هكذا يمضي عمر الإنسان بسرعة عجيبة وغريبة لا يشعر بها إلا بعد فوات الأوان، بعد أن يصل إلى مرحلة ما من مراحل النهاية، مرحلة الهبوط والإنحدار. نعم هكذا تمضي الحياة بحلوها ومرها، بساعدتها وتعاساتها، بإحباطاتها وإرهاقها اعتباطا حتى وإن اعتقد الإنسان أن الزمن بوقته الفردي أو حتى الجماعي يمر ببطأ شديد، فذاك لعمري غدر واحد من غدر الزمن…..تكمن المشكلة هنا في غدر الزمن ومعه غدر الإنسان بالإنسان.
الغدر يا سادة أنواع وأشكال ومستويات ومراحل يطلق سهامه الإنسان ضد الإنسان لغايات مختلفة تختلف من إنسان لآخر، لا بل ومن مجتمع لآخر، ويغدو بذلك الفعل الغدر غدرا واحدا من غدر الزمن.
البعض يغدر من أجل الغدر، هكذا جبلت نفسيته وشخصيته على الغدر خصوصا إن كان الإنسان الغدار ذاك إنسان حقود. والبعض الآخر يغدر من أجل مصلحة معينة خصوصا المصالح الشخصية التي تختلف من شخص لآخر جلها بات ينطلق من المصالح المادية البحتة التي فيها ما فيها من فنون الجشع ونهم الطمع وجحيم الخداع والتمثيل.
وما أخطر الإنسان الممثل في الغدر السريع لأنه (أو لأنها) يبرع في فنون التمثيل والحقد الدفين الذي يضج بمشاعر الطمع والجشع والخداع والزيف والتزيف، نعم ما اخطره فوجوده في حياة انسان يشبه حال إنسان يحمل في حضنه أفعى سامة ستقتلة بسمومها لا محالة قصر وقته أم طال، فالمسألة هنا مسألة وقت ليس إلا.
مع هذا ورغما عنه، في خضم الحياة ومشاكلها ومصاعبها وتحدياتها ومخاطرها يعيش الإنسان في واقعين إما واقع مفروض عليه بحكم الأحداث والبيئة، أو في أتون واقع صنعه بنفسه، بعمله، بسلوكه، بعقليته، وغدا تبعا لذلك فرضا واحدا من فروض الحياة، وبالتالي من فروض الزمن. هنا لا مجال للخيار أو الإختيار، ويبقى في واقعه حتى يحين موعده مع أمر الله.
قد يخطيء الإنسان في أفعاله وأعماله وقد يصيب، قد ينجح في حياته وقد يفشل، وفي أي من تلك الحالات تغدو نتائجها وما يتمخض عنها من تداعيات وتبعات جزءا واحد من أجزاء حياته التي يعيشها ويستمر فيها حامل مشاعرها وآلامها ونكساتها ونبكياتها إلى أن يصل به قطار الحياة، او قطار الزمن، إلى محطته النهائية.
الحديث عن هذا الواقع يقودنا إلى الحديث عن واقع العلاقات الشخصية والجماعية التي يخوضها الإنسان في تجاربه وفي رحلة حياته وإلى نهايتها. صحيح أنه قد ينجح فيها وقد يفشل، وقد يوفق في تجاربها وقد لا يوفق، بيد أن ميزان الحكم والتقدير لا يمكن أن يكون دوما في جانبه السلبي المظلم، فهناك ما هناك من بوارق أمل وإيجابيات محددة ولربما مقننة تظهر من وقت لآخر ومضات نور في حياته لا لشيء وإنما لتساعده على البقاء والإستمرار حتى النهاية. تلك الومضات السريعة المحدودة وإن كانت قصيرة إلا أنها قد تكون أجمل أيام حياته يعيش على ذكراها ما تبقى له من رحلته مع قطار الزمن.
بيد أن مشاعر الفراق المر والبعاد القاتل تمثل الجانب الأكبر من حياة الإنسان بعد أن يجبر على الدخول ولربما التعمق في واقع أو مسلك أو فعل لا خيار له غيره ولا بديل له. هنا تحديدا لا مجال للتراجع او حتى التقاعس، فأمر الله وقضاءه نافذ، نافذ لا يمكن حجبه أو منعه أو حتى التغاضي عنه.
نعم ما أقسى الحياة عندما تلوح وتدير بوجهها عن الإنسان، وعندما تتنكر له وتدير له ظهرها وتمعن في أيلامه وإتعاسه حتى يصل إلى مرحلة يتمنى فيها أن يسرع قطار الحياة لينزل عنه سعيدا مبتهجا غير نادم على ذلك الرحيل. نعم قد يشعر الإنسان بذلك الشعور بعد أن يفقد الأمل أو بعد أن يصل إلى مرحلة ما من مراحل اليأس والقنوط والتعاسة فتغدو حياته قشور في قشور منزوعة من ترياق الحياة ومتطلباتها الأساسية….يتبوءها فقدانه لحبه الحقيقي وبعاده عنه بعد أن عانى الأمرين من غدر الزمن وغدر الحبيب.