بسم الله الرحمن الرحيم :{وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ}.
إن الغيبة من أهم الأمراض التي تفتك بالمجتمع الإسلامي، وللأسف نراها ظاهرة آخذة في الانتشار دون أن نستشعر خطورتها. وسأتعرض في مقامي هذا إلى مفهوم الغيبة، والأعذار المرخصة لها، ثم نعرج على صورتها الحقيقة فكفارتها.
الغيبة بفتح الغين، هي غياب واحتجاب أمامنا المنتظر أرواحنا لمقدمه الفدا.. أما الغيبة بكسر الغين، فهي موضوع بحثي، ولم أجد تعريفاً جامعاً مانعاً، أفضل من تعريف خير الأنام صلى الله عليه وآله إذ سأل أصحابه : هل تدرون ما الغيبة؟.. قيل : الله ورسوله أعلم. قال : ذكرك أخاك بما يكره. قيل : أرأيت إن كان في أخي ما أقول؟.. قال : إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته.. وإن لم يكن فيه، فقد بهته.
فإذن، إن الغيبة هي ذكرك أخاك في حال غيبته بما يكره، سواء كان ذلك في شكله، كأن تقول : قصير أو طويل.. أو في خلقه، كأن تقول : إنه بخيل.. أو في دينه، كأن تقول : إنه متهاون بالصلاة.. بل لا يجوز لك حتى أن تذكر شيئاً عما يتعلق به، كأن تقول : إن كم ثوبه طويل، أو إن بيته غير مرتب.. بل أكثر من ذلك، إن الأم لا يحق لها أن تخبر زوجها بعيب في ابنها، إذا كانت تستيطع أن تقومه وحدها.
أخبركم أكثر من هذا، أنه روي أن عيسى - عليه وعلى نبينا السلام - مر بجيفة كلب، فقال الحواريون : ما أنتن ريح هذا!.. فقال عيسى (عليه السلام): ما أشد بياض أسنانه!.. فكأنه ينهاهم عن الغيبة، وينبههم إلى عدم ذكر مخلوقات الله، إلا بالحسنى.. لأن الحق - تبارك وتعالى - يقول في كتابه العزيز : {وَمَا مِن دَابَّة ٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم}، ويقول في سورة أخرى : {وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ}.
عرفنا إذن : أننا لو تحدثنا بشيء عن شخص، وكانت فيه ما قلت، فهي الغيبة بعينها. وكان السائل في الحديث، يظن أن الغيبة هي أن تذكر أخاك بما ليس فيه.. والحق أنك إذا ذكرت ما ليس في أخيك، فإن هذا بهتان وليس بغيبة، والبهتان أشد من الغيبة بدرجات.
ولكن هل يعتبر كل حديث عن الناس غيبة؟..
لقد رخص لنا الشارع مسوغات للغيبة، نذكرها باختصار، وهي :
- الفسق : فإن الفاسق لا غيبة عليه، فإن كان فلان من الناس يشرب الخمر جهرة، فهذا فسق ولنا الرخصة في الكلام عليه.. أما إذا كانت هناك خصال سيئة أخرى في هذا الفاسق، ولكنه لا يجاهر بها، فذكرها غيبة لا رخصة فيه.
- الغيبة لإظهار المظلومية : وفي هذا جاء قوله تعالى : {لاَّ يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوء ِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ}، فمن حق المظلوم أن يذكر مظلوميته، وهذا لا يعني أن ينشرها بين كل الناس، فلا بد أن ينحصر كلامه بها مع من يستطيع أن يأخذ له حقه، ولا يجوز في غير هذه الحالة.
- الاستفتاء : أيضاً يجوز الغيبة.
- الاستشارة في أمور الزواج والشراكة : إذا كان في سكوتي تورط لأخي المسلم، ولكن علينا أيضاً أن نراعي في هذه الموارد، فنكتفي - مثلاً - بقولنا : نحن لا نرجح هذا الزواج - مثلاً - دون أن نذكر السبب إن أمكن.
