نحاول ان نبين بعض من خلال بحثنا هذا دراسة منهجية وحيادية لا بد من الاعتراف بحدود إمكانياتنا الذاتية ونظرتنا إلى الواقع دون أن ندعي الإحاطة والشمول أو القطيعة مع هذا الواقع , وإنما هي محاولة تكميلية تمت من خلال القراءة والمعايشة والملاحظة في رصد الظواهر الإسلامية الجديدة والقديمة في المكان والزمان ,وأبدأ على بركة الله وطاعته أولا بالسلفية كظاهرة لها حيز من الجدل في الشارع العربي والإسلامي والعالمي .
تعريفان مهمان
-1 السلفية الإسلامية : تيار فكري تقليدي يستند على الماضي ويستعين به لبناء الحاضر والمستقبل . والسلفية ليست فلسفة ً ولا مذهبا ً دينيا ً, وإنما جماعة تفهم القرآن من خلال السنّة وأقوال الصحابة , ولا تأخذ بالنظرة العقلية لقراءة النص القرآني , وتشكل التيار السلفي تاريخيا من مدرسة الحديث , وكان احمد بن حنبل من أوائل الرواد لهذا التيار لشدة تمسكه بالكتاب والسّنة من دون الرجوع والأخذ بالرأي والإجماع , وكذلك من المنظرين والمنسقين لهذا التيار ابن تيمية , وكانت الدعوة الوهابية التعبير الحقيقي لحركة الفكر الوهابي في عصرنا الحاضر , والدين عند هذا التيار هو الإخلاص للسلف , وكل بدعة ظلاله .
2- التطرف : في اللغة هو الإتيان بطرف الشيء أي مجاوزته حد الاعتدال و عدم التوسط .
والتطرف في حقيقته هو الجمود العقائدي والانغلاق الفكري . أي بمعني إن المتطرف لا يفهم ولا يقبل أي فكر أو معتقد يختلف عن معتقده , وان معتقده صالحا لكل زمان ومكان , ولا مجال للبحث والمراجعة فيه , وان كل قوانين الكون مستمدة من معتقده , والمتطرف مستعد ٌ لمواجهة من يخالفه بالعنف والتكفير والتقتيل . لذلك ترى خطاب هذه العقلية المتطرفة يتسم بالتغطية النفعية من خلال التأويل الديني , والهدف من ذلك إيقاع المطابقة بين مصالحه السياسية وما يراه على انه من صحيح الدين , فيكون كل ما يدعم مصالحه داخلا في دائرة الهدي وما عداه ظلال وبدعة ., وكل بدعة ظلاله وكل ظلاله في النار.
هل السلفية والتطرف في سلة واحدة ؟
من هذا السؤال الاستفهامي سيكون لنا إطلالة أولية على أسلوب واضطراب المنهج ألتفكيري عند الجماعات السلفية والمتطرفة , والتي لا تعرف سوى الانتقال من النقيض إلى النقيض ومن الأقصى إلى الأقصى . و كما هو معلوم إن السلفية ستكون من التيارات التي تتجه نحو الصعود والتأهيل للحكم في كثير من البلاد العربية والإسلامية , وذلك لسببين وجيهين :
أولهما حالة التخلف في مجتمعاتنا بكل أشكاله ومسمياته
وثانيهما الأنظمة الاستبدادية الحاكمة والتبعية الاقتصادية
لذلك يعتبر التيار السلفي إن النكبات التي حلت بالمسلمين تاريخيا, كانت بسبب الحروب والهجمات الصليبية والمغولية والفارسية , وكان كل ذلك نتيجة لعدم التزامهم بمبادئ عقيدتهم وابتعادهم عن منابعها الأصيلة . لذلك تحرك ابن تيمية وكرس جل نشاطه وعمله الفكري لإحياء ما كان عليه السلف الصالح , فأعطى حيوية وحركة في تنسيق أفكار ومنهج السلفيين , وقال بأن السلفيين لا يؤمنون بالعقل لأنه يضل , ويعتقدون بأن القران الكريم لا يُـفسر إلا بلحاظ الوحي الإلهي الذي انزل على النبي الأكرم , وأي اعتقاد خارج هذا النطاق قالوا عنه مستحدث في الإسلام ولا يمكن الركون إليه, واستنادا ً لذلك هاجموا المنهج العقلي في شرح العقيدة
وقالوا أيضا : لو كان هذا المنهج ضروريا ً لمارسه الرعيل الأول من السلف الصالح ,وان كل الحلول التي وضعها المسلمون الأوائل في الدين والدنيا جديرة بالثقة المطلقة ولا يرقى إليها الشك والتجريح , وأي مخالف لهذا الرأي هو بدعة وظلاله , وبذلك يكون لا سلطان للعقل في تأويل وتفسير القران الكريم إلا بمقدار ما يؤدي إليه ظاهر الآيات وما تضافرت عليه الإخبار, وليس عند السلفيين للعقل من سلطان إلا التصديق والإذعان . هذه هي عقيدة السلفية في خطوطها العامة منذ نشأتها ومرورا بالعهدين الأموي والعباسي وتنسيقها وتبويبها علي يد ابن تيمية إلى أن جاء محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر وجعلها في موضع التطبيق العملي في الجزيرة العربية , ومن ثم جاء السلفيون الجدد في القرنين الأخيرين ليعطوها حيوية جديدة نتيجة الاحباطات التي أصابت المسلمين في جميع الميادين .
