حين انتهى الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، من خطابه الشهير الذي أرسى فيه معادلة تل أبيب مقابل الضاحية، أتاه من قال له:
«رحمك الله يا سماحة السيد، لقد اتفقنا على أنه يمكننا تدمير مبنى في تل أبيب مقابل مبنى في الضاحية، لكنك قلت على الهواء: مبانٍ في تل أبيب مقابل مبانٍ في الضاحية. وما دمت وضعت هذا الالتزام أمام الملأ، فنحن سنعدّه التزاماً علينا في الحرب المقبلة».
منذ أيام قليلة، عقد تجمع 14 آذار اجتماعه السنوي لمناسبة نزول مئات الآلاف من اللبنانيين في الانتفاضة الشهيرة. لم يعد التجمع يشبه نفسه، ولم يعد الحديث عنه يؤتي أي ثمار، ولا إجابة أطروحاته تشبه مصل المياه الذي يعطى للأطفال. مجرد معادلة كيميائية من دون أي إضافات عدا الهيدروجين والأوكسيجين. ورغم حيوية المصل، إلا أنه دون لون أو طعم أو رائحة أو أية مواد معدنية.
ومنذ أيام قليلة بدأت قوات المقاومة بإجراءات هي على الأرجح روتينية. لم يشعر أي مواطن لبناني بأية تغيرات أو استنفارات أو تحركات لأجهزة المقاومة وأذرعها المتعددة، لكن هناك الآلاف من المقاومين الذين يعيشون اليوم في حالة الجهوزية تحسباً ربما من أية خطوات إسرائيلية، أو ربما في إطار واحدة من مناورات قيادة المقاومة التي لا تنتهي.
في المقابل، في إسرائيل ثمة تجميع معطيات متواصل لمزيد من أعمال الاختراق الأمني للبنان ولجهاز المقاومة. كانت مرحلة من المراحل تعد ذهبية، وخاصة بعيد حرب تموز حين كانت أجهزة التجسس الإسرائيلية قد تمكنت من تنفيذ اختراقات متعددة في محيط المقاومة، ومسح الضاحية الجنوبية ومحاولة توزيع أجهزة مراقبة ورصد على سيارات مسؤولين وقياديين وتنفيذ عمليات اغتيال وغيرها مما سيظهر خلال المرحلة المقبلة.
هذا في مجال إنجازات العدو، أما من ناحية المقاومة، فإنها تفضل البقاء في الظل. لا كلام على ما يحصل عندها أو ما تملكه، أو قدراتها واستعداداتها، لكن ما يملكه العدو هو قرار واضح يتجلى في خوض الحرب الأمنية أو حرب الظل مع المقاومة ومحاولة اختراقها وإغراق لبنان بالعملاء وتنفيذ عمليات أمنية. وخلال حرب تموز أبدى ضباط في قيادة جيش العدو استغرابهم من وجود كتيّبات بين أيدي المقاومين تتضمن معلومات عن الرتب في جيش العدو وعن عدته وعديده، وتحمل هذه الكتيبات تفاصيل عن القطاعات المعادية.
اليوم، كل ما يلزم للوصول إلى تفاصيل قيادات وقياديين في جيش العدو هو كبسة زر، يخرج بعدها خزان المعلومات إلى شاشات كومبيوتر الاختصاصيين في المقاومة ويتعرفون إلى هويات من يديرون العمليات في الجهة الأخرى من الحدود. ليس هذا وحسب، بل معلومات المقاومة عن القطاعات والبنى والفرق وتشابك القوى والأذرع الإسرائيلية صارت في مكان آخر. كل هذا، وتصرّ المقاومة على عدم نشر حرف من هذا أو الإشارة إليه أو التلميح إلى قدراتها ومعلوماتها عن العدو وطريقة عملها.
لكن بات من المعلوم في إطار الحرب السرية أو حرب الجواسيس، أن نصف من وقع من المتعاملين في لبنان، وقد تمكنت المقاومة بأجهزتها المتعددة من الإيقاع به، سواء سلمته مباشرة إلى الجهات الرسمية المعنية أو غير ذلك، وأن المقاومة لا تزال تراقب العديد من المشتبه فيهم. وما دامت الأمور في مجال هذه الحرب بهذا الوضوح والعلنية، والمتعاملون يعترفون صراحة بذنبهم ويتأكد اللبنانيين والعرب والدول والأمم المتحدة من أن العدو يحاول ليل نهار اختراق النسيج اللبناني والتجسس على البلاد والمرافق والمقاومة ومناطق متفرقة وجمع المعلومات عن البنى التحتية، فلا حرج على المقاومة بعد اليوم إن هي نفذت عملية أمنية ما لأسباب تكتيكية، أو اكتشف العدو متعاملاً إسرائيلياً مع أجهزة المقاومة. وإن كان التوازن مفقوداً هنا أيضاً، فإن الهدف ليس الإيقاع بخلايا تجسس تعمل مع المقاومة في إطار الحرب السرية، أو تنفيذ عمليات استعراضية أمنية، إلا أن مخاطر هذا العمل لا تنتهي.
هذا منهج ورؤية في العمل العسكري القتالي الذي تتبناه المقاومة في لبنان وجسم حزب الله السياسي. في مقابله، ثمة من يتهرب من ذكر طموحات الشعب اللبناني عبر امتطاء طائرته الخاصة والتوجه إلى خارج الوطن بحثاً عن لقاء مسؤول ما في دولة غربية، بدلاً من أن يجلس إلى الطاولة ويعترف بأنه في زمن ما، حين قال إن هناك من يغامر بالبلاد وإنه يريد محاسبة هؤلاء المغامرين، كان شارداً يقرأ السياسة من كعب فنجان القهوة.
أما الأنكى، فهم أولئك الذين يعترضون على بيانات قوى 14 آذار التي تشبه بيانات قوى 8 آذار، وكأنه ما زال في البلاد متسع لطرفين لا يتمتعان إلا بالمذهبية والمحاصصات.