شكلت الرسوم والشعارات التي خطّتها ورسمتها على الجدران أنامل المناضلين شهادة راسخة على مسيرة تاريخ شعبنا صانعة بذلك صحفاً مشرعة تتجاوز سلطة الرقابة والمنع.
لم تغب القطيف تلك المحافظة المطّلة على ساحل الخليج شرق الجزيرة العربية عن موجات حراك وثورات الشارع العربي الغاضب حيث شهدت انتفاضة جماهيرية عارمة مطالبة بالتغيير بعد عقود من طغيان الحكم الملكي السعودي، وكما ان القطيف لم تغب.. كذلك لم تغب جدرانها التي كانت شاهدة على ملحمة أهالي القطيف ونضالهم البطولي ضد الدكتاتورية والاستبداد الدموي.
تلك الصحف التي احتضنت الشعارات والرسوم بألوانها الثورية المبدعة, والتي قاومت ببسالة ضد البطش والفتك الدموي وتحدت رصاص العساكر المبثوثين في كل زاوية ومنعطف من أزقة القرى وشوارع البلدات.. أقلقت السلطات السعودية ودفعتها لاستنفار فرق الطمس والمحو..
هذه لم تكن الشهادة الاولى التي تقدمها حيطان المنازل والأبنية القطيفية الساخطة على الظلم والجور السعودي.. فقد شهدت تلك الجدران الشامخة خطوط عبارات الثورة والجهاد أبّان انتفاضة القطيف الأولى عام 1979 ميلادية حين خرجت مجاميع المواطنين الى الميادين والساحات قبل أن تقمع بعشرات الآلاف من جنود الحرس الوطني السعودي مخلفة عشرات الشهداء ومئات الجرحى وآلاف المعتقلين.
“صحيفة الأحرار” التسمية التي أطلقها الثوار على تلك الخطوط والرسومات التي ملأت جدران القطيف من قبل المحتجين الذين نزلوا صارخين بحناجرهم ضد الظلم والتهميش والحرمان وخطّوا صحيفتهم بسواعدهم السمراء معبرين عن آمالهم وتطلعاتهم ومطالبين بحقوقهم منذ فجر السابع عشر من فبراير عام 2011.
منذ ذلك التاريخ امتلأت جدران صفوى، العوامية، القديح، الشويكة، تاروت، سيهات، وباقي مدن وقرى القطيف بالكتابات والرسوم المناوئة للسلطة والتي نادت بالحرية والاستقلال بعد 100 عام من الظلم والحكم الملكي الجائر من قبل عائلة آل سعود.
حين تقترب من الجدران في القطيف ستجدها تتحدث بصوت حزين يروي حكايات سنوات الحرمان وقصص الشهداء الذين سُفكت دمائهم في الطرقات وفي المعتقلات طوال سنوات الحكم السعودي، وفجأة ستنتفض تلك الجدران أمامك وتعلن تمردها، سخطها، وستعبّر عن غضبها المحتقن منذ قرن من الزمان، ستسمع نداءاتها المدوية تعلن بداية عصر الانعتاق والتحرر والثورة على كل الماضي البغيض المملوء بألم التسلط الدكتاتوري..
جدران القطيف تشارك الثوار وتنطق بلسانهم وتسجل شهادتها التاريخية وتحتضن قضايا الثورة وتختزل تطلعات الجماهير وحلمهم بالحياة الحرة الكريمة..
لذا قررنا أن نمنحها الفرصة لتعبّر عن ذاتها وتعكس أحداث الانتفاضة المباركة لتحكي شيئاً عن مظلومية وكفاح هذه المنطقة الصامدة، التي لا تزال تطمح الى غد مشرق تستشرف بزوغه مع ولادة كل فجر جديد.
الأقمار التسعة ينيرون الطريق..
“16 سنة كفاية” أول الشعارات التي نادت بها حناجر الجماهير والتقطتها جدران المدينة المناضلة وراحت ترددها في كل حين، تذكر العابرين بأن لهم تسعة أخوة/ أبناء أمضوا زهرة شبابهم خلف القضبان، يتلوون تحت سياط التعذيب، تمضي بهم السنون بلا شمس دافئة ولا قمر منير، حرموا من حياتهم وهم لا يزالوا يتنفسون الهواء العطن لأقبية السجون، وقد وخط الشيب لحاهم ورؤوسهم بعيداً عن أهليهم وأسرهم، أعزبهم تزوّج بين العنابر والزنازين، وشبّ أطفالهم بلا أحضان تحميهم وتلاعبهم فوق عشب الأيام الخضراء للطفولة المحرومة من حق الأبوة ودفئها..
“16 سنة كفاية” رمز قضية “السجناء المنسيون” وهم تسعة شبان من مختلف مناطق القطيف, اعتقلوا صيف العام 1996 وحتى الساعة, بدون محاكمات, بتهمة تفجير ابراج الخبر, العملية التي تبنتها القاعدة على لسان زعيمها أسامة بن لادن، هذه القضية هي التي أشعلت شرارة الانتفاضة وتسببت في انفجار غضب الجماهير.
الشعب يريد..
نجح شباب الانتفاضة في تحميل الجدران مسؤولية ايصال رسالتهم ومطالبهم الى السلطات الجائرة, فحولوا الجدران الى صحيفة ناطقة عناوينها المطالب العريضة التي نادى بها ثوار الميادين فكانت الرسالة واضحة للسلطة لو أرادت أن ترى وتعي ماذا يريد المواطنون!.
فما عجزت أفواه الشعب عن النطق به طوال سنوات بفعل ساسة النظام في كتم الألسن واغتيال الكلمة الحرة وسجن الراي الصادق، صدحت به وأعلنته جهارا جدران القطيف وشهدت عليه خطوط ورسوم الثائرين التي امتزجت بدمائهم..