اضطراب المنهج ألتفكيري السلفي.. هل هو حقيقة أم وهم ؟
فمن ابرز نقاط هذا الاضطراب الفكري وكمرحلة اولى النظرة الأحادية للنص القرآني , فهم لا يقبلون الاختلاف , والعالم في عقيدتهم قسمان لا ثالث لهما مسلمون أو كفار وواجب المسلمين هو الجهاد في سبيل الله ومحاربتهم حتى ينصاعوا لكلمة الله بقبول الإسلام و كذلك الاستسلام والخضوع للمسلمين.
وحتى لا نبخس حقهم فليسمحوا لنا هؤلاء الإخوة السلفيون أن نناقش وبهدوء مفردة من مفردات الإسلام المهمة وهي كلمة الجهاد , كمثال علي اضطراب المنهج ألتفكيري عندهم..
فهل يعني الجهاد غير القتال ؟..
أم كل قتال هو جهاد فقط ؟..
أم هناك قتال من عمل الشيطان ؟..
وما هي شروط هذا الجهاد ؟ ..
.
وهل الجهاد أداة بيد كل جماعة أو حزب أو فرد ؟ ....
أم الجهاد يجب أن تمارسه الدولة فقط باعتبارها جاءت برضا الناس وقبولهم ؟ .
هذا ما سنناقشه في الحلقة الثانية والله ولي التوفيق .
****
الحقلة الثانية من البحث
نكمل ما طرحناه في الحلقة الأولى من أسئلة حول مفردة الجهاد والتي تنوعت دلائلها مع الكيفية التي يـُراد بها التكتم على ميراث السلف, والتستر على مابين ثنايا هذا الميراث , من دون نقد أو مراجعة أو تقويم , بحجة إن نقد تجارب السلف هو التحرش بطقوس الناس , وهذه جناية لا تغتفر, و حتى لا يستطيع المرء أو المتتبع أن يكشف طبيعة الاضطراب في منهجية التفكير عند إخواننا السلفيين .
فكيف تحول عندهم مبدأ الجهاد من رفع ٍ للظلم والاضطهاد عن الناس , إلى آلة عمياء لقتل المخالفين بحجة الكفر والكافرين , وهل يا ترى من قواعد فقهية يستندون إليها هؤلاء القوم ؟ وكيف حصلوا على حق الامتياز والنيابة عن الناس في تطبيق الشريعة الإسلامية دون غيرهم ؟
, وهل ينحصر الفهم والتفسير للنصوص القرآنية عند حدودهم العقلية ؟ ,
أم لهم وحدهم خلق الله سبحانه العقل واستثنى منه الآخرين ,
ومتى سيستبدلون التكفير بالتفكير, و من بين كل هذا فالقران الكريم ينادي ليلا ونهارا بكل لحظة, إلا تفكرون.. إلا تعقلون.... إلا تنظرون.. وهذا خطاب موجه للناس كافة في كثير من الآيات القرآنية الكريمة كي يحث الناس أن يشاركوا جميعا في فهم الكتاب المجيد ليكون هذا الفهم المشترك آلية خيرٍ ورحمة وسعادة ووفاق للبشرية دون إقصاء ولا تميز , لان القرآن الكريم جاء للبشرية جمعاء .
ولنرجع إلى سؤالنا الذي ذكرناه عن القواعد الفقهية التي يستندون إليها إخواننا السلفيون .
