دلالة آية: ﴿لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ على تأثير العين؟
بسم الله الرحمن الرحيم
اللهمَّ صلِّ على محمد وآل محمد
المسألة:
قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ﴾(1) ما معنى قوله تعالى:﴿لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ وهل تدلُّ الآية على تأثير العين؟
الجواب:
المدلول اللُّغوي لمادة زلق:
قوله تعالى: ﴿لَيُزْلِقُونَكَ} من الزلَق(2) وهو الزلل، يقال زلِقت رجله أي زالت قدمُه من موضعها، وأزلقه بمعنى أزاله من موضعه، والزَّلَقُ: المكان المَزْلَقة الذي لا تثبتُ عليه القدم، ومكانٌ زَلَقٌ أي دحْض، والمزالق هي المداحض المقتضية لتعثُّر وسقوط من يمشي عليها، وأَرضٌ مَزْلقة ومُزْلقة لا تثبتُ عليها قدم، ويُقال كذلك للأرض الملساء التي لا نبات فيها، ولا يثبت عليها شيء، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿فتُصْبِحَ صَعيداً زَلَقاً﴾(3) أَي أَرْضاً مَلْساء. ويُقال: أزلق الحجامُ الشعرَ وزلقه إذا حلقه وأزاله مِن منبته، ولهذا يُستعمل الإزلاق بمعنى الاستئصال والإهلاك.
وعليه فالمدلول اللُّغوي لكلمة يزلقونك هو أنَّهم يُزيلونك عن موضعك أو يُهلكونك ويستأصلونك من الوجود، والخطابُ موجَّه للنبيِّ الكريم (ص)، والآيةُ بصدد التوصيف للحال التي يكونُ عليها الكفَّار حين سماع النبيِّ الكريم (ص) يتلو القرآن، فكانوا ينظرون إليه شزْراً نظرَ الشانئ الذي مَلئت قلبَه الضغينةُ والشحناء، فكانوا لشدَّةِ حنقهم وغيظهم يُحدُّون النظرَ إليه حتى يكادوا لحدَّةِ نظرهم يصرعونه أو يُصيبونه بما يُزيله عن مقرِّه.
فقوله تعالى: ﴿لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ سيق لغرض الكناية عن شدَّةِ غيظهم وبغضهم للنبيِّ الكريم (ص) وكانت العرب تقول: نظرَ فلانٌ إِليَّ نظراً كاد يأْكلُني، وكاد يَصْرَعُني يعني نظرَ إليَّ نظرَ الشانئ الحاقد الذي بلغ من غيظه بحيث لو كان في وِسْعه أنْ يأكلني لأكلَني، ولو أمكنَه أنْ يَصرعَني لفعل.
ومِن ذلك قول الشاعر:
يَتقارَضونَ إِذا الْتَقَوْا في مَوْطِنٍ ** نظراً يُزِيلُ مَواطِئَ الأَقْدامِ(4)
يعني يكاد نظرهم لحدَّته أن يُزيلهم عن مواضعهم أو يكاد لحدَّته أن يُهلكهم ويستأصل شأفتهم لو كان يُتاح الاستئصال بالنظر.
المستظهََر من الآية الشريفة:
فمعنى قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ أنَّ الذين كفروا لشدَّة عداوتهم وبغضِهم وحنَقِهم كانوا ينظرون إليك حين تتلو القرآن نظراً بلغ مِن الحدَّة بحيث يكادونَ بسبب نظراتهم الحادَّة أنْ يقتلوك بها لو سِعهم ذلك أو يُقال يكادون بسبب نظراتهم الحادَّة أن يُزيلوا قدمك عن مقرِّها فتعثر أو تنصرف تماماً كما هي السهام حين تُصوَّبُ لأحدٍ فإنَّه يتحاشها حتى لا تُصيبه فيزول عن مقرِّه أو يزلق ويتعثَّر فيسقط، كذلك حين ينظر إليك أحدٌ بغيظٍ وحنَقٍ نظرا حاداً فإنَّ ذلك يبعثُك على التعثُّر والتلعثم في الكلام أو الانصراف. فالآيةُ بهذا التوصيف أرادت التعبيرَ والكناية عن شدَّةِ عداوتهم وحنَقهم على الرسول (ص) وأنَّ تلاوته للقرآن تستفزُّهم وتزيدُهم غيظاً وحقداً عليه صلى الله عليه وآله.
