سورة القدر (97)مكية و هي خمس آيات (5) ، الميزان في تفسير القرآن ج20ص330 .
بيان : ( نزول القرآن في ليلة القدر من شهر رمضان )
تذكر السورة : إنزال القرآن في ليلة القدر ، و تعظم الليلة بتفضيلها على ألف شهر ، و تنزل الملائكة و الروح فيها.
و السورة : تحتمل المكية و المدنية ، و لا يخلو بعض ما روي في سبب نزولها عن أئمة أهل البيت عليهم السلام و غيرهم من تأييد لكونها مدنية « و هو ما دل على أن السورة بعد رؤيا النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن بني أمية يصعدون منبره فاغتم فسلاه الله بها » .
قوله تعالى : { إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ }.
ضمير : { أَنْزَلْناهُ } للقرآن .
و ظاهره : جملة الكتاب العزيز لا بعض آياته ، و يؤيده التعبير بالإنزال الظاهر في اعتبار الدفعة ، دون التنزيل الظاهر في التدريج .
و في معنى الآية قوله تعالى : { وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ (3) } الدخان .
و ظاهره الإقسام : بجملة الكتاب المبين ، ثم الإخبار عن إنزال ما أقسم به جملة .
فمدلول الآيات : أن للقرآن نزولا جمليا على النبي صلى الله عليه وآله وسلم .
غير نزوله التدريجي : الذي تم في مدة ثلاث و عشرين سنة .
كما يشير إليه قوله : { وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا (106) } إسراء .
و قوله : { وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا (32) } الفرقان .
الميزان في تفسير القرآن ج20ص331 .
فلا يعبأ بما قيل : إن معنى قوله : { أَنْزَلْناهُ } ابتدأنا بإنزاله ، و المراد إنزال بعض القرآن .
و ليس في كلامه تعالى : ما يبين أن الليلة أية ليلة هي ، غير ما في قوله تعالى :
{ شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ (185) } البقرة .
فإن الآية : بانضمامها إلى آية القدر .
تدل على أن : الليلة من ليالي شهر رمضان .
و أما تعيينها : أزيد من ذلك ، فمستفاد من الأخبار ، و سيجيء بعض ما يتعلق به في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
( معنى القدر والتقدير في ليلة القدر وتكرارها في كل سنة )
و قد سماها الله تعالى : ليلة القدر .
و الظاهر : أن المراد بالقدر التقدير .
فهي : ليلة التقدير ، يقدر الله فيها حوادث السنة من الليلة إلى مثلها من قابل ، من حياة و موت ، و رزق ، و سعادة و شقاء ، و غير ذلك .
كما يدل عليه : قوله في سورة الدخان ، في صفة الليلة : { فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ (6)} الدخان.
فليس : فرق الأمر الحكيم ، إلا أحكام الحادثة الواقعة بخصوصياتها بالتقدير .
و يستفاد من ذلك : أن الليلة متكررة بتكرر السنين .
ففي شهر رمضان : من كل سنة قمرية .
ليلة : تقدر فيها أمور السنة من الليلة إلى مثلها من قابل .
إذ لا معنى : لفرض ليلة واحدة بعينها ، أو ليال معدودة في طول الزمان ، تقدر فيها الحوادث الواقعة التي قبلها و التي بعدها .
و إن صح : فرض واحدة من ليالي القدر ، المتكررة ينزل فيها القرآن جملة واحدة.
على أن قوله : { يُفْرَقُ } - و هو فعل مضارع - ظاهر في الاستمرار .
و قوله : { خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } و { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ .....} يؤيد ذلك .
فلا وجه :
لما قيل : إنها كانت ليلة واحدة بعينها ، نزل فيها القرآن من غير أن يتكرر .
و كذا ما قيل : إنها كانت تتكرر بتكرر السنين في زمن النبي ، ثم رفعها الله .
و كذا ما قيل : إنها واحدة بعينها في جميع السنة .
و كذا ما قيل : إنها في جميع السنة ، غير أنها تتبدل بتكرر السنين ، فسنة في شهر رمضان ، و سنة في شعبان ، و سنة في غيرهما .
و قيل : القدر ، بمعنى المنزلة ، و إنما سميت ليلة القدر ، للاهتمام بمنزلتها ، أو منزلة المتعبدين فيها .
و قيل : القدر ، بمعنى الضيق ، و سميت ليلة القدر ، لضيق الأرض فيها بنزول الملائكة .
و الوجهان : كما ترى .
فمحصل الآيات : كما ترى ، أنها ليلة بعينها من شهر رمضان من كل سنة ، فيها أحكام الأمور بحسب التقدير .
و لا ينافي ذلك : وقوع التغير فيها بحسب التحقق في ظرف السنة .
فإن التغير : في كيفية تحقق المقدر أمر .
و التغير : في التقدير ، أمر آخر .
كما أن : إمكان التغير في الحوادث الكونية ، بحسب المشية الإلهية ، لا ينافي تعينها في اللوح المحفوظ .
قال تعالى : { وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) } الرعد .
الميزان في تفسير القرآن ج20ص 332.
على أن لاستحكام الأمور : بحسب تحققها ، مراتب من حيث حضور أسبابها و شرائطها تامة و ناقصة .
و من المحتمل : أن تقع في ليلة القدر بعض مراتب الأحكام ، و يتأخر تمام الأحكام إلى وقت آخر .
لكن الروايات : كما ستأتي ، لا تلائم هذا الوجه .
قوله تعالى : { وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ } .
كناية : عن جلالة قدر الليلة و عظم منزلتها .
و يؤكد ذلك: إظهار الاسم مرة بعد مرة ، حيث قيل : { ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ }.
