بسم الله الرحمن الرحيم اللهم كن لوليك الحجة بن الحسن صلواتك عليه وعلى ابائه في هذه الساعة وفي كل ساعة وليا وحافظا وقائدا وناصرا ودليلا وعينا حتى تسكنه ارضك طوعا وتمتعه فيها طويلا برحمتك ياارحم الراحمين .
النشوء الشيعي في سوريا
لا تتوفر إحصاءات دقيقة لعدد الشيعة في سورية عند قيام دولة سورية الوطنية عام 1919، ولا يبدو واضحاً كيف أصبح الشيعة جزءاً من النسيج الاجتماعي الدمشقي، فللشيعة وجود في دمشق، وهم الأقلية الشيعية المدنية الوحيدة في سورية، وباقي الشيعة ـ على الضآلة الشديدة لعددهم ـ مشتتون في بعض الأرياف، قرب دمشق وحلب. وقد يكون مفيداً للغاية البحث في السجلات العدلية العثمانية المحفوظة في تركيا لمعرفة أعدادهم وأوضاعهم في ظل الدولة العثمانية فيما إذا كانت هناك أساساً وثائق تدل على وجودهم في دمشق أو في المناطق التي تدخل الآن ضمن الحدود السورية.
في "حي الأمين" و"الجورة" (يسمى الآن: حي جعفر الصادق)، وعلى مقربة من الجامع الأموي الكبير في دمشق وداخل المدينة القديمة الأثرية حيث الأزقة المغلقة والحواري الضيقة يقيم شيعة دمشق، في منطقة تفصل بين الأقليتين اليهودية والمسيحية، وهي المنطقة الوحيدة التي يوجد فيها أقليات دينية في دمشق. وفي منطقة المهاجرين في جبل قاسيون في دمشق يقيم الشيعة في حي "زين العابدين" بمنطقة المهاجرين، ويطلق عليهم أهالي دمشق وصف "المتاولة"، أو "الأرفاض"، وهي أوصاف تدل على نبذ المجتمع الدمشقي لهم.
ويشير بعض الباحثين إلى أن في جوار دمشق، وتحديداً في الغوطة قرية "عين ترما" وقرية "راوية" (في"الدقانية"، وفيها مقام السيدة زينب الصغرى)، دخلها التشيع في القرن الثامن للهجرة.
في ريف حلب قرية "نُبُّل" الصغيرة يقطن بعض الشيعة، ولطالما كانت هذه القرية موضع حساسية المجتمع المديني الحلبي، وهو مجتمع معروف بتعصبه الاجتماعي فضلاً عن الديني، وفي إدلب كان يقطن بعض الشيعة قرية "الفوعة"، وفي حمص في "حي البياضة"، وفي قريتي (الحميدية، وأم العمد) يرجع الوجود الشيعي فيهما إلى القرن الرابع الهجري على أقل تقدير
وحسب الإحصاءات الرسمية فإن نسبة الشيعة إلى عدد السكان في سورية كانت في عام 1953 تمثل 0.4 % من سكان سورية، وهذا يؤكد أن الطائفة الشيعية كانت صغيرة للغاية. وقد طغى على المجتمع الشيعي حالة من الانغلاق الشديد، حتى أنه لم يكن قادراً على الإسهام الجيد في المجال العام؛ لا ثقافياً ولا اجتماعياً ولا سياسياً حتى الستينيات حتى و فد عليه الشيخ "محسن الأمين الحسيني" من جبل عامل في لبنان، ليواجه هذا الانغلاق وما صحبه من تصورات دينية سقيمة، ويبث فيهم روح الحياة.
انشغل الشيخ الأمين بتصحيح "الانحرافات" التي أصابت الفكر الشيعي الاثنا عشري في دمشق، وأسس لهذا الغرض "المدرسة العلوية" لإحياء التعاليم الدينية الشيعية "الصحيحة" ومواجهة "الانحرافات" الأخلاقية التي يجلبها العصر، وهي أول مدرسة شيعية في سورية للتعليم الديني، ما تزال المدرسة قائمة إلى اليوم، وهي معروفة باسم (المدرسة المحسنية).
توفي الشيخ محسن الأمين عام 1952، ودفن في "الحضرة الزينبية" مخلفاً وراءه طائفة بدأت تدب فيها الحياة، متحفزة للمشاركة في المجال العام بعد أن كانت مغلقة على نفسها، يعلوها غبار مئات السنين من التاريخ المطوي؛ لهذا السبب يحظى السيد محسن الأمين لدى الشيعة السوريين باحترام كبير، فهم مدينون له بإحياء الطائفة، وتكريماً له يطلق على أحد الأحياء التاريخية التي يقطنها الشيعة اسم "حي الأمين".
