قلنا: إن الله تعالى خلق الانسان مفطوراً على التفكير مستعداً لتحصيل المعارف بما أعطي من قوة عاقلة مفكرة يمتاز بها عن العجماوات. ولا بأس ببيان موطن هذا الامتياز من أقسام العلم الذي نبحث عنه، مقدمة لتعريف العلم ولبيان علاقة المنطق به، فنقول:
1- إذا ولد الإنسان يولد وهو خالي النفس من كل فكرة وعلم فعلي، سوى هذا الاستعداد الفطري. فإذا نشأ وأصبح ينظر ويسمع ويذوق ويشم ويلمس، نراه يحس بما حوله من الأشياء ويتأثر بها التأثر المناسب، فتنفعل نفسه بها، فنعرف أن نفسه التي كانت خالية أصبحت مشغولة بحالة جديدة نسميها (العلم)، وهي العلم الحسي الذي هو ليس إلا حس النفس بالأشياء التي تنالها الحواس الخمس: (الباصرة، السامعة، الشامة، الذائقة، اللامسة). وهذا أول درجات العلم، وهو رأس المال لجميع العلوم التي يحصل عليها الانسان، ويشاركه فيه سائر الحيوانات التي لها جميع هذه الحواس أو بعضها.
2- ثم تترقى مدارك الطفل فيتصرف ذهنه في صور المحسوسات المحفوظة عنده، فينسب بعضها إلى بعض: هذا أطول من ذاك، وهذا الضوء أنور من الآخر أو مثله... ويؤلف بعضها من بعض تأليفاً قد لا يكون له وجود في الخارج، كتأليفه لصور الأشياء التي يسمع بها ولا يراها، فيتخيل البلدة التي لم يرها، مؤلفة من الصور الذهنية المعروفة عنده من مشاهداته للبلدان. وهذا هو (العلم الخيالي) يحصل عليه الانسان بقوة (الخيال)، وقد يشاركه فيه بعض الحيوانات.
3- ثم يتوسع في إدراكه إلى أكثر من المحسوسات، فيدرك المعاني الجزئية التي لا مادة لها ولا مقدار: مثل حب أبويه له وعداوة مبغضيه، وخوف الخائف، وحزن الثاكل، وفرح المستبشر... وهذا هو (العلم الوهمي) يحصل عليه الانسان كغيره من الحيوانات بقوة (الوهم). وهي - هذه القوة- موضع افتراق الانسان عن الحيوان، فيترك الحيوان وحده يدبر ادراكاته بالوهم فقط ويصرفها بما يستطيعه من هذه القوة والحول المحدود.
4- ثم يذهب - هو الانسان - في طريقه وحده متميزاً عن الحيوان بقوة العقل والفكر التي لا حد لها ولا نهاية، فيدير بها دفة مدركاته الحسية والخيالية والوهمية، ويميز الصحيح منها عن الفاسد، وينتزع المعاني الكلية من الجزئيات التي أدركها فيتعقلها، ويقيس بعضها على بعض، وينتقل من معلوم إلى آخر، ويستنتج ويحكم، ويتصرف ما شاءت له قدرته العقلية والفكرية. وهذا (العلم) الذي يحصل للإنسان بهذه القوة هو العلم الأكمل الذي كان به الانسان إنسانا، ولأجل نموه وتكامله وضعت العلوم وألفت الفنون، وبه تفاوتت الطبقات واختلفت الناس. وعلم المنطق وضع من بين العلوم، لأجل تنظيم تصرفات هذه القوة خوفاً من تأثير الوهم والخيال عليها. ومن ذهابها في غير الصراط المستقيم لها.
