تحديث التعليم الديني في الحوزة العلمية ..مسار التحديث
بتاريخ : 25-04-2007 الساعة : 01:20 AM
مسار التحديث في الحوزة العلمية
ارتبط التاريخ الديني للحوزة العلمية في النجف بتوجيه وقيادة المنعطفات السياسية في إيران، مثلما نلاحظ في حركة المشروطة ودستور سنة 1906؛ إذ كان كل واحد من جناحيها يقوده واحد من مراجع النجف؛ فالشيخ محمد كاظم الهروي المعروف بالآخوند الخراساني كان منحازا إلى الدستور الحديث، وقائدا لحركة المطالبة به، فيما كان السيد محمد كاظم اليزدي قائدا للتيار الآخر الذي عرف في التاريخ السياسي الحديث بـ «المستبدة».
كذلك ألفت أهم الأدبيات السياسية عن الدستورية في الحوزة النجفية، مثل كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة» للشيخ محمد حسن النائيني، تلميذ الآخوند الخراساني.
كما قاد الميرزا حسن الشيرازي من الحوزة العلمية في سامراء ما عرف بانتفاضة التنباك «التبغ» في إيران قبل ذلك.
وهكذا كانت النجف حاضرة بكثافة في أخطر الأحداث السياسية في العراق، كما في مقاومة الاستعمار البريطاني، بدءا من سنة 1914 عندما دخل الإنجليز جنوب العراق، ومراوحتهم وتقهقرهم بفعل المقاومة، وعدم تمكنهم من بسط سيطرتهم على العراق بأسره إلا بعد مضي ثلاث سنوات، أي سنة 1917.
وفي ثورة 1920 ضد الاستعمار البريطاني المعروفة في تاريخ العراق القريب بثورة العشرين، كان للنجف الدور الأهم في تعبئة الجمهور وإشعال الثورة وفي زعامتها، والتي أفضت إلى تشكيل الدولة العراقية في السنة نفسها. وبعد حركة الاحتجاج الدستوري سنة 1924، ونفي مجموعة من المراجع من النجف إلى إيران، تقلص الدور السياسي للحوزة العلمية في الحقبة التالية، حتى استفاق بعد ثلاثة عقود من ذلك التاريخ، فبدأت النجف تنخرط من جديد في الحياة السياسية.
كما تعرف الدارسون في الحوزة العلمية قبل أكثر من قرن على شيء من مكاسب العلوم الطبيعية والإنسانية في الغرب، عبر ما كان يصل إلى النجف من مطبوعات ودوريات القاهرة وبيروت.
بالإضافة إلى تأسيس المدارس وتدشين النظام التعليمي الحديث في العراق، ومغادرة أسلوب التعليم التقليدي في الكتاتيب.
هذه العوامل وغيرها من تحولات تمدينية، واجتماعية، وثقافية، واقتصادية في المجتمع، جعلت الدارسين في النجف في مواجهة عالم مختلف، يضج بالحركة والتغيير، لا تكرر الحياة فيه نفسها، مثلما كانت في الأيام الماضية، بل تتسرب كل يوم مفاهيم وآراء وأسئلة متنوعة، لم يألفها تلامذة الحوزة قبل ذلك.
في ظل هذه المعطيات نشر للمرة الأولى بعض الطلاب ملاحظات نقدية على المقررات المتعارفة للدراسة في النجف، فمثلا يقول أحدهم ـ الذي رمز لاسمه بـ«النجف عراقي» ـ في مقال نشره سنة 1913 «المطول: عبارته أشكل من معناه، وفيه من النحو وفلسفته، والمنطق وأدلته، وغيرها من العلوم، أكثر مما فيه من علمي المعاني والبيان، وكتاب كفاية الأصول: عبارته مغلقة للغاية».[1]
ويكتب تلميذ آخر «وصلت في دراستي الحوزوية على الطريقة القديمة في الدراسة إلى كتاب كفاية الأصول الذي صدمني بتعقيده ورموزه وسوء تعبيره، مما يولد في نفسي رد الفعل عن مواصلة دراسة هذا العلم».[2]
وكان السيد محسن الأمين العاملي من الرواد الأوائل لحركة الاصلاح في تقاليد التعليم الديني، وقد لخص رؤيته في مقالة تحت عنوان «إصلاح المدارس الدينية» شدد فيها على ضرورة استبدال الكتب الدراسية.[3]
كما أصدر السيد هبة الدين الشهرستاني مجلة «العلم» في النجف، في 29 آذار 1910، وكانت تعنى بالدعوة إلى تبني الأساليب العلمية ونبذ ما سواها.