في الستينيات شارك الشيعة في الحكومة في الفترة (شباط/فبراير 1966- تشرين الثاني/نوفمبر 1970) عبر حقيبة وزارية واحدة، وعلى أية حال لم يُسجّل للشيعة قبل هذا التاريخ أي مشاركة سياسية، في وقت كان الدروز والمسيحيون والعلويون يسهمون بقوة في الحكومات وانقلابات الجيش، وبرز منهم ضباط كبار لعبوا درواً مهماً في تاريخ سورية في مرحلة ما بعد الاستقلال
حتى ذلك الوقت لم تكن هناك تغيرات ديمغرافية ملحوظة للوجود الشيعي في سورية، وباستثناء بعض حالات التحول (الاستبصار) الفردية في حلب وإدلب وربما في ريف درعا وغيرها، فإنه لا يوجد تقدم شيعي بالمعنى المنظم ولا بالمعنى السياسي، كانت المسألة في ذلك الوقت مجرد قناعات نادرة دينية ومذهبية صرفة
وصول علماء الشيعة الى سوريا :
في مطلع السبيعينيات لجأ إلى سورية عدد من رجال الدين الشيعة هرباً من بطش النظام العراقي إلى دمشق كان من بينهم الشيخ "حسن مهدي الحسيني الشيرازي"، الذي عانى في السجون العراقية إلى أن تمكن من الخروج إلى سورية بعد لأيٍ. أقام الشيرازي في قرية سنية بجوار مقام كان لا يزال غير معروف بشكل واسع في ذلك الوقت، هو مقام السيدة زينب بنت علي بن أبي طالب، الذي أصبح فيما بعد أشهر مقامات الشيعة وربما أهمها بعد النجف وكربلاء، وأسس حسن مهدي الشيرازي عام 1976 حوزة علمية للتعليم الديني، عُرفت بـ"الحوزة الزينبية"، وهي أول حوزة للتعليم الديني (العالي) للشيعة في سورية.
تعتبر الحوزة الزينبية الآن أهم الحوزات العلمية في سورية وأكثرها نشاطاً وتأثيراً، وطلابها من لبنان، وشيعة السعودية والخليج، والأردن، والعراق، وسورية، وباكستان، وأفريقيا، وأفغانستان، وكان الشيرازي المناضل الأصولي والمبشر يرى أن "سورية هي بوابة إلى العالم العربي وإلى العالم بأسره؛ فهي كانت ولا زالت جسراً بين العالمين الإسلامي والعربي". فاستثمر الشيرازي هذا الموقع الاستراتيجي بإنشاء الحوزة العلمية في السيدة زينب، واليوم يرى الشيعة أن "يوم افتتاح الحوزة [كان] فتحاً للشيعة ولعلمائهم؛ حيث استطاعوا أن ينفتحوا على العالم فعبر هذه الحوزة أنشئت حوزات في السعودية وأفريقيا ولبنان، حيث استطاعت أن توجد تياراً من العلماء يقومون بأعمال التثقيف والتعليم [الديني الشيعي] في مختلف المدن السورية".
تشييع الطائفة العلوية
بقي العلويون في عزلة وعقائدهم توغل في كنف الأسرار والأساطير، ولم تدب اليقظة في الطائفة إلا مع مطلع القرن الهجري الثالث عشر (نهاية القرن التاسع عشر الميلادي) وعند بدايات ظهور الدولة الوطنية، إلا أن جذور اليقظة قد تعود إلى سنة (1271ﻫ/1854م) عندما وقّع خمسة عشر من زعماء العشائر العلوية اتفاق "إلغاء العشائرية" بعد أن بقيت عهداً طويلاً في صراع وتنافس مريرأن أي جماعة دينية عندما تريد الانخراط في العالم الجديد والخروج من عزلتها وفي الوقت نفسه تود أن تحافظ على هويتها فإنها تولِّد حركات إصلاح ديني، هي في جوهرها حركة لمواجهة تحديات العصر والبحث عن أسباب البقاء والاستمرار.
