- دعوة الى سبيل المؤمنين - طارق زين العابدين ص 80 :
ماذا كان بينها وبين أبي بكر وعمر ؟
ونأتي بعد هذا ونسأل: ماذا كان بينها وبين أبي بكر وعمر في مسألة ميراثها من أبيها محمد رسول الله (صلى الله عليه وآله)؟!
يروي البخاري عن عائشة أم المؤمنين : " أن فاطمة بنت النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم مما أفاء الله
- ص 81 -
عليه بالمدينة وفدك وما بقي من خمس خيبر، فقال أبو بكر : إن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة. . . إلى قولها : فأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة [ ( عليها السلام ) ] منها شيئا ، فوجدت فاطمة على أبي بكر
في ذلك فهجرته ، فلم تكلمه حت توفيت ، وعاشت بعد النبي [ ( صلى الله عليه وآله ) ] ستة أشهر ، فلما توفيت دفنها زوجها علي ليلا ، ولم يؤذن بها أبا بكر ، وصلى عليها [ ( عليها السلام ) ] " ( 1 ) .
ويروي البخاري أيضا : " . . . فغضبت فاطمة بنت رسول الله ( ص ) ، فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله [ ( صلى الله عليه وآله ) ] ستة أشهر . قالت عائشة : فكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله [ ( صلى الله عليه وآله ) ] من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر عليها ذلك " ( 2 ) .
وفدك هذه مما أفاء الله به على رسوله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهو ملك خاص له إذ لم يوجف المسلمون عليها بخيل ولا ركاب ( 3 ) ، فصالح اليهود النبي ( صلى الله عليه وآله ) على نصفها يوم فتح حصون خيبر .
وروي أن عمر بن الخطاب قال للنبي ( صلى الله عليه وآله ) بعد ما أفاء الله عليه من خيبر : " ألا تخمس ما أصبت - أي تأخذ الخمس منه وتقسم الباقي على المسلمين - فقال له رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المسلمين ، يقول : ما أفاء الله على رسوله " ( 4 ) .
يتضح من هذا جليا أن ما أفاء الله به على رسوله من فدك وغيرها خالص لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولآل بيته الكرام . ولما طالبه ابن الخطاب بأخذ الخمس منه وتقسيم ما يتبقى بين المسلمين ، لم يقبل النبي ( صلى الله عليه وآله ) ذلك منه وخص به نفسه ، كما خصه به الله تعالى ، ولم يشرك معه أحدا من المسلمين فيه .
فانظر إلى قوله ( صلى الله عليه وآله ) : " لا أجعل شيئا جعله الله لي دون المسلمين " ، فإذا كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) لم يقبل بإعطاء أحد من المسلمين شيئا من فدك واحتفظ بها لنفسه ولأهله وهو
* هامش *
( 1 ) صحيح البخاري 5 : 139 - طبعة 1314 ه مصر .
( 2 ) صحيح البخاري : كتاب الخمس - باب فرض الخمس ، وصحيح مسلم : كتاب الجهاد .
( 3 ) فتوح البلدان للبلاذري 1 : 41 ، كتاب السقيفة ص 97 ، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 16 : 110 .
( 4 ) المغازي للواقدي 1 : 377 - 378 .
( 5 ) الكامل في التاريخ 2 : 174 ، تاريخ الطبري 2 : 226 . ( * )
- ص 82 -
حي من بينهم ، فكيف يحرمهم منها بعد وفاته وغيابه عنهم ؟ !
فهل كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) يرى أن أهل بيته أحوج إلى فدك في حياته منها بعد وفاته ؟ !
أيعقل هذا يا أولي الألباب ؟ !
فمن حيث إن فدكا وغيرها كانت خالصة لرسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ولأهل بيته ، فقد صارت بذلك ميراثا للزهراء وعلي وابنيهما ( عليهم السلام ) .
ومن حيث إن عليا ( عليه السلام ) وابن عباس وأبا سعيد الخدري رضي الله عنهم ، رووا : " أنه لما نزل قوله تعالى : ( وآت ذا القربى حقه ) دعا رسول الله [ ( صلى الله عليه وآله ) ] فاطمة فأعطاها فدكا " ( 1 ) ، فمن حيث ذلك يكون النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد نحل الزهراء ( عليها السلام ) فدكا ، وصارت ملكا لها في حياته ( صلى الله عليه وآله ) .
فأما من حيث الميراث فقد رد قولها أبو بكر بقوله : إن رسول الله قال : لا نورث ، ما تركناه صدقة ! وأما من حيث إنها كانت نحلة لها ( عليها السلام ) فقد طالبها أبو بكر بالشهود ، فشهد لها علي ( عليه السلام ) وأم أيمن ، وقيل جاءت برباح -
مولى رسول الله - وأم أيمن ( 2 ) ، فلم يقبل دعواها لعدم اكتمال الشهود ، كما يقول ابن حجر الهيثمي : " ودعوى فاطمة أنه صلى الله عليه وآله نحلها فدكا لم تأت عليها إلا بعلي وأم أيمن ، فلم يكمل نصاب البينة " ( 3 ) .