تعريف العلم:
وقد تسأل على أي نحو تحصل للإنسان هذه الادراكات؟ ونحن قد قربنا لك فيما مضى نحو حصول هذه الادراكات بعض الشيء، ولزيادة التوضيح نكلفك أن تنظر إلى شيء أمامك ثم تطبق عينيك موجهاً نفسك نحوه، فستجد في نفسك كأنك لا تزال مفتوح العينين تنظر إليه، وكذلك إذا سمعت دقات الساعة - مثلاً - ثم سددت أذنيك موجهاً نفسك نحوها، فستحس من نفسك كأنك لا تزال تسمعها... وهكذا في كل حواسك. إذا جربت مثل هذه الأمور ودققتها جيداً يسهل عليك أن تعرف أن الإدراك أو العلم إنما هو انطباع صور الأشياء في نفسك لا فرق بين مدركاتك في جميع مراتبها، كما تنطبع صور الأشياء في المرآة. ولذلك عرفوا العلم بأنه:
«حضور صورة الشيء عند العقل».
أو فقل انطباعه في العقل، لا فرق بين التعبيرين في المقصود.
التصور والتصديق
إذا رسمنا مثلثاً تحدث في ذهنك صورة له، هي علمك بهذا المثلث، ويسمى هذا العلم (بالتصور). وهو تصور مجرد لا يستتبع جزماً واعتقاداً. وإذا تنبهت إلى زوايا المثلث تحدث لها أيضاً صورة في ذهنك. وهي أيضاً من (التصور المجرد). وإذا رسمت خطاً أفقياً وفوقه خطاً عمودياً مقاطعاً له تحدث زاويتان قائمتان، فتنتقش صورة الخطين والزاويتين في ذهنك. وهي من (التصور المجرد) أيضاً.
وإذا أردت أن تقارن بين القائمتين ومجموع زوايا المثلث، فتسأل في نفسك هل هما متساويان؟ وتشك في تساويهما، تحدث عندك صورة لنسبة التساوي بينهما وهي من (التصور المجرد) أيضاً.
فإذا برهنت على تساويهما تحصل لك حالة جديدة مغايرة للحالات السابقة. وهي إدراكك لمطابقة النسبة للواقع المستلزم لحكم النفس وإذعانها وتصديقها بالمطابقة. وهذه الحالة أيضاً (صورة المطابقة للواقع التي تعقلتها وأدركتها) هي التي تسمى (بالتصديق)، لأنها إدراك يستلزم تصديق النفس وإذعانها، تسمية للشيء باسم لازمه الذي لا ينفك عنه.
إذن، إدراك زوايا المثلث، وإدراك الزاويتين القائمتين، وإدراك نسبة التساوي بينهما كلها (تصورات مجردة) لا يتبعها حكم وتصديق. أما إدراك ان هذا التساوي صحيح واقع مطابق للحقيقة في نفس الأمر فهو (تصديق).
وكذلك إذا أدركت ان النسبة في الخبر غير مطابقة للواقع، فهذا الإدراك (تصديق).
(تنبيه) - إذا لاحظت ما مضى يظهر لك ان التصور والإدراك والعلم كلها ألفاظ لمعنى واحد، وهو: حضور صور الأشياء عند العقل. فالتصديق أيضاً تصور ولكنه تصور يستتبع الحكم وقناعة النفس وتصديقها. وإنما لأجل التمييز بين التصور المجرد أي غير المستتبع للحكم، وبين التصور المستتبع له، سمي الأول (تصوراً) لأنه تصور محض ساذج مجرد فيستحق إطلاق لفظ (التصور) عليه مجرداً من كل قيد، وسمي الثاني (تصديقاً) لأنه يستتبع الحكم والتصديق، كما قلنا تسمية للشيء باسم لازمه.
أما إذا قيل: (التصور المطلق) فإنما يراد به ما يساوق العلم والإدراك فيعم. كلا التصورين: التصور المجرد، والتصور المستتبع للحكم (التصديق)().
بماذا يتعلق التصديق والتصور؟
ليس للتصديق إلا مورد واحد يتعلق به، وهو النسبة في الجملة الخبرية عند الحكم والإذعان بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها. وأما التصور فيتعلق بأحد أربعة أمور:
1- (المفرد) من اسم، وفعل «كلمة»، وحرف «أداة».
