الاستقرار والأمن اللذان تتمتع بهما الدول و المجتمعات يمكن ارجاعهما إلى واحد من السببين التاليين:
فإما أن يكون الاستقرار بسبب استبداد السلطة الحاكمة واستفرادها بصناعة القرار، و قيام أجهزتها الأمنية بممارسة القمع ، وخوف الناس من هذه الأجهزة ، على نحو ما كان سائدا في العراق في ظل نظام صدام حسين الذي بدد مليارات الدولارات من ثروات بلده في بناء المعتقلات وسجون التعذيب و أوكار التجسس و شبكات التآمر و في شن الحروب الداخلية و الخارجية و شراء ولاءات الشخصيات و الأحزاب و الصحف الاجنبية من اجل الحفاظ على كرسيه. وهذا النوع من الاستقرار هو بلا أدنى شك استقرار مؤقت ومهزوز وقابل للانفجار في أية لحظة. حيث لم ينفع مثلا ما أقدم عليه النظام الصدامي المخلوع في ديمومة سلطته البغيضة إلى الأبد، و كانت النتيجة انه لئن استطاع أن يجثم فوق صدور العراقيين طويلا، فانه في النهاية سقط في أيام قليلة و صار في مزبلة التاريخ.
النوع الآخر من الاستقرار هو ذلك المستند إلى أو المتأتى من وجود دولة المؤسسات الدستورية، وسيادة القانون، وحيوية المجتمع المدني وتماسكه. وهذا هو الاستقرار الحقيقي الذي يحقق طموحات الإنسان في حياة هانئة مستقرة و مفعمة بالأمل والازدهار والمستقبل المشرق ، وفي ذات الوقت يضمن للسلطة الحاكمة استمرارية وجودها، واستعداد مكونات المجتمع للدفاع عنها متى ما تعرضت لأي اعتداء خارجي.
و يقترن النوع الأول من الاستقرار ، إن لم يكن من شروطه الأساسية، بالنفاق السياسي. ففي ظل النظام الصدامي ، و من قبله النظام الشاهنشاهي في إيران و النظام الناصري في مصر، كان النفاق السياسي للأفراد و الجماعات في طليعة المؤهلات المفضية إلى نيل رضا النظام وبركاته وتجنب شر أجهزته القمعية و قسوتها. و هكذا كثر المداحون والمطبلون ممن بالغوا في إطراء شخص الزعيم و تنزيله مرتبة الآلهة التي لا تخطيء و تسويغ قراراته و الدفاع عن سياساته، و بما جعله يزداد غرورا و يكرر الأخطاء و الحماقات و القرارات الارتجالية المميتة، الأمر الذي نستخلص منه درسا تاريخيا بليغا لا نتعلمه للأسف مفاده أن وجود المداحين و المنافقين و المطبلين حول صانع القرار هو مقتل لأي نظام، و بما يشبه العلاقة الطردية، أي كلما كثرت و تفرخت هذه الفئة وزاد تأثيرها كلما اقترب النظام المعني من الانهيار و السقوط، و العكس بالعكس.
في المقابل نرى إن نظام الحكم في إسرائيل ، وعلى الرغم من الحروب المتكررة التي تخوضها منذ تأسيس الدولة العبرية في عام 1948م، وبالرغم من اللاتجانس الثقافي والإثني الذي يتميز به المجتمع الإسرائيلي، يزداد استقرارا و قوة ورسوخا. والسبب بطبيعة الحال يكمن في استناد الدولة ونظام الحكم هناك إلى سيادة القانون والمؤسسات الدستورية والصحافة المستقلة وحيوية المجتمع المدني ودوره في توجيه النقد لرموز السلطة الحاكمة وتصحيح الأخطاء أولاً بأول. وقد لاحظ الجميع مدى حدة النقد والنقاش و المناظرات الدائرة في المجتمع الإسرائيلي على مختلف المستويات حتى هذه الساعة حول نتائج الحرب الأخيرة بين تل أبيب و ميليشيات حزب الله اللبناني، و بما يشكل دليلا على صحة هذا المجتمع و حيويته و ترسخ نظامه و استعداده للمراجعة والتصحيح و الاعتراف بالأخطاء، مهما كان رأينا فيه أو عداودتنا له. لكن دعكم من هذا كله و انظروا كيف يتعامل هذا المجتمع مع قضية التحرش الجنسي لرئيس جمهوريته كاتساف و ما قيل عن تهرب رئيس حكومته اولمرت من الضرائب! فهل سمعتم يوما عن شيء من هذا القبيل في مجتمعاتنا العربية الفاضلة المعصومة؟
إن معالم الكارثة و الانهيار يا سادة يا كرام تبدأ أو تلوح في الأفق فقط حينما يلجأ صانع القرار في أي بلد إلى إتباع أسلوب إبعاد الكوادر المثقفة ثقافة عالية من المفكرين و المصلحين الغيورين على مصالح الأمة، لصالح تقريب المداحين المنافقين والاستماع لهم و الأخذ بمشورتهم، تحت حجج مغلفة تارة بغطاء الحرص على الدين وحماية الموروث وتارة أخرى بتخويف النظام من الفئات المعارضة و التحريض ضدها. أن هذه الفئة الأخيرة هي التي تمثل الخطر الحقيقي على الأوطان و الشعوب، وهي مصدر البؤس و التراجع المفضي إلى الشلل و الجمود و الانهيار، وبالتالي فمن الحصافة و الحكمة توخي الحذر منها و إبعادها عن مراكز صناعة القرار وإهمال مجمل توصياتها الغبية كيلا يتكرر ما حدث في أماكن كثيرة حولنا، حينما استنفعت هذه الفئة كثيرا من وجودها بالقرب من السلطان، لكنها كانت أول المنفضين عنه في وقت الشدائد و المحن، بل أول المنافقين لخلفائه و المستجدين من أعدائه.
14/05/2006
__________________
التعديل الأخير تم بواسطة al-baghdady ; 06-01-2009 الساعة 05:40 PM.