فالزهراء ( عليها السلام ) لم تكن ترى أبا بكر وعمر إلا ظالمين قد حرماها من إرث أبيها بلا وجه حق ، أو منعاها نحلتها منه . لذا لم تكن ترى ما رواه أبو بكر عن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) بصواب ولا بحق .
ولهذا تصدت لهذا الظلم ، وخاطبت أبا بكر على ملأ من المهاجرين والأنصار . يروي أبو بكر الجواهري : " لما بلغ فاطمة إجماع أبي بكر على منعها فدكا، لاثت خمارها على رأسها ، واشتملت جلبابها ، وأقبلت في لمة من حفدتها ونساء قومها تطأ
ذيولها ، ما تخرم مشيتها مشية النبي ( ص ) ، حتى دخلت على أبي بكر وهو في حشد من المهاجرين والأنصار وغيرهم ، فنيطت دونها ملاءة ، ثم أنت أنة أجهش لها القوم بالبكاء وارتج المجلس ، ثم أمهلت هنيهة حتى إذا سكن نشيج القوم وهدأت
فورتهم ، افتتحت كلامها بحمد الله عز وجل والثناء عليه والصلاة على رسول الله [ ( صلى الله عليه وآله ) ] ثم قالت : " أنا فاطمة ! ابنة محمد ، أقول عودا على بدء ، ( لقد جاءكم سول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف
رحيم ) ، فإن تعدوه تجدوه أبي دون آبائكم وأخا ابن عمي دون رجالكم . . . ثم أنتم الآن تزعمون أن لا إرث لنا ! ! ( أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) ؟ ! يا ابن أبي قحافة ! ترث أباك ولا أرث أبي ؟ لقد جئت شيئا فريا
، فدونكها مخطومة مرحولة تلقاك يوم حشرك ، فنعم الحكم الله ، والزعيم محمد ( ص )، والموعد يوم القيامة ، وعند الساعة يخسر المبطلون " ، وعج المكان ببكاء الناس . ثم خاطبت الأنصار فقالت : " إيها بني قيلة ، اهتضم تراث أبي وأنتم بمرأى
ومسمع ، تبلغكم الدعوة ويشملكم الصوت ، وفيكم العدة والعدد ، ولكم الدار والجنن ، وأنتم نخبة الله التي انتخب ، وخيرته التي اختار . باديتم العرب ، وبادهتم الأمور ، وكافحتم البهم ، حتى دارت بكم رحى الإسلام، ودر حلبه وخبت نيران الحرب،
وسكنت فورة الشرك، وهدأت دعوة الهرج، واستوثق نظام الدين ، أفتأخرتم بعد الإقدام ؟ ! ونكصتم بعد الشدة ؟ ! وجبنتم بعد الشجاعة عن قوم نقضوا إيمانهم من بعد عهدهم ، وطعنوا في دينكم ( فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون ). . .
ألا قد قلت لكم ما قلت على معرفة مني بالخذلة التي خامرتكم ، وخور القناة وضعف اليقين ، فدونكموها فاحتووها مدبرة الظهر ، ناقبة الخف ، باقية العار ، موسومة الشعار ، موصولة بنار الله الموقدة التي تطلع على الأفئدة ، فبعين الله ما تعملون ، ( وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ) " ( 1 ) .
ثم قالت فيما خاطب به أبا بكر وأصحابه : " أفعلى عند تركتم كتاب الله ونبذتموه وراء ظهوركم ، إذ يقول الله تبارك وتعالى : ( وورث سليمان داود ) ، وقال عز وجل فيما قص من خبر يحيى بن زكريا : ( رب هب لي من لدنك وليا يرثني ويرث من آل يعقوب ) ، وقال عز ذكره :
* هامش *
( 1 ) كتاب السقيفة لأبي بكر أحمد بن عبد العزيز الجواهري : ص 99 - 100 . ( * )
- ص 84 -
( وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله ) ، وقال : ( يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين ) ، وقال : ( إن ترك خيرا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف حقا على المتقين ) . وزعمتم أن لا حق ولا إرث لي من أبي ولا رحم
بيننا ! أفخصكم الله بآية أخرج نبيه ( ص ) منها ، أو تقولون : أهل ملتين لا يتوارثون ؟ ! أولست أنا وأبي من أهل ملة واحدة ؟ ! لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي ( ص ) ( أفحكم الجاهلية يبغون ) " ( 1 ) ؟
فمن الواضح أن الزهراء ( عليها السلام ) كانت شديدة على أبي بكر وقومه في مسألة ميراثها من أبيها ، فاضطرها ذلك لأن تخرج وتخاطبه أمام الناس داحضة ما ادعى سماعه من النبي ( صلى الله عليه وآله ) في عدم توريثه ، وأن ما تركه صدقة ، فاحتجت الزهراء ( عليها السلام ) عليه بآيات التوريث ، وأشارت إلى عموم حكم الوراثة .