وغيرها من الموارد، يمكن الرجوع لها في مظانها من الكتب.
ها قد عرفنا الغيبة، فلنرجع قليلاً إلى أنفسنا لنرَ أننا متورطون في الغيبة من أعلى رؤوسنا إلى أخمص أقدامنا.. نحن نمارس هذا الفعل كل يوم، بل كل ساعة دون أن نشعر. فهذا الذنب يختلف عن سواه، أنك لا تحتاج فيه إلى جهد ولا مخاطرة لفعله. فالسارق يضع الخطط، ويدرس المكان الذي يريد سرقته، وربما يأخذ في مراقبته أســابيع ؛ دارساً المنافذ التي يمكن له الدخول منها وغير ذلك.. أما الغيبة فما أسهلها!..
ولا يقع الذنب على المغتاب وحده، بل حتى سامع الغيبة يقع عليه الذنب، وفي ذلك يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وعلى آله : (المستمع أحد المغتابين). فأنت إن تورطت في سماع الغيبة، ولم تدفع عن أخيك الظلم، ورضيت بما يقال.. فإنك شريك في الذنب. وفي هذا المقام ينقل لنا الشيخ حبيب الكاظمي، قصة أحد المراجع الكبار الذي تورط يوماً في سماع الغيبة، وفي تلك الليلة استيقظ المرجع من النوم، وإذا بقطعة لحم حقيقية في فمه. لفظها وغسل فمه، ولكن رائحة نتنة انبعتث من فمه، تركته جليس المنزل لمدة أشهر قضاها في الاستغفار عن ذنبه.
الآن كيف نفسر وجود قطعة اللحم هذه في فم المرجع؟.. تفسرها لنا سورة التكاثر، إذ تقول : {كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ}. نحن لم نصل إلى الدرجات العليا التي تميط الحجب عن أعيننا، فنرى الأشياء بصورتها الحقيقية.. فالصورة الحقيقة لأكل مال اليتامى - مثلاً - هو كما تقول الآية العاشرة من سورة النساء : {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا}.. الآن نحن لا نرى حقيقة الأعمال، ولكننا سنراها يوم القيامة، يوم {فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَاء َكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ}. هذا المرجع بما له من قوة إيمانية، رأى حقيقة عمل الغيبة في الحياة الدنيا وهي قطعة اللحم.. ألم يقل القرآن : أن المغتاب يأكل لحم أخيه ميتاً!..
ولنتأمل قليلاً في الآية فنراها تقول : {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا}.. إنما شبه القرآن الغيبة بأكل لحم الميت، لأن أخاك هذا الذي اغتبته غير موجود، فهو كالميت لا يستطيع أن يدافع عن نفسه.
ولنتأمل في كلمة (ميت) هذه. لدينا فرق في اللغة العربية، بين كلمة (ميّت) بالتشديد وكلمة (ميت). فميت تجوز على الحي والميت، كأن تقول : فلان مات من الضحك، أو أن تقول : إن فلاناً مات أي فارق الحياة.. أما الميت، فتطلق على من مات وقبر ؛ أي وضع في قبره، وأهيل عليه التراب.. فالميت الذي يغسل - مثلاً - لا يطلق عليه ميت.