عودة الفرع إلى أصله
هذا ما حصل ربما في الطائفة العلوية مع بدء ظهور مصلحين دينيين في نهاية القرن التاسع عشر، وبافتتاح أول مسجد في جبل العلويين "في (بيت الشيخ يونس – صافيتا)؛ الذي شرع في ابتنائه كل من ... الشيخ غانم ياسين والشيخ عبد الحميد أفندي – الذي نُسب إليه آنئذ أعمال سياسية فنفي إلى طرابزون وتزوج منها وعاد مكرماً -، ثم أتم الجامع المذكور ... المرحوم الشيخ ياسين يونس والشيخ سليم الغانم سنة 1286هـ [1869م]. وقد قام المرحوم الشيخ ياسين – الآنف الذكر – بإمامة الجامع طيلة حياته وخلفه ولده الولي العلاّمة الشيخ محمد ياسين"، وذلك في وقت كان العلويون يمتنعون عن إعمار المساجد في جبالهم.
أخذت يقظة العلويين بالنُّمو حتى قام الشيخ "علي عباس" و"افتتح في أواخر الحرب الكونية [الأولى] مدرسة في قرية العنازة بانياس جمعت أكثر من مائة وعشرين طالباً وستة معلمين كلهم علويون" درس فيها أصول الدين واللغة. بدأت في هذه الفترة – على ما يبدو – تصعد أفكار الإصلاح الديني باتجاه الفكر الشيعي الإمامي، ففي فتوى لأحد زعماء الطائفة النصيرية الكبار (وهو من المنخرطين في الإصلاح الديني) "الشيخ سليمان الأحمد" في مسألة جواز الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها في ذمة رجل واحد، ويلاحظ في الفتوى – التي صدرت في أوائل العشرينيات المنصرمة – ثلاثة أمور غاية في الأهمية: أولها التأكيد على أن المذهب الإمامي الجعفري "هو الأصل"، والطائفة العلوية النصيرية "فرع منه" وعليه فإن رجوع الطائفة إليه "في أصول الفقه وفروعه هو الواجب الحق الذي لا مندوحة عنه".
وفي عام 1938 وقَّع أحد عشر من رجال الدين العلويين وشخصياتهم البارزة جواباً على سؤال عن عقيدة العلويين، جاء فيه ـ على لسانهم ـ أن "مذهبنا في الإسلام هو مذهب الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)" ، وهذه الوثيقة التاريخية تمثل ثاني بيان جماعي يُعلن فيه زعماء دينيون علويون انتساب الطائفة العلوية النصيرية إلى الشيعة الجعفرية، وهو بمنزلة إيذان بانتشار الدعوة الشيعية وتحولها إلى ظاهرة في الطائفة.
انتشار دعوة الأصل الشيعي والعودة للأصل في أوساط العلويين بلغت حداً دفع بالشيخ عبد الرحمن الخيِّر ـ الذي نشط في بناء المساجد والحسينيات ـ إلى تأسيس "الجمعية الخيرية الإسلاميّة الجعفرية" في اللاذقية سنة 1950، والتي ستكون قاعدة فيما بعد للنشاط الشيعي الجديد في الطائفة في عهد حافظ الأسد وما بعده.
وخلال عام 1952 وبعد مناقشات طويلة ومراجعات لشيوخ من الطائفة مع المفتي العام استمرت 20 يوماً في دمشق استصدر العلويون مرسوماً تشريعياً رقم 3 في 15 حزيران/يونيو، ينص على تأليف "لجنة خاصة بالجعفريين من علمائهم في مركز محافظة اللاذقية قوامها ثلاثة أشخاص من العلماء الجعفريين ويضاف إليهم شخص واحد من كل قضاء عندما يتعلق البحث في قضائه" وقراراً من مفتي الجمهورية السورية (رقم 8) في 27 أيلول/سبتمبر 1952، وتألفت اللجنة بموجب هذا المرسوم من علماء الطائفة العلوية، وقامت بفحص من تقدم إليها من شيوخ جعفريين، وأجازت بعضهم وسمحت لهم بارتداء الكسوة الدينية المنصوص عليها في المرسوم التشريعي.
بدأ المصلحون الدينيون العلويون المنشدّون بقوة لفكرة الأصل الشيعي ينسجون علاقاتهم مع المراجع الدينية الشيعية، وقد جذبت هذه العلاقات المراجع الشيعية في العراق وإيران لاستكشاف الحركة الدينية الجديدة في جبل العلويين النصيريين، وقد يكون أوائل رجال الدين الذين زاروا الجبل واطلعوا على أحوال الطائفة الشيخ محمد جواد مغنية سنة 1961 (رجل الدين الشيعي اللبناني المعروف)، والذي تحدَّث لمرجعه "آية الله السيد محسن الحكيم" ـ بعد زيارته ـ عما شاهد ولمس من "المصلحين"، و"عن المصلِّين والمؤمنين حقاً بكل ما في معنى الإيمان [الشيعي] الصحيح"( .