وفي قولها : " لعلكم أعلم بخصوص القرآن وعمومه من النبي ( صلى الله عليه وآله ) " إشارة إلى أنه لو كان ثمة شئ لما خفي على النبي ( صلى الله عليه وآله ) حتى يعلموه هم دونه .
ولما كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) أعلم بهذا الأمر منهم فهي تعلم ذلك أيضا ، إذ أنها مسألة لا يمكن أن تجهلها الزهراء ويعلمها أبو بكر وحده ، فهي وارثة علم أبيها ، كما شهد به أبو بكر نفسه .
وأبو بكر يعلم يقينا قدر زهراء ( عليها السلام ) وبعدها عن الكذب وادعاء الباطل، ذلك لأنه سمع مرارا قول النبي ( صلى الله عليه وآله ) : " فاطمة بضعة مني ، يغضبني ما يغضبها "، لأن هذا الغضب لا يمكن أن يكون بلا وجه حق ، وإلا لكان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قاسيا على الناس وأبي بكر بفرض إرضاء الزهراء رغم ظلمها للناس بالغضب عليهم بلا أساس .
فأبو بكر يعلم هذا ، ولذا كان عليه أن يجعل غضبها دليلا على خطئه وبعده عن الحق في مسألة ميراث هذه ، وأن يجعل رضاها عنه عنوانا على صحة وسلامة منهجه وتصرفه في مسألة ميراثها ، لأنه لو قدر لأبي بكر أن يحكم بهذا في حياة
النبي ( صلى الله عليه وآله ) لغضب عليه ومنعه ، لأن الزهراء كانت ستغضب غضبها ذاك ، وهذا مما يغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) كما عرفنا .
وإذا صححنا لأبي بكر حكمه في ميراث الزهراء ومنعها إياه ، فعلينا أن نحكم بأن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد ترك لبنته زمام الغضب تسوقه متى شاءت على من شاءت من الناس ،
* هامش *
( 1 ) بلاغات النساء لابن طيفور ص 16 - 17 . ( * )
- ص 85 -
بالباطل وبلا حق يؤيدها . فالرسول ( صلى الله عليه وآله ) ما قرن غضبه بغضبها ، ورضاه برضاها إلا لأنها صادقة حين ترضى ومحقة حين تغضب على الدوام . . فكيف ابتعدت أفهام أبي بكر عن ذلك وغمرته الغفلة عن هذا ؟ !
إن الزهراء ما كانت تحتاج في مطالبتها بإرث أبيها إلى الخروج أمام المهاجرين والأنصار وتخاطبهم باللهجة التي قرأت لولا ثقل الظلم الذي كانت تنوء به هي نفسها ، ولولا يقينها الذي لا يشوبه الظن بخطأ أبي بكر في هذا الأمر ، سواء أكان ذلك الحكم أن ليس للرسول ( صلى الله عليه وآله ) إرث لبنته ، أو رده ادعاءها بأن أباها ( صلى الله عليه وآله ) قد نحلها فدكا .
وأعجب من ذلك رده شهادة رجل ما جرى الكذب على لسانه يوما منذ نعومة أظافره ، رجل شهد له الله تعالى بالإيمان والاستقامة والصلاح . . فعن علي ( عليه السلام ) ، قال : " جاء النبي أناس من قريش فقالوا : يا محمد ، إنا جيرانك
وحلفاؤك ، وإن أناسا من عبيدنا قد أتوك ليس بهم رغبة في الدين ولا رغبة في الفقه ، إنما فروا من ضياعنا وأموالنا ، فارددهم إلينا ، فقال لأبي بكر : ما تقول ؟ قال : صدقوا ، إنهم جيرانك . . قال : فتغير وجه النبي ( ص ) ، ثم قال لعمر :
ما تقول ؟ قال : صدقوا ، إنهم لجيرانك وحلفاؤك . . فتغير وجه النبي ( ص ) . . . فقال : يا معشر قريش ، ليبعثن الله عليكم رجلا قد امتحن الله قبله بالإيمان ، فيضربكم على الدين . فقال أبو بكر : أنا يا رسول الله ؟ قال : لا . قال عمر : أنا يا رسول الله ؟ قال : لا ، ولكنه الذي يخصف النعل . . وكان قد أعطى عليا نعله يخصفها " ( 1 ) .
فلقد كان هذا كافيا لأبي بكر بأن يقبل شهادة الإمام علي ، ويحكم لصالح الزهراء ، ويقبل ادعاءها بلا أدنى شك .
