هذا مقطع من اجابة الاستاذ محمد ابراهيم زيدان عن سؤال احدهم حول تحريف القرآن لدى الشيعة الامامية ... و هو مأخوذ من موقع اسلام اون لاين .....
السؤال :السلفيون وهم تيَّارٌ ضخمٌ له حضورٌ كبير- يتبنون تكفير الشيعة، ومن أهم مرتكزاتهم في ذلك هو القول بأنّ الشيعة لا يؤمنون بالقرآن الذي عند أهل السنة، وأنا أتساءل.. الشيعة غير مضطرين للتقية، فلماذا الافتراض بأنّ إقرارهم بالقرآن هو تقية؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
شكر الله لكم حسن تأتيكم للسؤال؛ وكذلك حماسكم ودعوتكم الكريمة لنبذ الخلافات وللتوحُّد تحت راية "لا إله إلا الله محمد رسول الله"؛ وللتأكيد على الأرضيات المشتركة التي تجمع بين المسلمين في كافة أرجاء المعمورة.
ومما لا شك فيه أنك تطرح موضوعًا خطيرًا إذ يختصّ بالأصل الأول في بناء الإسلام عند المسلمين -الشيعة منهم والسنة على السواء- وأقصد به القرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ والذي تكفل الله وحده برعايته وحفظه وصيانته.. وقدسية القرآن وحرمته وتنزهه عن التحريف بالزيادة أو النقص محل اتفاقٍ وإجماعٍ بين عامة المسلمين سنة وشيعة؛ وهنا تبدو مناقشة اتهام الشيعة الإمامية بتحريف القرآن أمرًا له أهمِّيَّته وخطورته أيضًا.
ونقطة البدء التي ينبغي التركيز عليها هي: أنه لا يشكُّ مسلم في أنّ الشيعة الإمامية مسلمون؛ ومن أهل القبلة بكل مقاييس الإسلام الموجودة عند أهل السنة.. وهذا لا يعدُّ نسيانًا ولا تغافلاً عن حقيقة الخلافات بين الفريقين
** أولاً؛ محاكمة المذاهب برأي الجمهور لا بالآراء الشاذة:
حين نتحدّث عن اتهام أهل السنة للشيعة بالقول بالتحريف فمن الإنصاف المبني على الأدلة العلمية القول بأن فكرة تحريف القرآن -على الأقل بالنقص- قال بها بعضٌ من علماء الإمامية في نصوصٍ صريحةٍ لا تقبل ردًا ولا تأويلا.
غير أنّ المنهج العلمي يقتضينا توضيح أنّ الأقوال التي يمكن أن تسجّل في تراث الشيعة ويفهم منها اعتقاد التحريف لا تكاد تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة في القديم والحديث على السواء.
ونتساءل من منهجٍ علميٍّ متجرِّد: هل يشكِّل رأيٌ شاذ أو فكرةٌ ينحصر قائلوها في عددٍ محدودٍ اتجاهًا عامًا يحاكم به المذهب وجمهوره وعلماؤه؟
وهل من الحقّ في شيء أن نأخذ موقفًا عامًا من مذهبٍ ما بناءً على رأيٍ شاذٍ قيل فيه؟
إذن فأين ما تصادقنا عليه في أحكامنا حين نقول: هذا رأيٌ شاذ أو رأيٌ ضعيفٌ لا يؤخذ به، وحين نقول أيضًا: هذا هو رأي الجمهور وهو المعول عليه؟
إذن، المنهج العلمي يقضي بأن نحاكم المذاهب برأي الجمهور أو بالرأي المتفق عليه فيها، لا بالرأي الشاذ أو القول الضعيف.. وفي ظل هذه القواعد العلمية المأخوذ بها في تراثنا السني يصبح من غير المنطقي ومن غير المعقول أيضًا إطلاق القول بأن تحريف القرآن يشكل اتجاها عاما في فكر الشيعة الإمامية، وأن لهم مصحفا يغاير المصحف الذي بأيدينا؛ وكان يمكن أن يكون لهذا الرأي الشاذ في تراث الشيعة بعض القيمة لو أنّ علماءهم صمتوا عنه ولم يردّوه ويحكموا عليه بالشذوذ والانحراف، أما أن تراثهم في القديم والحديث يفيض بأحكامٍ قاطعةٍ تردُّ هذا القول وتبطله، فإن هذا الرأي يجب أن يظل في حدود الشذوذ فقط.
وهنا نجد محاولات علمية متعددة تدلنا على أنّ علماء الشيعة لم يرتضوا القول بالتحريف مثل أن يقولوا أن هذه إسرائيليات دسّت على رواياتهم، أو أنها مرويات ضعيفة السند.
ولتقرأ معي ما كتبه الإمام السيد أبو القاسم الخوئي، والعلامة السيد محمد حسين الطباطبائي في عرضهما لروايات التحريف عند جماعة منهم، وتقسيمها إلى أربعة أقسام:
الأول: روايات دلت على التحريف بعنوانه: كرواية الشيخ الصدوق بإسناده عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (يجيء يوم القيامة ثلاثة يشكون: المصحف، والمسجد، والعترة، يقول المصحف: يا رب حرّفوني ومزقوني، ويقول المسجد: يا رب عطلوني وضيعوني، وتقول العترة: يا رب قتلونا وطردونا وشردونا).
الثاني: روايات دلَّت على أنّ بعض الآيات المنزلة من القرآن قد ذكرت فيها أسماء الأئمة عليهم السلام، كرواية العياشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السلام قال: (أما لو قد قُرء القرآن كما أنزل لألفيتنا فيه مسمّين).
