعت في صرّة وسلمّت له لحظة وصوله في ميناء جدة، يؤكد الأفندي محمد نصيف ان الأخير قام بعدها جنيهاً جنيهاً. وكتب راتب باشا تقريرا يؤيد فيه الشريف، ويبرئ ساحته ضداً على الوالي، الذي حمّل اللائمة عليه.
واجتمع راتب باشا ببعض شيوخ القبائل بوساطة من الشريف عون بن ناصر الذي انتدبه لأجل ذلك، ولما التئموا احتموا باسم جناب السلطان ورموا بعقلهم واشمغتهم على الأرض حسب العادات العربية مطالبين بالعفو، واعتبروا ان تمردهم كان احتجاجاً على فرار عبيدهم، وتراخي عثمان نوري المنحاز للاجئين والمدفوع الى رفع الرق عنهم.
- دكة الرقيق؛ مؤسسة تجارة العبيد المكيّة:
ولما استفحل امر الدراويش المهديون واستولوا على الأقطار السودانية في مطلع 1885م، الغوا قرارات غوردن باشا واعادوا تجارة الرق الى افظع ما كانت عليه، فتدفق الى الحجاز، عبر عصابات سودانية محليّة، موجات ضخمة من الرقيق السوداني. وبات نشاط تهريب الرقيق من ميناء سواكن يجري في العلن، وعبر مجموعات ضخمة تتجاوز الألفيّ شخص مع كل حمولة بحرية. [12]
وكما ازدهرت تجارة الرقيق والجواري في الحجاز، ازدهر معها نشاط شراء الحجاج العبيد لاعتاقهم، واعادة حرياتهم اليهم. وغصت مدن الحجاز بالأرقاء العتقاء، بل ان مدينة كاملة في جوار المدينة المنورة، وهي خيبر، قد تألّفت حصراً من الارقاء السابقين.
وبرزت في مكة مؤسسة دكّة الرقيق، وكانت سوقاً للعبيد في اطراف سوق سويقة، على مقربة من باب الدريبة، يقوم عليها شيوخ التجارة، وملحقة بأحواش مفتوحة غير كبيرة يحبس فيها الرقيق في المساء.
وكانت مراسم البيع تجري بحضور شاهديّن، وتُسجّل في اوراق مجلوبة ومُصدقة من المحكمة الشرعية.
ويصف المستشرق الهولندي سنوك هوروخرنيه الذي مكث في مكة عام 1884م، أجواء ومناخات بيع العبيد والجواري في دكّة الرقيق.. “ازاء الجدار تقف الفتيات والنساء من الجواري على الدكّة، والكبار منهن لا يرتدين سوى حجاب خفيف، ويقف أمامهن على الأرضيّة الرقيق الذكور، وفي بهو القاعة يلعب مجموعة من العبيد الصبيّة. ويجلّس الدلالون على مركازهم ويتبادلون أطراف الحديث سوية او مع بضاعتهم من الرقيق”.
فيما يصف طقوس الشراء.. “واذا اهتّم زبون بصبي أسود صغير، يقوم الدلاّل المخصص بمناداته، ويطلب منه الكشف للزبون عن شعره، واقدامه، وبقية أطرافه؛ ويجبّر الصبي على فتح فمه واستعراض لسانه واسنانه، فيما يقوم الدلّال باستعراض مواهبه للزبون المهتّم”.
واذا جاء المشتري لابتياع جارية فحصها فحصاً دقيقاً من قمة رأسها الى أخمص قدميها كما تُفحص البهائم. فاذا تحقق من لباقتها ولياقتها سامها من البائع.
ويقوم المشترون عادة بعدة اختبارات للرقيق قبل اتمام عملية الشراء. فيسألونهم ان كانوا يتحدثون العربية، ويسألونهم بعض الأسئلة الشخصيّة.. ثم يقومون بالكشف عن علامات الاصابة بالجدري، ويبحثون في اجسادهم عن ختم “جدرّي خالص” تنويهاً عن تلقيحهم ضد الجدري – واللقاح كان يُمنح في الحجاز، مشفوعاً بشهادات اعتماد مختومة من مفتي الشافعيّة في مكة، ولكن قلّما كانت تمنح هذه الشهادات للعبيد.
واذا ظلّ في نفس الزبون قليل من الشك، فانه يصطحب العبد الذي ينوي شراؤه لفحصه عند طبيب مقابل عائد مادي، او يقوم بصلاة “الاستخارة”.. اما اذا كان يعمل بالرمل والندر، فهو يذهب لشيخ الرمل ليقرأ طالعه قبل اتمام صفقة الشراء.
وأخيراً يسأل السيّد الجديد عبده: “هل انت راضٍ؟”.. ومن خلال الاجابة، حتى لو جاءت بالسلب، يدرك الرجال بفراستهم فرص نجاح العلاقة الجديدة من عدمها.
ووقف الضابط الروسي عبدالعزيز دولتشين الذي زار مكة متخفياً في عام 1898م على اجواء دكّة الرقيق، ووصفها بالمحفل الرهيب.
يقول دولتشين: “وعندما زرت هذا السوق، كان هناك زهاء 80 شخصاً معظمهم شابات حبشيّات مع اثنتين او ثلاث منهم اطفال رضع، وجميعهن مزيّنات ومصفوفات فرقاً على دواوين طويلة؛ وكان هناك مقعدان يجلس عليهما كادحون راشدون من الزنوج، لابسون بعناية ومقصوصو الشعر.. يشرف على البيع تاجر عربي نشيط راح يمدح بصوت مدو مزايا بضاعته”.
لقد خلص دولتشين الى ان ما رأه قد ترك في نفسه انطباعاً كئيباً ومُرهقاً جداً.