لقد كانت لخزيمة بن ثابت شهادة عدلين لصدقه ، فهل كان خزيمة أصدق من
* هامش *
( 1 ) مسند أحمد بن حنبل 1 : 155 ، كنز العمال 6 : 396 . ( * )
- ص 86 -
علي ( عليه السلام ) ؟! فعلي ولي كل مؤمن ومؤمنة بعد النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بما فيهم أبو بكر وعمر وخزيمة ذو الشهادتين ، فيكف وجد أبو بكر سبيلا لرد شهادته وقد سمع نص امتحان الله قلبه بالإيمان من فم النبي ( صلى الله عليه وآله )
؟ ! فكان لأبي بكر أن ينحو منحى النبي ( صلى الله عليه وآله ) من أجل ذرية وبضعة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، فيعد ادعاء الزهراء وحدها دليلا على صدقها وأحقيتها فيما ادعته ، تبرئة لها من الكذب ، ولطهارتها من الرجس التي أكدها القرآن
الكريم . أو كان لأبي بكر أن ينتهج نهج النبي ( صلى الله عليه وآله ) من أجل النبي ( صلى الله عليه وآله ) في أخيه وأبي ولده الذي يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله ، فيعده من أهل الشهادتين ، وينزله مقام خزيمة على أقل التقادير .
غير أن معاوية ابن أبي سفيان قد اقتطع ثلث فدك هره لمروان بن الحكم ، واستحقها مروان دون ادعاء ميراثها أو نحلتها ! فإذا حرمت الزهراء فدكا لأنها مال المسلمين ، فقد صارت إرثا من مروان لابنه عبد العزيز ، ذلك أن مروان قد اقتطعها لابنه هذا من بعده ( 1 ) .
على أن أبا بكر لم يراع قانون حفظ أموال المسلمين كما راعى ذلك في مسألة فدك ، فقد كانت أموال المسلمين توهب لكل من هبت من نواحيه عواصف الخطر على الخلافة ! يقول الطبري : " كان النبي [ ( صلى الله عليه وآله ) ] قد بعث أبا سفيان
ساعيا [ على أموال اليمن ] فرجع من سعايته ، وقد مات النبي صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، فلقيه قوم فسألهم ، فقالوا : مات رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم . فقال : من ولي بعده ؟ قيل : أبو بكر . . . فلما قدم المدينة ، قال : إني لأرى
عجاجة لا يطفئها إلا الدم . . . فكلم عمر أبا بكر فقال : إن أبا سفيان قدم ، وإنا لا نأمن شره ، فدفع له ما في يده ، فتركه ورضي " ( 2 ) .
فهكذا اتقى أبو بكر وعمر شر أبي سفيان ، وأطفئت عجاجته بما كان في يده من أموال المسلمين التي جمعها ساعيا بأمر النبي ( صلى الله عليه وآله ) ! أما الزهراء فلا تأخذ من الإرث حقها ، ولا بادعائها وشهادة أمير المؤمنين ولا تنال
* هامش *
( 1 ) كتاب السقيفة لأبي بكر الجواهري ص 137 الملحقات . ( 2 ) تاريخ الطبري 3 : 202 ، الكامل لابن الأثير 2 : 215 . ( * )
- ص 87 -
نحلتها من أبيها ! غير أن أبا بكر لما كان مستيقنا من أنه لا بد أن يكون للزهراء إرث من أبيها بأي حال من الأحوال ، قال لها : إنه سمع رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) يقول : " إنا معشر الأنبياء لا نورث ذهبا ولا فضة ولا أرضا ولا عقارا ولا دارا ، ولكنا نورث الإيمان والحكمة والعلم والسنة " ( 1 ) .
ولعمري ، لقد أراد أبو بكر أن يرد ادعاء الزهراء وينفي إرثها من أبيها ، ولكنه أثبت لها ذلك من حيث لا يشعر ، فإنه بغض النظر عن الذهب والفضة والأرض والعقار والدار ، قد أثبت للزهراء إرث الإيمان والحكمة والعلم والسنة من أبيها ! !
إذاً ، فهي قد ورثت من أبيها الأرض أيضا ، ذلك لأنها ورثت الإيمان من أبيها فلا سبيل للكذب وادعاء الباطل إليها ، إذ أن هذا الإيمان يعصمها بلا ريب من ادعاء شئ ليس لها فيه حق ، وإن ادعت شيئا فادعاؤها حق لا شبهة فيه .
وإذاً كانت قد ورثت العلم والسنة فالزهراء ( عليها السلام ) إذا هي أعلم بالسنة من أبي بكر ، ولا يجوز - مع وراثتها السنة من أبيها - أن تجهل حديثا يعلم به أبو بكر دونها ودون ابن عمها ، وأبو بكر ليس بوارث شيئا من علم وسنة النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
والحديث الذي رواه يمنع به إرث الزهراء حديث انفرد به هو دون والصحابة ، فكيف جهلت الزهراء هذا الحديث وهي وارثة السنة ؟ ! فهذا أمر لا يستقيم له عود ، لذا فمعارضتها تبطل الحديث .
ومن المعلوم أن حديث أبي بكر هذا من أخبار الآحاد ، وحتى إذا لم يعارضه في مفاد هذا الحديث أحد ، فهو لا يفيد إلا الظن بصدقه هذا مع عدم المعارضة ، فكيف الحال إذا تمت المعارضة ، ولا سيما إذا تمت من الزهراء ( عليها السلام ) وأمثالها من بيت النبوة ؟ !