وتألفت عدة جماعات، ظل معظمها يباشر عمله بتكتم وسرية، ويوجه خطابات إلى العلماء البارزين آنذاك تطالب بإصلاح الحوزة العلمية[4]. وكانت هذه الجماعات ـ حسب ما ذكره الشيخ محمد رضا المظفر، أبرز رواد حركة الإصلاح في النجف ـ الذي يصفها بأنها «أشبه بجمعيات سرية أو مجالس تمهيدية في طريق الإصلاح... وأتذكر جيدا ـ والكلام للمظفرـ أني اشتركت في إحداها، وكنت كاتبها، وأعضاؤها كلهم من الشباب الديني ذلك اليوم... وما أزال أحتفظ بمحاضر جلسات جماعتي الأولى تلك، وبمذكراتي الخاصة عنها وعن غيرها، وهي على بساطتها تمثل لي مقدار التكتم والخوف الذي كان يساورنا، وكان عملنا وتفكيرنا مقتصرا على تفقد المفكرين من أصحابنا، الذين يحسون بالداء مثلنا، وبالرغم من مواصلة الجلسات والتفكير طيلة عام واحد، لم نستطع أن نخرج صوتنا من غرفتنا إلا بعض الشيء».[5]
وتمخضت جهود الشيخ المظفر وجماعته عن إنشاء «جمعية منتدى النشر» وميلاد «كلية الفقه» في فترة لاحقة، والتي صارت أهم مشروع تحديثي في النجف.
وقبل أكثر من مئة عام أسس الشيخ محمد جواد الجزائري «نقابة الإصلاح العلمي» في الحوزة العلمية، سنة 1323هـ، وقد تبنت النقابة صيغة تستند إلى الشورى في بناء هيكلها وقيادتها، وشددت على ذلك في أكثر من مادة في ورقة عملها، وألزمت المنتسبين إليها بكتمان اسرارها، وعدم الإفصاح عن أسماء الأعضاء الآخرين، كإجراء احترازي لتفادي الشائعات والتهم، وما تفضي إليه من مخاطر أمنية تجتث النقابة في مهدها.[6]
ولسنا في مقام التأريخ لمسار الإصلاح في النجف؛ لأن في هذا المسار طائفة من الأعلام، ومجموعة من المنتديات، وعددا من المدارس، وبعض المطبوعات والنشرات، ينبغي أن نلم بها، ونقف عندها وقفة تقويمية، نقرأها في إطار المتغيرات ومجمل الملابسات السائدة ذلك الوقت.
أما مديات التحديث فيمكن الإشارة إليها من خلال بعض الرؤى النقدية لعلماء معاصرين، من أعلام مدرسة النجف، وتحليلهم لظاهرة الانكفاء، ومناهضة أية عملية تطوير، وطغيان الحالة السكونية على الحياة العلمية في الحوزة، والعلاقة بين هذه الحالة ونمط المفاهيم التي يدرسها التلامذة. يقول السيد الشهيد محمد باقر الصدر: «الاستصحاب الذي قرأناه في علم الأصول، طبقناه على أساليب العمل، وطبقناه على حياتنا، فكنا نتجه دائما إلى ما كان، ولا نفكر أبدا في أنه هل بالإمكان أن يكون أفضل مما كان؟ لا بد أن نتحرر من النزعة الاستصحابية، ومن نزعة التمسك بما كان حرفيا بالنسبة إلى كل أساليب العمل، هذه النزعة التي تبلغ القمة عند بعضنا، حتى أن كتابا دراسيا مثلا ـ أمثل بأبسط الامثلة ـ إذا أريد تغييره بكتاب آخر في مجال التدريس ـ وهذا أضأل مظاهر التغييرـ حينئذ يقال: لا ليس الأمر هكذا، لا بد من الوقوف، لا بد من الثبات والاستمرار على نفس الكتاب الذي كان يدرس فيه الشيخ الأنصاري رضوان الله عليه، أو المحقق القمي رضوان الله عليه. هذه النزعة الاستصحابية التي تجعلنا دائما نعيش مع أمة قد مضى وقتها، مع أمة قد ماتت وانتهت بظروفها وملابساتها؛ لأننا نعيش بأساليب كانت منسجمة مع أمة لم يبق منها أحد، وقد انتهت وحدثت أمة أخرى ذات أفكار اخرى، ذات اتجاهات أخرى، ذات ظروف وملابسات أخرى...».[7]