في الفترة بين 3-7 شعبان 1392/نوفمبر 1972 زار رجل الدين الشيعي حسن الشيرازي ـ المبشر الأصولي الذي سيكون له فيما بعد دور تاريخي في التشيُّع العلوي ـ لأول مرة جبل العلويين، "على رأس وفد من العلماء بأمر من سماحة الإمام المجدد المرجع الديني ... السيد محمد الشيرازي (قده)" ، وذلك لـ"إجلاء الهوية الدينية للعلويين، مساهمة منه في إزاحة الضباب التاريخي الذي يلفُّهم"، الذي كان "منذ توليه مقام المرجعية يفكر في قضية العلويين، باعتبارهم جزءاً من العالم الشيعي الذي يشعر بمسؤولية عنه.
التقى الشيرازي بعدد من شيوخهم، وفي 24 شعبان 1392ﻫ اجتمع عدد كبير من شيوخ العلويين (74 سوريون، و6 لبنانيون) بدعوة من الشيرازي وقرروا إصدار بيان ينسب العلويين للشيعة الجعفرية الاثنى عشرية، ويؤكد على أن "التسمية: (الشيعي والعلوي) تشير إلى مدلول واحد، وإلى فئة واحدة هي الفئة الجعفرية الإمامية الاثنا عشرية". طبع البيان في طرابلس لبنان بعد ثلاثة أشهر من هذا الاجتماع، في (ذي القعدة 1392ﻫ/ الموافق لـ كانون الثاني/ديسمبر من عام 1972م)، وقدم له الشيرازي بفتوى تتضمن أيضاً التصريح بأن العلويين شيعة.
بعد خمسة وثلاثين عاماً من آخر بيان أصدره زعماء دين علويون يوضحون انتمائهم فقهياً وعقدياً للشيعة الجعفرية، يأتي هذا البيان ـ شأن عريضة 27 آب 1936 للخارجية الفرنسية.
التشيُّع العلوي النصيري
نشط حسن الشيرازي ـ منذ ذلك الحين وحتى تاريخ مقتله سنة 1981 ـ في الجبل العلوي بشكل لم يسبق له مثيل من نشاط الملالي الشيعة (الإيرانيين أو العراقيين) على الأراضي السورية، فإضافة إلى الدروس والمحاضرات التي كان يحرص على إلقائها ولا يدع مناسبة دينية واجتماعية للطائفة إلا ويشارك فيها فقد قام - وبمساعدة بعض شيوخ الطائفة المتحمسين لعودة الأصل النصيري إلى شيعيته (من أمثال الشيخ "فضل غزال") - ببناء بعض المساجد والحسينيات في اللاذقية ومنطقة الساحل السوري.
وبلغ احتفاء الشيرازي وتحمُّسه لتشييع الطائفة العلوية حداً جعله يؤسس حوزة علمية في مسجد "الإمام جعفر الصادق" الذي يقع في مقرّ "الجمعية الجعفرية" (التي كان قد أسسها الشيخ عبد الرحمن الخيِّر سنة 1950) في مدينة اللاذقية، باسم "حوزة الإمام الصادق"، وذلك بعد تأسيسه للحوزة الزينبية، لتكون قاعدة تبشيرية في الساحل السوري، على أساس أن خريجي هذه الحوزة الجديدة ينتقلون إلى الحوزة الزينبية لإكمال دراستهم، استمرت هذه الحوزة بضعة سنوات، ودرس فيها مجموعة من خطباء المساجد، لكن الشيرازي عدل عن الفكرة ويبدو أنها لم تكن مجدية كما كان يأمل فالعلويون لم يهبوا أفواجاً إلى مذهب الإمام جعفر الصادق عليه السلام .
يحظى الشيرازي باحترام خاص لدى التيار الشيعي في الطائفة العلوية؛ فهم يرون أنه لعب دوراً مهماً في تبيض صورة العلويين لدى الشيعة وعموم المسلمين، وساعد الطائفة على إخراجها من عزلتها، فقد عمل الشيخ ميدانياً مع أبناء الطائفة ولم يكتف بالتصريحات والبيانات.