2- (النسبة في الخبر) عند الشك فيها أو توهمها، حيث لا تصديق، كتصورنا لنسبة السكنى فى المريخ - مثلاً - عندما يقال: «المريخ مسكون».
3- (النسبة في الانشاء) من أمر ونهي وتمن واستفهام... إلى آخر الأمور الإنشائية التي لا واقع لها وراء الكلام، فلا مطابقة فيها للواقع خارج الكلام، فلا تصديق ولا إذعان.
4- (المركب الناقص). كالمضاف والمضاف إليه، والشبيه بالمضاف، والموصول وصلته، والصفة والموصوف، وكل واحد من طرفي الجملة الشرطية... إلى آخر المركبات الناقصة التي لا يستتبع تصورها تصديقاً وإذعانا: ففي قوله تعالى: ] إِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [ . الشرط (تعدوا نعمة الله) معلوم تصوري والجزاء (لا تحصوها) معلوم تصوري أيضاً. وإنما كانا معلومين تصوريين لأنهما وقعا كذلك جزاءاً وشرطاً في الجملة الشرطية وإلا ففي أنفسهما لولاها كل منهما معلوم تصديقي. وقوله (نعمة الله) معلوم تصوري مضاف. ومجموع الجملة معلوم تصديقي.
ينقسم التصديق إلى قسمين: يقين وظن، لأن التصديق هو ترجيح أحد طرفي الخبر وهما الوقوع واللاوقوع سواء كان الطرف الآخر محتملاً أو لا فان كان هذا الترجيح مع نفي احتمال الطرف الآخر بتاً فهو (اليقين)، وإن كان مع وجود الاحتمال ضعيفاً فهو (الظن).
وتوضيح ذلك: إنك إذا عرضت على نفسك خبراً من الأخبار فأنت لا تخلو عن إحدى حالات أربع: أما انك لا تجوّز إلا طرفاً واحداً منه أما وقوع الخبر أو عدم وقوعه، وأما أن تجوّز الطرفين وتحتملهما معاً. والأول هو اليقين. والثاني وهو تجويز الطرفين له ثلاث صور، لأنه لا يخلو إما أن يتساوى الطرفان في الاحتمال أو يترجح أحدهما على الآخر: فإن تساوى الطرفان فهو المسمى (بالشك) وإن ترجح أحدهما فإن كان الراجح مضمون الخبر ووقوعه فهو (الظن) الذي هو من أقسام التصديق. وإن كان الراجح الطرف الآخر فهو (الوهم) الذي هو من أقسام الجهل وهو عكس الظن. فتكون الحالات أربعاً، ولا خامسة لها:1-
(اليقين) وهو أن تصدق بمضمون الخبر ولا تحتمل كذبه أو تصدق بعدمه ولا تحتمل صدقه، أي انك تصدق به على نحو الجزم وهو أعلى قسمي التصديق().
2- (الظن) وهو أن ترجح مضمون الخبر أو عدمه مع تجويز الطرف الآخر، وهو أدنى قسمي التصديق.
3- (الوهم) وهو أن تحتمل مضمون الخبر أو عدمه مع ترجيح الطرف الآخر.
4- (الشك) وهو أن يتساوى احتمال الوقوع واحتمال العدم.
(تنبيه) - يعرف مما تقدم أمران: (الأول) ان الوهم والشك ليسا من أقسام التصديق بل هما من أقسام الجهل، و(الثاني) أن الظن والوهم دائماً يتعاكسان: فانك إذا توهمت مضمون الخبر فأنت تظن بعدمه، وإذا كنت تتوهم عدمه فانك تظن بمضمونه، فيكون الظن لأحد الطرفين توهماً للطرف الآخر.