إذا فالحديث يتنزل حتى من درجة إفادة الظن في الصدق ، بعد المعارضة ، إلى أسفل الدرجات ، وتبطل به الحجة .
يقول صاحب فواتح الرحموت عن الذي يحدث بخبر الواحد : " إذا أخبر بحضرة خلق كثير فأمسكوا عن تكذيبه ، يفيد ظن صدقه " ( 2 ) ، ولكن قد كذبته الزهراء وأمير
* هامش *
( 1 ) أنظر : كتاب السقيفة لابن أبي بكر الجواهري ص 101 .
( 2 ) كتاب فواتح الرحموت بشرح مسلم الثبوت للعلامة عبد العلي بن نظام الدين الأنصاري 2 : 125 - الأصل الثاني - ( * )
- ص 88 -
المؤمنين ( عليه السلام ) ، إذا فالظن بالصدق لا يستفاد من مفاد الحديث ، ويسقط بالتالي عن الاعتبار .
إن أبا بكر ، لا يستطيع بهذا الحديث الذي انفرد بروايته وحده أن يمنع الزهراء إرثها من أبيها رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) . كما أنه لا يستطيع أن يبطل ادعاءها بأن أباها قد نحلها فدكا ، ذلك لأنه لا يمكن أن يدعي أن الزهراء قد طلبت ما ليس لها بحق لها جهلا منها أو كذبا ، و حاشاها .
إذاً أنه بنفسه قد أثبت لها أنها ورثت من أبيها الإيمان والعلم والحكمة والسنة ، فلا جهل مع العلم والحكمة والسنة ، ولا كذب مع الإيمان الموروث . كما أنها لا سبيل إلى إبطال شهادة الإمام علي ( عليه السلام ) ، لأنه يعرف مقامه جيدا ، وقد سمع النبي ( صلى الله عليه وآله ) يقول لعلي ( عليه السلام ) كرات ومرات : " أنت ولي كل مؤمن بعدي " ( 1 ) .
وعلى هذا ، فأبو بكر من موالي أمير المؤمنين كما هو واضح ، وذلك لعموم الحديث ، فلا يمكن أن يطوف بذهن الصديق أن الإمام عليا ( عليه السلام ) قد أخذته الحمية وجاء يشهد لزوجته شهادة زور وقد بلغ الإمام هذا المقام الولائي الذي يأتي بعد مرتبة النبي ( صلى الله عليه وآله ) بلا فصل ، فأبو بكر يعلم كل ذلك ولم تخف في ذلك عليه خافية .
ولكن المسألة لها اتجاه آخر ، فالأمر لم يكن فصلا في قضية حكم فيها أبو بكر بما صدر من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ومنع على أثرها الزهراء من أن ترث أباها ، وإنما كان هذا ظاهر القضية لا غير .
في الواقع إن أبا بكر ومن تصافق معه قد استكثروا ما تركه النبي ( صلى الله عليه وآله ) على الزهراء وزوجها وابنيهما ( عليهم السلام ) . وقد كان أبو بكر يرى نفسه أولى من غيره بالنبي ( صلى الله عليه وآله ) فيكف لا تكون فدك في يده هو ،
لا سيما وأنه قد تسلم زمام الخلافة ؟ ! فاعتبار نفسه بأنه من عشيرة النبي ( صلى الله عليه وآله ) من ناحية ، والحاجة إلى تقوية موقفه السياسي من حيث الجانب المالي من ناحية أخرى . . كل ذلك جعله لا يرى سببا يجعل كل فدك في يد علي
وفاطمة والحسن والحسين ( عليهم السلام ) ، لا سيما وأن هؤلاء الأربعة يمثلون خطرا سياسيا له ، وأنه بأخذ فدك منهم ، وضرب الحصار السياسي عليهم بعد الإضعاف المالي ، سيأمن على خلافته
* هامش *
( 1 ) السنة - طبعة بغداد 1970 ، بهامش كتاب المستصفى للغزالي .
مسند أحمد بن حنبل 1 : 331 ، والحديث المذكور من الخصائص التي يرويها سعد بن أبي وقاص . ( * )
- ص 89 -
منهم . وبنفس المنطق الذي استولى به أبو بكر على الخلافة وجرد منها الأنصار استولى على فدك ، إلى جانب منطق الحاجة السياسية والاقتصادية إلى مصدر مالي يجعله يقوم بأعمال شتى لتقوية دولته وحماية حكومته ، فكان هذا المصدر المالي في ذلك الوقت هو فدك .
ففي سقيفة بني ساعدة خاطب أبو بكر الأنصار قائلا : " . . . وخص المهاجرين الأولين من قومه بتصديقه [ وفي ذلك إشارة إلى نفسه ] ، فهم أول من عبد الله في الأرض ، وهم أولياؤه وعترته وأحق الناس بالأمر بعده ، ولا ينازعهم فيه إلا ظالم ".
