كان المرحوم آية الله العظمى الشيخ محمد تقي الشيرازي رضوان الله تعالى عليه (مفجّر ثورة العشرين في العراق ومحرّره من الاستعمار الإنجليزي وهو في الثمانين من العمر) مرجعاً دينياً كبيراً عُرف بالورع والتقوى، حتى أنّ تلاميذه عندما كانوا يُسألون عن عدالته كانوا يجيبون:
سلوا عن عصمته وهل هو معصوم أو لا. (ولاشك أنه غير معصوم)
هذا الرجل العالِم الورع كان يفتي بأنّه لا يجوز استئجار غير العادل لقضاء ما فات الميت من صلاة وصيام وإن كان ثقة، بل يشترط فيه العدالة. ولا يخفى أنّ الفقهاء يختلفون في هذه المسألة، فبعض لا يشترط العدالة ويرى أنّ مجرّد الثقة بأنّ الشخص سيؤدّي هذه الصلوات والعبادات يكفي ولا يلزم أن يكون عادلاً، بينما يشترط آخرون ـ كالشيخ محمد تقي الشيرازي قدّس سرّه مثلاً ـ العدالة في الشخص الذي يتقاضى أجوراً لقاء قضاء ما فات الميت من صلاة وصيام.
ينقل المرحوم الوالد رضوان الله تعالى عليه أنّ أحد المؤمنين جاء يوماً إلى الشيخ (الشيرازي) وشكا عنده الفقر والعسر، وطلب منه أن يحوّل إليه قضاء صلاة أو صوم عن بعض الأموات ـ فإنّ الورثة والأوصياء يعطونها في العادة للمرجع لكي يحوّلها إلى مَن يراه صالحاً ـ ولكن الشيخ محمد تقي الشيرازي قدّس سرّه اتفق أنه لم يكن آنذاك عنده من العبادات الاستيجارية شيء، فاعتذر وقال:
لا يوجد عندي الآن.
ولما كان الرجل (السائل) قد أضرّ به الفقر وضغط عليه لم يتمالك نفسه، فأخذ يسبّ الشيخ (هذا العالِم الورع الذي كان تلامذته يرونه في التقوى تالي تلو المعصوم)!
وبعد بضعة أيام جاءوا للشيخ بصلاة وصيام قضاء عن الميت أي جاء له بعض المؤمنين وأعطاه مالاً لاستئجار مَن يصلّي عن أبيه مثلاً. وهنا بادر الشيخ محمد تقي الشيرازي ووجّه أحد أفراد حاشيته ليذهب بذلك المال إلى ذلك الرجل الذي سبّه لاستئجاره في قضاء هذه الصلوات!
وهنا تعجّب هذا الشخص الذي هو من أصحاب الشيخ وحاشيته وقال: شيخنا، ألستم تشترطون العدالة فيمَن يُستأجر للقضاء عن الميّت؟
قال: بلى، فقال: ولكن هذا الرجل على فرض أنّه كان عادلاً ولكنّه فقد العدالة عندما سبّكم، وكلنا نعلم أنّ سبّ المؤمن حرام، وارتكاب الحرام مسقط للعدالة. ولا شكّ أنّه يصدق على الشيخ أنّه مؤمن، فضلاً عن أنّه مرجع تقليد ومضرب المثل في الورع والتقوى.
فتبسّم الشيخ ثم قال: سبّ الفقراء للعلماء غير مسقط للعدالة. اذهب وأعطه المال؛ فإنّه لم يكن ملتفتاً حينما سبّ.
أجل إنّ مَن تملّكه حالة الغضب لا يشعر ما الذي يقول، وخاصة الفقير الذي لا يدري كيف يرجع بلا قوت إلى عائلته، وهو لا يتوقع الرد من العالم.
أجل، كل هذا صحيح، ولكن لو لم يكن نكران الذات عند الشيخ الشيرازي قدّس سرّه لما قال إنّ الرجل لم يكن يشعر حين شتمني! خاصة وأنّه غير مستعدّ لتحمّل مسؤولية قضاء صلاة الأموات وصيامهم من أجل فذلكة خلقية، لكنه شخّص أنّ هذا الرجل غير فاسق، وإلاّ لما أعطاه المال لقضاء الصلوات وهو المشترط للعدالة في هذا الأمر.