بماذا يتعلق التصديق والتصور؟
ليس للتصديق إلا مورد واحد يتعلق به، وهو النسبة في الجملة الخبرية عند الحكم والإذعان بمطابقتها للواقع أو عدم مطابقتها. وأما التصور فيتعلق بأحد أربعة أمور:
1- (المفرد) من اسم، وفعل «كلمة»، وحرف «أداة».
2- (النسبة في الخبر) عند الشك فيها أو توهمها، حيث لا تصديق، كتصورنا لنسبة السكنى في المريخ - مثلاً - عندما يقال: «المريخ مسكون».
3- (النسبة في الانشاء) من أمر ونهي وتمن واستفهام... إلى آخر الأمور الإنشائية التي لا واقع لها وراء الكلام، فلا مطابقة فيها للواقع خارج الكلام، فلا تصديق ولا إذعان.
4- (المركب الناقص). كالمضاف والمضاف إليه، والشبيه بالمضاف، والموصول وصلته، والصفة والموصوف، وكل واحد من طرفي الجملة الشرطية... إلى آخر المركبات الناقصة التي لا يستتبع تصورها تصديقاً وإذعانا: ففي قوله تعالى: ] إِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا [ . الشرط (تعدوا نعمة الله) معلوم تصوري والجزاء (لا تحصوها) معلوم تصوري أيضاً. وإنما كانا معلومين تصوريين لأنهما وقعا كذلك جزاءاً وشرطاً في الجملة الشرطية وإلا ففي أنفسهما لولاها كل منهما معلوم تصديقي. وقوله (نعمة الله) معلوم تصوري مضاف. ومجموع الجملة معلوم تصديقي.
أقسام التصديق:
ينقسم التصديق إلى قسمين: يقين وظن، لأن التصديق هو ترجيح أحد طرفي الخبر وهما الوقوع واللاوقوع سواء كان الطرف الآخر محتملاً أو لا فان كان هذا الترجيح مع نفي احتمال الطرف الآخر بتاً فهو (اليقين)، وإن كان مع وجود الاحتمال ضعيفاً فهو (الظن).
وتوضيح ذلك: إنك إذا عرضت على نفسك خبراً من الأخبار فأنت لا تخلو عن إحدى حالات أربع: أما انك لا تجوّز إلا طرفاً واحداً منه أما وقوع الخبر أو عدم وقوعه، وأما أن تجوّز الطرفين وتحتملهما معاً. والأول هو اليقين. والثاني وهو تجويز الطرفين له ثلاث صور، لأنه لا يخلو إما أن يتساوى الطرفان في الاحتمال أو يترجح أحدهما على الآخر: فإن تساوى الطرفان فهو المسمى (بالشك) وإن ترجح أحدهما فإن كان الراجح مضمون الخبر ووقوعه فهو (الظن) الذي هو من أقسام التصديق. وإن كان الراجح الطرف الآخر فهو (الوهم) الذي هو من أقسام الجهل وهو عكس الظن. فتكون الحالات أربعاً، ولا خامسة لها:
1- (اليقين) وهو أن تصدق بمضمون الخبر ولا تحتمل كذبه أو تصدق بعدمه ولا تحتمل صدقه، أي انك تصدق به على نحو الجزم وهو أعلى قسمي التصديق().
2- (الظن) وهو أن ترجح مضمون الخبر أو عدمه مع تجويز الطرف الآخر، وهو أدنى قسمي التصديق.
3- (الوهم) وهو أن تحتمل مضمون الخبر أو عدمه مع ترجيح الطرف الآخر.
4- (الشك) وهو أن يتساوى احتمال الوقوع واحتمال العدم.
(تنبيه) - يعرف مما تقدم أمران: (الأول) ان الوهم والشك ليسا من أقسام التصديق بل هما من أقسام الجهل، و(الثاني) أن الظن والوهم دائماً يتعاكسان: فانك إذا توهمت مضمون الخبر فأنت تظن بعدمه، وإذا كنت تتوهم عدمه فانك تظن بمضمونه، فيكون الظن لأحد الطرفين توهماً للطرف الآخر.