ما استظهره مشهورُ المفسِّرين:
هذا هو المستظهَر من الآية الشريفة إلا أنَّه في مقابل هذا الاستظهار ذهب مشهورُ المفسِّرين أنَّ المراد من قوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ أنَّهم كادوا وقاربوا يُصيبونك أو يصرعونك ويُزيلونك من الوجود بالعين، إذ أنَّهم يعتقدون أنَّ ثمة تأثيراً للعين قد يصلُ إلى موت المعيون أو إصابته بالعطَب، وقد رُوي في ذلك أنّ الكفَّار أرادوا أن يعيّنوا رسول الله (ص) ويُصيبوه بالعين، فنظر إليه قومٌ من قريش، وقالوا: ما رأينا مثلَه ولا مثل حُجَجِه.
ورُويَ كذلك أنّه كان في بني أسد عيّانون، فأراد بعضُهم أنْ يعين رسول اللَّه -يصيبه بالعين- وكان الرجلُ منهم يتجوّع ثلاثة أيّام، فلا يمرُّ به شيءٌ فيقول فيه: لم أرَ كاليوم مثله إلَّا عانَه وصرَعه. فأراد بعضُ العيّانين على أنْ يقولَ في رسول اللَّه (ص) بمثل هذا القول، فقال له حين قراءته: لم أرَ كاليوم رجلاً مثله، فعصَمَه اللَّه. فنزلتْ: ﴿وَإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ﴾(5).
وقال الكلبي: كان رجلٌ من العرب يمكثُ لا يأكلُ يومين أو ثلاثاً ثم يرفع جانب خبائه فتمرُّ به الإبل فيقول: لم أرَ كاليوم إبلاً ولا غنماً أحسن من هذه، فما تذهبُ إلا قليلاً حتى تسقط منها طائفةٌ وعدَّة، فسأل الكفَّارُ هذا الرجل أنْ يُصيبَ رسول الله (ص) بالعين ويفعل به مثل ذلك فعصَم الله نبيَّه (ص) وأنزل: ﴿وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾"(6).
وبذلك وشبهه استظهر الكثيرُ من المفسِّرين -خصوصاً من أبناء العامَّة- من الآية الشريفة أنَّها بصدد الإخبار عن أنَّ الكفَّار كانوا قد سعوا إلى الإضرار بالنبيِّ (ص) أو إهلاكه من طريق إصابته بالعين، ولهذا استفادوا من الآية الإقرار بصحَّة ما عليه الناس من اعتقادٍ بتأثير العين.
إلا أنَّ الصحيح هو عدم ظهور الآية في أنَّها بصدد الإخبار عن سعي الكفار بإصابة النبيِّ (ص) بالعين بل إنَّها -كما ذكرنا- بصدد التعبير عن شدَّة عداوتهم وحنقهم على الرسول الكريم(ص) وأنَّ تلاوته للقرآن كان يستفزُّهم ويزيدُهم حنقاً عليه وبغضاً إليه، فقوله تعالى: ﴿لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ﴾ سيق لغرض الكناية عن شدَّةِ غيظهم وحنقهم على النبيِّ الكريم (ص) فلا صلة للآية ظاهراً بالعين وتأثيرها.
ويُمكن تأييد هذا الاستظهار للآية بما أورده الكليني في الكافي، والشيخ الصدوق في مَن لا يحضره الفقيه، والشيخ الطوسي في التهذيب، واللفظ للأول بسندٍ صحيح عن حَسَّانَ الْجَمَّالِ قَالَ: حَمَلْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه (ع) مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى مَكَّةَ، فَلَمَّا انْتَهَيْنَا إِلَى مَسْجِدِ الْغَدِيرِ نَظَرَ إِلَى مَيْسَرَةِ الْمَسْجِدِ فَقَالَ: ذَلِكَ مَوْضِعُ قَدَمِ رَسُولِ اللَّه (ص) حَيْثُ قَالَ: مَنْ كُنْتُ مَوْلَاه فَعَلِيٌّ مَوْلَاه، ثُمَّ نَظَرَ إِلَى الْجَانِبِ الآخَرِ فَقَالَ: ذَلِكَ مَوْضِعُ فُسْطَاطِ -المنافقين- أَبِي فُلَانٍ وفُلَانٍ وفلان وفلان، فَلَمَّا أَنْ رَأَوْه رَافِعاً يَدَيْه قَالَ: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ انْظُرُوا إِلَى عَيْنَيْه تَدُورُ كَأَنَّهُمَا عَيْنَا مَجْنُونٍ فَنَزَلَ جَبْرَئِيلُ (ع) بِهَذِه الآيَةِ: ﴿وإِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ ويَقُولُونَ إِنَّه لَمَجْنُونٌ وما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ﴾"(7).
والظاهر أنَّ مفاد الرواية هو تطبيق الآية على المنافقين في المشهد المذكور لا أنَّه أول نزولها، ولعلَّها نزلت مرَّتين، وعلى أيِّ تقدير فالمشهد المذكور مناسبٌ للمعنى الذي استظهرناه من الآية الشريفة وأنَّه لا صلة لها بتأثير العين.