ولم يتوان الشيخ محمد مهدي شمس الدين من أن يتحدث بصراحة عن قصور أسلوب التعليم التقليدي في الحوزة، وفشله في مواكبة إيقاعات الحياة ومتغيراتها، فيكتب: (يكفي للدلالة على عدم واقعية النظام الدراسي القائم فعلا، أنه نظام لا يفشل فيه طالب، ولا يرسب فيه طالب، وأن جميع المنتسبين إليه يتخرجون علماء. هذا النظام لا يزال حتى كتابة هذه الكلمات على الحال التي كان عليها منذ مئات السنين، فهو يقوم على لا نظام. إنه فوضى. ففيما عدا الكتب المقررة ـ بقوة التقليد، وليس لأنها أصلح الكتب ـ لا يوجد أي نظام يحكم الحياة الدراسية على الإطلاق، وإنما هي الفوضى الكاملة الشاملة، وما أكثر «المشايخ» الذين يكتسبون صفتهم الدينية «والعلمية؟!» من عدد السنين التي قضوها في النجف دون أن يكتسبوا منها شيئا سوى بعض الحذلقة الكلامية. وكثيرا ما ينادى بأن هذا النظام «الدراسة الحرة!!» ـ وأحرى أن يسمى الدراسة السائبة ـ لـه فضيلة كبيرة، هي إتاحة الفرصة أمام الطلبة للمناقشة والبحث. ولكن أي فضيلة هي هذه التي بسبب ما يدعى من المحافظة عليها تتسيب مؤسسة تدريسية بكاملها. إن هذه الفضيلة الأفلاطونية لا تساوي التضحية المبذولة من أجلها، على أنه ليس ثمة ما يمنع أبدا من المحافظة على هذه الفضيلة مع الأخذ بأسباب النظام).[8]
وربما لم تتراكم مكاسب جدية واستثنائية لحركة الإصلاح في الحوزة العلمية فيما مضى، باعتبار أن دعوات هذه الحركة لم تتوغل في بنية اللاهوت الكلاسيكي، ولم تطاول مرتكزات المعارف الدينية التقليدية، واقتصرت في الغالب على دعوات مطلبية آنية، تتمحور حول استبدال كتاب بكتاب، وأسلوب تعليمي بآخر، والخروج من تلغيز عبارات المصنفات القديمة وإغلاقها إلى مصنفات تعبر عن الأفكار بجلاء، وتختزل الاستطرادات، والمباحث المتطفلة على موضوعات العلوم.
غير أن مردودات قرن كامل من محاولات تحديث التعليم الديني في الحوزة العلمية وضعتنا على أعتاب مرحلة جديدة، نلمح فيها إرهاصات انبثاق سؤال ميتافيزيقي ولاهوتي مختلف، وبذور جنينية لميلاد لاهوت جديد، لا يخشى من توظيف معطيات العلوم الراهنة في قراءة النص والتراث، ويعمل على تجاوز يقينيات المنطق الأرسطي، وتفكيك مقولاته وأدواته الجزمية الراسخة.
ــــــــــــــــــــــ
[1] مقال «كتب القراءة وطريقة التدريس عند الشيعة في العراق».
[2] الخاقاني، علي. شعراء الغري. ج7: ص351.
[3] الأمين، محسن. معادن الجواهر ونزهة الخواطر. ص 40-46.
[4] مجلة العرفان، مج23: ج3 (شعبان 1351ـ كانون أول 1932) ص688.
[5] الآصفي، محمد مهدي. مدرسة النجف وتطور الحركة الإصلاحية فيها. ص113.
[6] الرفاعي، عبد الجبار. منهج الشهيد الصدر في تجديد الفكر الإسلامي. ص48-49.
[7] الصدر، الشهيد محمد باقر. المحنة. ص76-79.
[8] شمس الدين، الشيخ محمد مهدي. مواقف وتأملات في قضايا الفكر والسياسة. ص216-217.