إذا ، فما دام أبو بكر يرى أنه من أولياء النبي ( صلى الله عليه وآله ) وعترته ، وهم بالتالي أحق الناس بالخلافة من بعده . . فكيف لا يكون هو أحق الناس بفدك وغير فدك ؟ ! وما دام أنه يرى أحقيته في الخلافة ، فلا بد أن يدعم هذا الحق بما تركه النبي ( صلى الله عليه وآله ) باعتباره خليفته من بعده ، كما يرى ، ولهذا كان لا بد من الاستيلاء على فدك هذه .
أما أبو حفص ، فلم يكن يرى خلاف ما كان يراه أبو بكر ، فهما في الأمر سيان ، وقد تصافقا عليه وتوحدا ، يقول ابن الخطاب مخاطبا الأنصار : " هيهات ، لا يجتمع سيفان في غمد ، من ذا يخاصمنا في سلطان محمد وميراثه ونحن أولياؤه
وعشيرته إلا مدل بباطل أو متجانف لإثم أو متورط في هلكة ؟ ! " وبهذا يرفع أبو حفص النقاب ، ويبدي سبب الاستيلاء على فدك جليا واضحا . .
فانظر إلى قوله : " من ذا يخاصمنا في ميراث محمد وسلطانه " ، فعمر كان يرى أنه هو و أبو بكر ورثة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، لماذا ؟ لأنهما أولياؤه وعشيرته ! وإذا كان من حق أبي بكر وعمر أن يرثا الخلافة بعد النبي ( صلى الله عليه
وآله ) ، فكيف لا يكون من حقهما أن يرثا إرثهما في فدك وغيرها ؟ ! وبعد حصول إرث الخلافة ، فماذا يمنع من حصول إرث كل شئ آخر ، لا سيما إذا كان مربوطا بالخلافة سياسيا واقتصاديا ؟ !
يقول عمر بن الخطاب: " لما قبض النبي ( ص ) جئت أنا وأبو بكر إلى علي، فقلنا : ما تقول فيما ترك رسول الله ( ص ) ؟
- ص 90 -
قال : نحن أحق الناس برسول الله ( ص ) . قال [ عمر ] : قلت : والذي بخيبر ؟ قال [ علي ] : والذي بخيبر . قلت : والذي بفدك ؟ قال : والذي بفدك . قلت : أما والله حتى تحزوا رقابنا بالمناشير ، فلا " ( 1 ) .
فهذا الحوار الذي دار بين عمر والإمام علي ( عليه السلام ) يؤكد ما ذهبنا إليه من استكثار القوم فدكا على أهل البيت ، وإحساسهم بحقهم في إرث النبي ( صلى الله عليه وآله ) .
فلما لم يكن في استطاعة أبي بكر وعمر إنكار حق الإمام وأهل بيته في إرث النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، اضطرهما ذلك إلى التفكير بالتسوية واقتسام ما ترك النبي ( صلى الله عليه وآله ) وإلا فليس هناك تفسير غير ذلك لهذا الحوار . فما معنى أن يعودا مرة أخرى ويسألا الإمام عليا عن فدك وخيبر ؟ !
فأبو بكر أصدر حكمه برد ادعاء الزهراء منح النبي ( صلى الله عليه وآله ) إياها فدكا ، وأكد عدم توريث النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأن ما تركه صدقة ليس لبنته حق في إرثه ، فماذا بعد الحكم القضائي وعدم اكتمال البينة - كما يدعي القوم - وبعد إثبات أن ما تركه النبي ( صلى الله عليه وآله ) هو حق للمسلمين كافة ؟ !
وأما إن كان هذا الحوار هو أول كلام في أمر فدك وخيبر ، فلا يجوز لأبي بكر وعمر أن يأتيا إلى الإمام علي يسألانه رأيه في ما ترك النبي ( صلى الله عليه وآله )، لو كان النبي ( صلى الله عليه وآله ) قد قال حقا: " لا نورث ، ما تركناه صدقة "
،لأن هذا الحديث لا يتيح مجالا لأبي بكر وعمر ليساوما في أمر أصدر النبي ( صلى الله عليه وآله ) قوله فيه وبين حكمه ، فالنبي ( صلى الله عليه وآله ) لا يورث ما تركه صدقة للمسلمين، فما معنى محاورة الإمام علي ( عليه السلام ) وهو لا يملك شيئا من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، بل ليس له شئ فيما ترك النبي ( صلى الله عليه وآله ) سواء كان إرثا أو صدقة ؟ !
فلماذا يسأل عن رأيه في تركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) وهو غير وارث له طبقا لحديث أبي بكر ، ولا صدقة له فيما ترك النبي ( صلى الله عليه وآله ) بحكم أن أهل البيت قد حرموا الصدقة ؟ ! ( 2 )
* هامش *
( 1 ) مجمع الزوائد : باب ما تركه الرسول ( ص ) ، نقلا عن الطبراني في الأوسط .