الثالث: الروايات التي دلت على تغيير بعض الكلمات، ووضع كلمات أخرى مكانها، مثل ما رواه علي بن إبراهيم القمي في قوله تعالى: (صراط من أنعمت غير المغضوب عليهم وغير الضالين).
الرابع: الروايات التي دلت على التحريف بالنقيصة فقط.
وبعد ذلك شرع العالمان الجليلان في بيان المفهوم الحقيقي لهذه الروايات كالآتي:
أولا: أن هذا النوع على شذوذه وندرته غير مأمون فيه الوضع والدس، فإن انسراب الإسرائيليات وما يلحق بها من الموضوعات والمدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره، ولا حجية في خبرٍ لا يؤمن فيه الدس والوضع.
ثانيا: أكثرها ضعيفة الإسناد، فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها، فهي مراسيل أو مقطوعة الإسناد، أو ضعيفة.
ثالثا: منها ما هو قاصرٌ في دلالته، فإن كثيرًا مما وقع فيها من الآيات المحكية من قبيل التفسير وذكر معنى الآيات، لا من حكاية متن الآية المحرّفة، كما في قوله تعالى: (يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليك من ربك) "في علي".
وإذا لم يتم هذا الحمل –أي حملها على أنه من التفسير- فلا بد من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب والسنة، وقد دلت الأخبار المتواترة على وجوب عرض الروايات على الكتاب والسنة، وأنّ ما خالف الكتاب منها يجب طرحه وضربه على الجدار.
وهناك كثيرٌ من النصوص لأعلام الشيعة تدل على ذلك مثل: الشيخ الصدوق، وللشيخ المفيد، وللشريف المرتضى، وللشيخ الطوسي، وللعلامة الطباطبائي، وللعلامة محمد الحسين آل كاشف الغطاء، وللسيد إبراهيم الموسوي الزنجاني، وللشيخ محمد رضا المظفر، وللشيخ الطبرسي، وللحجة محمد جواد البلاغي.
** ثانيا؛ قيمة هذا القول عند علماء أهل السنة:
أول ما نسجله في هذا الموضوع -ومن خلال إحصائيات سريعة لقدامى أعلامنا ومؤلفاتهم- أنّ الذين حملوا لواء اتهام الشيعة بالتحريف لا يتجاوزون أيضًا عدد أصابع اليد الواحدة؛ ولا نجد صدى لهذا الاتهام، لا عند الأشعري في "مقالاته"، ولا عبد القاهر البغدادي في "أصول الدين"، ولا "الفرق بين الفرق"، ولا عند ابن حزم في "الفصل في الملل والنحل"، ولا الشهرستاني في "الملل والنحل".. وهؤلاء هم قمة من أرَّخوا للفِرق الإسلامية وغيرها.
وإذا ما اتجهنا إلى علماء الكلام لا نجد كذلك صدى لهذه القضية في كتاباتهم الكلامية وهم يعرضون لأوجه إعجاز القرآن وحفظه ورعايته من الله تعالى.. فيخلو من صدى هذه القضية كتاب "المواقف" لعضد الدين الإيجي، و"الإرشاد" لإمام الحرمين الجويني، و"شرح المقاصد" لسعد الدين التفتازاني، و"التمهيد" للباقلاني، و"أصول الدين" للبزدوي.
ونفس الموقف أيضًا نجده عند علمائنا في مجال التفسير؛ ففي تفاسير: محمد بن جرير الطبري، وجمال الدين الجوزي، والقطبي، وأبو البركات عبد لله بن أحمد النسفي، وابن كثير، وأبو حيان الأندلسي، وجلال الدين السيوطي، وأبو السعود، والشوكاني، وكل هؤلاء لم أجد عندهم كلمةً واحدةً حول هذه القضية، لا من قريبٍ ولا من بعيد.. اللهم إلاّ بعض تلميحات أوردها الفخر الرازي في تفسيره الكبير في هذا الموضوع لا تثبت الاتهام، بقدر ما توضح طريقة الفخر الرازي في رد احتجاج القاضي عبد الجبار على إنكار ما ذهب إليه بعض الإمامية من دخول التحريف في القرآن الكريم، وتبعه في ذلك الآلوسي في "روح المعاني".
فاختفاء هذه القضية برمتها من على صفحات كتب التفسير السني والمذاهب الكلامية السنية لهو أقوى دليل على أن هذه القضية لم تكن تستحق المناقشة ولا البحث، وإلا فبماذا نفسر صمت هؤلاء الأئمة الأعلام في تراثنا عن قضيةٍ خطيرةٍ كهذه، تقول: إن في القرآن نقصًا وتبديلا؟
وهنا نصل إلى نقطة التقاءٍ تدفعنا دفعًا إلى أن ننادي بإزاحة هذه القضية من على مسرح الاختلاف بين الشيعة والسنة.. فإذا كانت المسألة تصير إلى أنّ قضية تحريف القرآن شذوذ عند الفريقين، وأن جمهور الفريقين قد ردّها ورفضها، فمن العبث أن تقف قضيَّةٌ بهذه الصورة حجر عثرةٍ في سبيل التقارب بين شطري الأمة الإسلاميّة، وأن يتخذ منها مصدرًا لبثِّ الفرقة والاختلاف وتوجيه التهم.
أخي الكريم؛
لعلي قد أرحتك من بعض ما يحيّرك بإجابتي البسيطة هذه، وإن كان الموضوع يحتاج لبحث مطول.
وفقكم الله لكل خير؛ ونسعد بتواصلك معنا دائما