لكن المستشرق هوروخرونيّه، الاعتذاري للشرق وممارساته وأخلاقه، اعتبر ان الرحّالة الأوروبيين الذين يحكمون على تجارة العبيد في الحجاز باستعلاء وبفرض تام لقيّمهم انما يجافون الواقع ويغلّبون نظرتهم السطحية والمستعجلة للأمور. “وأسفاً فإن غالب المستشرقين ينقلون لنا ملاحظات سطحيّة عن ممارسات الرقيق في مكة”، يقول هوروخرونيه.
ويرى هوروخرونيه انه لا يمكن ان يشتري احد في اسواق مكة اي عبد ذكر دون ارادته، لكن هذا الشرط يجري التسامح معه مع الرقيق الاناث والجواري. وان الرقيق اذا استشعر سوء المعاملة فانه يصرّ على بيعه حتى يرضخ مالكه، فيعيد تسليمه الى دكّة الرقيق. لكن ذلك كان يجري دون غطاء قانوني.
ويقول هوروخرونيه: “لا تبدو على الرقيق في البيوت اي علائم للحزن او السخط، وهم لا يسكبون دمعة واحدة على تقييد حرياتهم. لكنهم يبدأون في الاعتراض اذا ما تم اساءة معاملتهم حتى ينالون فرصة أخرى للبيع لمالك آخر”.
واذا اخطأ العبد فان عقوبة الضرب على أسفل قدميه في انتظاره. يصف هوروخرونيّه ذلك المشهد كما شاهده في احد حارات جدة: “يضجع العبد على بطنه، ويرفع قدميه للسماء، فيما ينزل المالك او احد رجاله بعصا “الفَلَكَة” على اسفل قدميّه، فيما يصرخ العبد معلناً التوبة، وطالباً العفو بإسم الرسول” .. لكن هوروخرونيه يعود ويستدرك ان هذه العقوبة هي نفسها التي يستخدمها أهالي الحجاز ازاء ابنائهم المشاغبين، نافياً اي شبهة تمييز.
ويخلص المستشرق هوروخرونيه الى تسامح المجتمع المكّي واحترامه للعبيد.. كون العديد من الجواري، انما يصبحن أمهات لمكيين، فيما يعقب العبيد الذكور أسيادهم في مهنهم ومكاناتهم الاجتماعية، بل ويحملون ألقابهم العائليّة.
وهو يضرب مثلاً بأحد “كُباريّة” مكة، ممن ينحدر من عائلة أرستقراطية مكيّة عملت في الافتاء، في وصف المعاملة فائقة الاحسان التي يتعامل بها العبيد في الحجاز، فيشير الى تعامله شديد التهذيب حد التدليل لمرافقه المملوك، في احد الغدوات التي كان يحرص على لقائه فيها بشكل دوري ابّان مكوثه في مكة – واغلب الظن ان المقصود هو صديقه الحميم السيّد عبدالله الزواوي، مفتي الشافعية في مكة.
ويذهب هوروخرونيه، الذي كان يحكم على المظاهر بشكل نسبي، ان “عبيد” مكة هم في حقيقة الأمر الموازون للخدم والمساعدين الشخصيين في اوروبا “المتحضّرة”. ويكاد يُفرط في اعجابه بالتعامل الأفضل الذي يحظى به العبيد في بيوت مكة. فهو يعلن رفضه للأحكام القاسيّة التي يُصدرها بعض المستشرقين الاوروبيين في عجالة ضد ظاهرة العبيد في الشرق، معتبراً انها مؤسسة متجذرة اجتماعياً، ولها أصولها القرآنية، التي يصعب الغاءها بجرّة قلم، او بمطالب نزقة من الغربيين.
لكنه اعتبر ان اسوء الممارسات البغيضة التي تترافق مع تجارة العبيد، والتي لا يمكن التسامح ازاءها اطلاقاً، هي ظاهرة “الخصي” لفئة الأغوات الذين يحق لهم الدخول في مجالس النساء الارستقراطيّات، او اؤلئك الذين يعملون في فِراشة الحرم المكّي الشريف.
ولم يُخفي هوروخرونيه بغضه لممارسات اختطاف الأطفال في افريقيا وبيعهم في اسواق الجزيرة العربية، لكنه اعتبر ان السؤال الجوهري يتعلق بنوعية الخطاب المعقول الذي يجدر بالغربيين استخدامه بما يساعد على القضاء على الظاهرة من جذورها، لا مفاقمتها من خلال اعلان العداء لها اعلاميا وسياسيا والترصد لممارسيها.
وهو يضرب مثالاً بالسياسات الأوروبية المتخذة في القرن الافريقي لمكافحة تهريب الرقيق. “لقد اجبرت “الجلاّبين” [اي مهربي العبيد] على اتخاد مسارات أبعد وأكثر وعورة، تصل الى اثني عشر ساعة من المشي على الأقدام للوصول الى الشاطئ، وهو ما يعزز من فرص الوفيات بين الاطفال. “ان سياسات محاربة الرقيق، لم تقلّص من اعداد المهربّين، لكنها فاقمت من اعداد الوفيّات”، يقول هوروخرونيه، الذي وجد في المقابل السياسات العربية في الحجاز اكثر انسانيّة.
هوروخرونيه خلص الى ان تجارة العبيد ستنتفي بالتنميّة البشريّة الحقيقية للمجتمعات الافريقية الفقيرة والمعوزة، “لأنها ستعلي وقتها من قيمة الحياة للأفراد” . وهو ما كان يراه مفقوداً في أبجديات الخطاب الاوروبي الذي اعتبر انه يريد معالجة المسألة بالارجاف والتهمة وفرض سياقاته المختلفة بشكل متعسف.