( 2 ) صحيح البخاري 1 : 181 - كتاب الزكاة - باب ما يذكر في الصدقة للنبي . ( * )
- ص 91 -
ولما رأى عمر عدم مساومة الإمام علي ( عليه السلام ) في حقه الشرعي ، وأنه لم يحقق ما حلما به في الاقتسام ، قال له عمر - كما رأيت - : " أما والله ، حتى تحزوا رقابنا بالمناشير ، فلا " .
فعمر لم يبن رفضه هذا على حديث من النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، ولم يقل أبو بكر إني سمعت النبي يقول لا نورث . . . إذ لم ينبس أحد منهما بهذا الحديث في ذلك الحوار ، بل كان هذا الرفض مبنيا على ما كان يشعر به الشيخان من حق لهما
فيما ترك النبي ( صلى الله عليه وآله ) ، وعلى ما كان يلمسانه من الحاجة إلى مصدر مالي يدعمان به الخلافة والدولة . ولو كان الإمام علي رضي بالاقتسام لرضيا به ، كما هو واضح من مجيئهما إليه لمعرفة رأيه فيما ترك النبي ( صلى الله عليه
وآله ) ، وبهذا يثبتان له حقه ، وبرفضهما تمسك الإمام بكل التركة يوضحان إحساسهما بالحق فيما ترك النبي ( صلى الله عليه وآله ) . إذا ، فالاعتراف بحق أهل البيت وإحساسهما بالحق في ذلك أيضا يوضح نية الاقتسام من تلك الزيارة .
ولما لم يجد الشيخان من الإمام ( عليه السلام ) استجابة لما نوياه من اقتسام تركة النبي ( صلى الله عليه وآله ) ووجداه ثابت الرأي في أحقية أهل البيت في كل التركة ، لم يجد بدا من الاستمرار في الاستيلاء عليها والاستئثار بها ، إذ حتمت السياسة والحاجة الاقتصادية ذلك من قبل فأخذا فدكا .
يقول الإمام في خطابه لعثمان بن حنيف - واليه على البصرة - : " بلى ، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء ، فشحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس قوم آخرين ، ونعم الحكم الله " ( 1 ) .
ولهذا غضبت الزهراء ( عليها السلام ) ، ولم تكلم أبا بكر حتى لحقت بأبيها وهي غاضبة عليه لما فعل .
يقول البخاري : " فغضبت فاطمة بنت رسول الله ( ص ) ، فهجرت أبا بكر ، فلم تزل مهاجرته حتى توفيت ، وعاشت بعد رسول الله ( ص ) ستة أشهر . قالت عائشة : فكانت فاطمة تسأل أبا بكر نصيبها مما ترك رسول الله ( ص ) من خيبر وفدك وصدقته بالمدينة ، فأبى أبو بكر
* هامش *
( 1 ) شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 4 : 77 . ( * )
- ص 92 -
عليها ذلك " .
ولكن . . هل يقف الأمر عند أعتاب غضب الزهراء ( عليها السلام ) وينتهي كل شئ ؟
روى البخاري ، كما ذكر النبهاني في " الشرف المؤبد " : أن النبي ( صلى الله عليه وآله ) قال : " فاطمة بضعة مني يغضبني ما يغضبها " ،
ويروى أيضا " فمن أغضبها أغضبني " . . . ولهذا صار أبو بكر وعمر بين أمرين أحلاهما مر ، فهما يريان أهمية فدك ، إذ أنها خير دعم سياسي واقتصادي للخلافة ، ويريان في نفس الوقت حق الزهراء في فدك ، إذ أنها ميراث النبي ( صلى الله
عليه وآله ) الذي تركه لها ، وقد استقلت لذلك غضبا وسخطا . . ولهذا حاول أبو بكر وعمر مرة أخرى إرضاء الزهراء عنهما ، ولكن مع الاحتفاظ بفدك . ولتحقيق هذا الأمر قال عمر لأبي بكر : " انطلق بنا إلى فاطمة ، فإنا قد أغضبناها " .
وهذا يؤكد إحساسهما بثقل وخطورة غضب البتول وبضعة الرسول ( صلى الله عليه وآله ) : " فانطلقا جميعا ، فاستأذنا على فاطمة ، فلم تأذن لهما ، فأتيا عليا فكلماه ، فأدخلهما عليها . فلما قعدا عندها حولت وجهها إلى الحائط ، فسلما عليها ، فلم ترد
عليهما السلام ، فتكلم أبو بكر فقال : . . . أفترين أعرف فضلك وشرفك وأمنعك حقك وميراثك من رسول الله ؟ ! ألا إني سمعت أباك رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم يقول : لا نورث ، ما تركناه صدقة ، فقالت : أرأيتكما إن حدثتكما حديثا
عن رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم ، تعرفانه وتعملان به ؟ قالا : نعم . فقالت : نشدتكما الله ، ألم تسمعا رسول الله [ ( صلى الله عليه وآله ) ] يقول : رضاء فاطمة من رضاي وسخط فاطمة من سخطي ، فمن أحب فاطمة ابنتي فقد أحبني ،
ومن أرضى فاطمة فقد أرضاني ، من أسخط فاطمة فقد أسخطني ؟ قالا : نعم ، سمعناه من رسول الله صلى الله عليه [ وآله ] وسلم . قالت : فإني أشهد الله وملائكته أنكما أسخطتماني وما أرضيتماني ، ولئن لقيت النبي [ ( صلى الله عليه وآله ) ]
لأشكونكما إليه . فقال أبو بكر : إني عائذ بالله تعالى من سخطه وسخطك يا فاطمة . . ثم انتحب أبو بكر يبكي حتى كادت نفسه تزهق وهي تقول : والله لأدعون عليك كل صلاة
- ص 93 -
أصليها . . ثم خرج باكيا ، فاجتمع إليه الناس ، فقال لهم : يبيت كل رجل منكم يعانق حليلته ، مسرورا بأهله ، وتركتموني وما أنا فيه ؟ ! لا حاجة لي في بيعتكم ، أقيلوني بيعتكم " ( 1 ) .