نعم أقول وبكل تأكيد إن لهم قواعد فقهية يستندون إليها , ويعتمدون عليها في رفع السيف على رقاب الناس. ولكن دعونا نتناول ونناقش هذه القواعد , فهل ستصمد قواعدهم الفقهية أمام ما جاء به الإسلام على يد رسول الرحمة محمد( صلى الله عليه واله وسلم),
لنرى ذلك بعد أن نطرح بعضا ً مما تقوله هذه القواعد الفقهية في كتبهم , فعلى سبيل المثال لا الحصر: يقولون إن العدو في الإسلام هو الكفر , والكفر هو الدالة والمؤشر على وجود الأعداء فيكون بذلك هو السبب الشرعي الذي يجعلنا نعادي الكافرين من اجله , فإذا رفع هذا الكفر رفع العداء , والقول لا يزال لإخواننا السلفيين من كتاب الولاء والبراء لعبد الرحمن عبد الخالق والأصل عندنا المعاداة بوجود الكفر والكافرين . والقاعدة الثانية : يقولون فيها لا يجوز للمسلم أن يتعاون أو يتشاور أو يتصاحب أو يتحابب أو ينصح الكافر, ويقولون أيضا لا يجوز للمسلم أن يستسلم لسلطان الكافر فان فعل ذلك كان مواليا ً له فينطبق عليه الحكم الشرعي بالمولاة للكفرة ,
القواعد المذكور في كتبهم و فقههم لا مصداقية لها في كتاب الله , فالقرآن الكريم لا يربط مطلقا بين الكفر والعداوة بل بين العداوة والظلم ,وكما في سورة الممتحنة التي يخاطب فيها الكافرين
الآية( 7) :
(عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً...)
وهذه الآية رد على أقوالهم وبصريح القرآن أي لا يمانع الإسلام أن يكون بيننا وبين الكافرين من مودة ٍ. وفي نفس سورة الممتحنة آية ( 8 ) دحض ٌ آخر لهم :
(لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ..ْ ) .
وهل من دليلا أفصح وأوضح من هذا البيان الرباني على إن الذين لا يقاتلوكم ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم فكيف يفهم الأخوة السلفيون هذا البّر الذي امرنا به رب العزة والجلال, أليس هو الحب والمودة بالتعامل مع الأخر غير المسلم , أم هؤلاء السلفيون لا يريدون أن يبصروا ما في كتاب الله من آيات محكمات
(فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور).. من سورة الحج آية ( 10) .
بعد هذه الأسطر القليلة التي تحدثنا فيها بعجالة عن البر والقسط والمودة مع الكافرين , دعونا ندخل أبواب الجهاد الواسعة ,
وهل كل قتال جهاد ..؟ كما يراه الأخوة السلفيون...!
وحتى لا نضيع الوقت في التفاصيل و نحن في غنى عنها في هذه الحلقة , وحتى لا يتشعب البحث سأختصر ما أمكن واضغط الموضوع بقدر المستطاع , وسأضرب مثال واحد على إنه ليس كل قـتالا جهاد, فـقتـال المرتد ليس جهادا ً, وذلك انطلاقا ً
من مبدأ كتاب الله العزيز : ( لا إكراه في الدين )
وهذا المبدأ يضمن للإنسان حق الدخول والخروج ولا يعني بأي شكل من الإشكال قتلا للمرتد وما بعض الفتاوى التي وردة في ذلك إلا ابتعادا عن كتاب الله الذي يقول في محكم آياته في سورة النساء الآية( 137 ) :
( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّمْ يَكُنِ اللّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً ).
فالوصف القرآني واضح لم يقل ولم يقم بإخراج أرواحهم بالرغم من إنهم امنوا ثم كفر ثم امنوا
(مَا لَكُم كَيْفَ تَحْكُمُون ) , ماذا تقولوا لله يوم الحساب يا أصحاب الفتاوى بقتل الناس ؟
إذن نقول وبصريح العبارة , لابد من تحرير العقل من شبح المقدس للسلف دون النيل من احد , كي يستـقـل العقل ويباشر وظيفته الإنسانية من دون قيود وأغلال , وإذا أريد لأي امة أن تنهض بتـنمية عقلانيتها , فينبغي أن يكون التفكير النقدي حاكما ً,و تعمم ثقافة القبول بالأخر, وثقافة التداول السلمي للسلطة , ونبذ ثقافة العنف , لان العنف يعني الإكراه , والعنف لا يولد إلا العنف , ولا يمكن أن يحل العنف أية مشكلة بل يعقدها . نلتقي في حلقة قادمة بعون الله .