هكذا لنرى ما هي مغبة الغيبة.. تعرفون أن لحم الغيبة حرام، فهذه حرمة، وما بالك إذا كانت هذه الميتة، هي لحم إنسان وليس حيوان!.. ثم كيف سنصل إلى جسد هذا المقبور، إذا لم ننبش القبر؟.. فهذه حرمة ثانية. عندما يوضع أمامك أجود أنواع الطعام، ثم ترى الذباب وقد وقع عليه، فهل ستأكل ذاك الطعام؟.. قطعاً لن تأكل منه، وفي هذا يقول الشاعر :
إذا وقع الذباب على طعام *** رفعت يدي ونفسي تشتهيه
فكيف بهذا الجسد الذي يتقافز عليه الدود، وتنهشه الحيات؟.. هذه هي الصورة الحقيقة لهذا الفعل الصغير، الذي نتهاون به.. عمل صغير، جرنا إلى كل هذه الحرمات، لا بل هو كبير، ولكننا نحن نراه صغيراً.. وهذا من تزيين الشيطان، وقد حذرنا رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - منه إذ قال في خطبة حجة الوداع : إن الشيطان قد يأس أن يعبد بأرضكم هذه، لكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحقرون من أعمالكم).. فالشيطان لن يقول لك : لا تصل، لأنه يعلم أنك لا تطيعه.. ولكنه يقول لك : أجّل الصلاة، وأكمل عملك قبل الصلاة وهكذا.. نحن نطيع الشيطان، بتحقير الأعمال، سواء منها الحسنة أو السيئة.. فقد نطيعه بأن لا نزيل الأذى عن طريق المسلمين، لأننا لن نحصل على أجر كبير، ونحن لا نعلم أننا نفوت على أنفسنا الكثير بذلك.. وقد نتهاون بالذنب، فنحقره ونقع فيه، والحال هكذا في الغيبة.. والحال أنها تحجب أعمالنا، وتهلكها كالهشيم إذا أكلته النار.. فقد جاء في الخبر : أن الملائكة تصعد بعمل العبد، وما تزال تستغفر له، وتستكثر عمله وتزكيه.. فإذا وصلت السماء الدنيا، قال الحاجب : اضربوا بهذه الأعمال وجه صاحبها!.. عجباً من هذا البواب؟.. إنه الملك الموكل بالغيبة، هذا الملك هو حاجب السماء الدنيا، وكان أمر الله إليه ألا يدع عمل من يغتاب الناس، يتجاوزه إلى ربه.
فإذن، إن علينا - يا أخوات - أن نحفظ ألسنتنا عن الغيبة، ونعمر قلوبنا بذكر الله.. فإن تورطنا في الغيبة، فعلينا المسارعة للتحلل من صاحبنا، هذا الذي اغتبناه.. لأن الغيبة أشد من الزنا.. فالزاني يتوب، فيتوب الله عليه.. أما المغتاب وإن تاب، لا يتوب الله عليه، حتى يعتقه صاحبه الذي أكل لحمه.
والإحراج في الدنيا، لا يسواي ثانية تقف فيها بين يدي الله، أمام خصمك، وتكون حينئذ رهن إشارته : فإن سامحك، غفر الله لك.. وإن لم يفعل، فعليك أن تدفع ثمن غيبتك له حسنات تنتقل إلى ميزانه.. فإن لم تكن لديك حسنات، فإنك تحمل سيئات من عنده ؛ استيفاء لجزاء عملك.
أما إذا مات غريمك، أو صعب عليك الوصول إليه : بأن لا تعلم طريقه، أو تستطيع الوصول إليه، ولكنك تعلم أن التحلل منه سيثير الفتنة، ويشعل الضغائن.. في هذه الحالات، يكون الاستغفار هو الحل الأفضل، وهذا مصداق قوله صلى الله عليه وآله وسلم : (كفارة من استغبته، أن تستغفر له).
ولكن أليست الوقاية خير من العلاج؟.. أليس الكف عن الذنب، خير من استغفارك الذي قد يجزي وقد لا يجزي؟.. فخير لنا ألا نذكر إخوتنا بسوء، لأننا بهذا نفكك المجتمع، ونثير الأضغان والأحقاد، لأنه لا بد أن يصل ما قلت إلى من اغتبت، وعندها ستثير في قلبه حقداً وقد يرد عليك السيئة بمثلها.. ولذلك جاء عن الإمام الصادق - عليه أفضل الصلاة والسلام -: (لا تغتب، فتُغتب.. ولا تحفر لأخيك حفرة، فتقع فيها.. فإنك كما تدين، تدان).
كما على الفرد منا، أن يحفظ نفسه عن التعرض للغيبة.. فقد جاء عن الإمام علي - عليه السلام - قوله في إحدى خطب نهج البلاغة : (من وضع نفسه مواضع التهمة، فلا يلومن من أساء به الظن).