إذا ، فأبو بكر يعلم أن غضب الزهراء ( عليها السلام ) يغضب النبي ( صلى الله عليه وآله ) وأن سخطها يسخطه ، ويعلم براءتها من الغضب الذي لا أساس له ، فقد شهد بهذا أبو بكر نفسه بإثباته أنها ورثت العلم والإيمان والحكمة والسنة من
رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، وهذا يوضح أن غضبها لا يكون إلا بالحق ، ولا يكون رضاها إلا به ، ولذلك استعاذ أبو بكر بالله من غضبها قائلا : أنا عائذ بالله تعالى من سخطه . . . . ، ثم انتحب يبكي ، إحساسا منه بخطورة الموقف .
واهتزت أركان الخلافة بسبب هذا الغضب الفاطمي ، وأصبحت بيعة الناس له لا تزن عنده عقال بعير ، فسعى لأن يكون منها في حل لو استطاع . ولكن هيهات ، فلقد أحكم عقدها في أعناق الناس ، ولما لم يجد أبو بكر فكاكا منها صار في لحظات احتضاره يجتر مرارة الندم ويتعلق بحبال التمني .
فقد قال يوم وفاته : " ثلاث فعلتهن ، ليتني كنت تركتهن ، فليتني تركت بيت علي ، وإن كان أعلن علي الحرب " ( 2 ) . . وقد صاحت الزهراء يومئذ مخبرة أباها عليه السلام بما حدث لأهل بيته من بعده ، فقالت : " يا أبت ، يا رسول الله ، ماذا لقينا بعدك من ابن الخطاب وابن أبي قحافة ! " ( 3 ) .
فماذا لقيت الزهراء ( عليها السلام ) منهما يا ترى ؟ ! !
والسؤال الذي يطرح نفسه لا محالة : كيف للزهراء الطاهرة أن تقف هذا الموقف من أبي بكر وعمر ، والرسول قد قيل إنه قال : " اقتدوا باللذين من بعدي : أبو بكر وعمر " ؟ ! أفتراها نسيت ما ورثته من عمل وحكمة وسنة ، ولما يمض على وفاة النبي ( صلى الله عليه وآله ) إلا أيام ؟ ! !
* هامش *
( 1 ) الإمامة والسياسة لابن قتيبة ج 1 عند ذكر حوادث السقيفة : أعلام النساء 4 : 123 - 124 .
( 2 ) الإمامة والسياسة ج 1 - وفاة أبي بكر .
( 3 ) تاريخ الطبري 3 : 210 ، الإمامة والسياسة 1 : 13 . ( * )
- ص 94 -
أم تراها مخالفة لما ورثته من سنة أبيها والدين الذي أنزل عليه ، فخالفته فيما أمر به ؟ ! !
أم هو حديث صاغته سدنة بني أمية لإثارة الغبار والضباب ، لإخفاء فضائل علي ( عليه السلام ) ، وخفضا لمقامه ، ومحقا للدين ؟ ! ! نعم ، هو ذلك لعمري ، حديث موضوع ، يدحضه قول الصادق الأمين ، مخاطبا أبا بكر وقومه : " لا أدري ما
تحدثون بعدي " ( 1 ) . . وما كان لأبي بكر يوم ذلك الخطاب إلا البكاء ، لو يجدي البكاء ! وكان الغضب الفاطمي ذا مرارة طغت على لذة الخلافة والسلطة ، فانتزعت تلك المرارة الحقيقة من أعماق الفطرة مهما كان ولكن فات الأوان .
وبين سكرات الموت قال أبو بكر : " فوددت أني سألته - يعني رسول الله - لمن هذا الأمر ، فكنا لا ننازعه أهله " ( 2 ) ولكن . . لات ساعة مندم .
* هامش *
( 1 ) الموطأ 1 : 307 ، المغازي للواقدي 1 : 310 - غزوة أحد .
( 2 ) الإمامة والسياسة ج 1 - وفاة أبي بكر ، كتاب السقيفة للجواهري 41 . ( * )