لا سبيل إلى إنكار التأثير للعين:
نعم هذا لا يعني الإنكار لتأثير العين في الجملة، فإنَّ ذلك لا سبيل إلى إنكاره، إذ لا دليل -كما أفاد العلامة الطبأطبائي- على نفيه عقلاً"(8) فكلُّ شيءٍ طرقَ سمعَك ممَّا لم يقم الدليلُ على امتناعه واستحالته فذرْه في بقعة الإمكان حتى يذودَك عنه قاطعُ البرهان، وحيثُ إنَّ تأثير العين، وهو نوعٌ من التأثيرِ النفساني أمرٌ لم يقم الدليل على امتناعه واستحالته لذلك يكونُ الجزمُ بإنكاره من الغرور الناشئ عن الغفلة بأنَّ هذا الكون مليء بالأسرار التي لا يُحيط بها الإنسان، فكم من القضايا التي كان يجحدُها الإنسانُ جُزافاً ثم يتبيُّنُ له أنَّها من الحقائق التي لا يسعُه إنكارها.
على أنَّ ثمة شواهد يبدو أنَّه لا تفسير لها سوى تأثير العين، فذلك وإنْ لم يكن مُوجباً للجزم لكنَّه لا يُصحِّح الإنكار عقلاً، هذا بقطع النظر عمَّا ورد في الروايات التي لا يبعدُ استفاضتها وإفادتها أنَّ للعين تأثيراً في الجملة كالذي ورد أنَّ: "العين حق"(9) أي أنَّ لها تأثيراً حقيقيَّاً، وكذلك ما ورد عن النبيِّ (ص): "إنَّ العين لتدخلُ الرجلَ القبر، والجملَ القدر"(10) وكذلك ما ورد من الأمر إلى بالاستعاذة من العين. ومنه: ما رواه الشيخ الصدوق بسندٍ صحيحٍ عن العلاء عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: "لا يدَعُ الرجلُ أنْ يقول عند منامه: "أعيذُ نفسي وذريتي وأهلَ بيتي ومالي بكلماتِ الله التامَّات مِن كلِّ شيطانٍ وهامَّة ومِن كلِّ عينٍ لامَّة، فذلك الذي عوَّذ به جبرئيلُ عليه السلام الحسنَ والحسينَ (عليهما السلام)"(11).
ومنه: ما أورده الكليني عن عَلِيُّ بْنُ إِبْرَاهِيمَ عَنْ أَبِيه عَنْ بَعْضِ أَصْحَابِه عَنِ الْقَدَّاحِ عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّه (ع) قَالَ: قَالَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ (ع): رَقَى النَّبِيُّ (ص) حَسَناً وحُسَيْناً فَقَالَ: أُعِيذُكُمَا بِكَلِمَاتِ اللَّه التَّامَّاتِ وأَسْمَائِه الْحُسْنَى كُلِّهَا عَامَّةً مِنْ شَرِّ السَّامَّةِ والْهَامَّةِ، ومِنْ شَرِّ كُلِّ عَيْنٍ لَامَّةٍ ومِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ، ثُمَّ الْتَفَتَ النَّبِيُّ (ص) إِلَيْنَا فَقَالَ: هَكَذَا كَانَ يُعَوِّذُ إِبْرَاهِيمُ - إِسْمَاعِيلَ وإِسْحَاقَ (ع)"(12).
والحمد لله ربِّ العالمين
الشيخ محمد صنقور
30 / جمادى الآخرة / 1446ه
1 / يناير / 2025م
1- سورة القلم / 51.
2- لاحظ: لسان العرب -ابن منظور- ج10 / ص144، مقاييس اللغة -ابن فارس- ج3 / ص21، الصحاح -الجوهري- ج4 / ص1491، تاج العروس -الزبيدي-ج13 / ص198.
3- سورة الكهف / 40.
4- تفسير مجمع البيان -الطبرسي- ج10 / ص98.
5- الكشف والبيان عن تفسير القرآن -الثعلبي- ج10 / ص23، أسباب النزول -الواحدي النيسابوري- ص293،
6- الكشف والبيان عن تفسير القرآن -الثعلبي- ج10 / ص23.
7- الكافي -الكليني- ج4 / ص566، من لا يحضره الفقيه ج2 / ص560، تهذيب الأحكام -الطوسي- ج3 / ص264.
8- الميزان في تفسير القرآن -السيد الطبأطبائي- ج19 / ص388.
9- طب الأئمة -ابنا بسطام النيساوري- ص121، مكارم الأخلاق -الطبرسي- ص386.
10- بحار الأنوار -المجلسي- ج60 / ص20.
11- من لا يحضره الفقيه -الصدوق- ج1 / ص470.
12- الكافي -الكليني- ج2 / ص569.