و لم يقل : و ما أدراك ما هي هي خير .
قوله تعالى : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } .
بيان إجمالي : لما أشير إليه ، بقوله : { وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ } ، من فخامة أمر الليلة.
و المراد : بكونها خيرا من ألف شهر ، خيريتها منها ، من حيث فضيلة العبادة على ما فسره المفسرون .
و هو المناسب : لغرض القرآن ، و عنايته بتقريب الناس إلى الله ، فإحياؤها بالعبادة خير من عبادة ألف شهر .
و يمكن : أن يستفاد ذلك من المباركة المذكورة في سورة الدخان .
في قوله : { إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ } .
و هناك : معنى آخر، سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
قوله تعالى : { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } .
تنزل : أصله تتنزل .
و الظاهر من الروح : هو الروح الذي من الأمر، قال تعالى : { قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي (85) } إسراء .
و الإذن في الشيء : الرخصة فيه ، و هو إعلام عدم المانع منه .
و { مِنْ } في قوله : { مِنْ كُلِّ أَمْرٍ } .
قيل : بمعنى الباء .
و قيل : لابتداء الغاية و تفيد السببية ، أي بسبب كل أمر إلهي .
و قيل : للتعليل بالغاية ، أي لأجل تدبير كل أمر من الأمور .
و الحق : أن المراد بالأمر ، إن كان هو الأمر الإلهي المفسر بقوله : { إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ (82) } يس .
فمن : للابتلاء ، و تفيد السببية .
و المعنى : تتنزل الملائكة و الروح في ليلة القدر بإذن ربهم ، مبتدأ تنزلهم ، و صادرا من كل أمر إلهي .
و إن كان : هو الأمر من الأمور الكونية ، و الحوادث الواقعة .
فمن : بمعنى اللام التعليلية .
و المعنى : تتنزل الملائكة و الروح في الليلة بإذن ربهم ، لأجل تدبير كل أمر من الأمور الكونية.
قوله تعالى : { سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ }.
قال في المفردات : السلام و السلامة : التعري من الآفات الظاهرة و الباطنة ، انتهى .
فيكون قوله : { سَلامٌ هِيَ } .
إشارة : إلى العناية الإلهية ، بشمول الرحمة لعباده المقبلين إليه ، و سد باب نقمة جديدة تختص بالليلة ، و يلزمه بالطبع ، وهن كيد الشياطين ، كما أشير إليه في بعض الروايات .
و قيل : المراد به أن الملائكة يسلمون على من مروا به من المؤمنين المتعبدين ، و مرجعه إلى ما تقدم.
و الآيتان : أعني قوله : { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَة ُ.... } إلى آخر السورة .
في معنى التفسير لقوله :{ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } .
الميزان في تفسير القرآن ج20ص 333.
++
بحث روائي :
( روايات تعيين ليلة القدر في ليالي شهر رمضان )
في تفسير البرهان : عن الشيخ الطوسي ، عن أبي ذر قال :
قلت : يا رسول الله ، القدر شيء يكون على عهد الأنبياء ، ينزل عليهم فيها الأمر ، فإذا مضوا رفعت ؟
قال : لا بل هي إلى يوم القيامة .
أقول : و في معناه غير واحد من الروايات من طرق أهل السنة .
و في المجمع : و عن حماد بن عثمان ، عن حسان بن أبي علي قال :
سألت أبا عبد الله عليه السلام : عن ليلة القدر ؟
قال : اطلبها في تسع عشرة ، و إحدى و عشرين ، و ثلاث و عشرين .
أقول : و في معناه غيرها .
و في بعض الأخبار : الترديد بين ليلتين ، الإحدى و العشرين ، و الثلاث و العشرين ، كرواية العياشي عن عبد الواحد عن الباقر عليه السلام .
و يستفاد من روايات : أنها ليلة ثلاث و عشرين ، و إنما لم يعين تعظيما لأمرها ، أن لا يستهان بها بارتكاب المعاصي.
و فيه أيضا : في رواية عبد الله بن بكير ، عن زرارة عن أحدهما عليهم السلام قال :
ليلة ثلاث و عشرين : هي ليلة الجهني .
و حديثه أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : إن منزلي نائي عن المدينة ، فمرني بليلة أدخل فيها ؟
فأمره : بليلة ثلاث و عشرين .
أقول : و حديث الجهني ، و اسمه عبد الله بن أنيس الأنصاري ، مروي من طرق أهل السنة أيضا ، أورده في الدر المنثو ر، عن مالك ، و البيهقي.
( روايات التقدير في ليالي القدر وتكرارها كل سنة )
و في الكافي : بإسناده عن زرارة قال : قال أبو عبد الله عليه السلام :
التقدير : في تسع عشرة .
و الإبرام : في ليلة إحدى و عشرين .
و الإمضاء : في ليلة ثلاث و عشرين.
أقول : و في معناها روايات أخر .
فقد اتفقت : أخبار أهل البيت عليهم السلام ، أنها باقية متكررة كل سنة .
و أنها : ليلة من ليالي شهر رمضان ، و أنها إحدى الليالي الثلاث .
الميزان في تفسير القرآن ج20ص 334.
و أما من طرق أهل السنة : فقد اختلفت الروايات ، اختلافا عجيبا ، يكاد لا يضبط .
و المعروف عندهم : أنها ليلة سبع و عشرون ، فيها نزل القرآن .
و من أراد : الحصول عليها ، فليراجع الدر المنثور ، و سائر الجوامع .
( نزلت سورة القدر تسلية للنبي لروياه وهي خير من ألف شهر ليس فيه ليلة القدر )
و في الدر المنثور : أخرج الخطيب عن ابن المسيب قال :
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : رأيت بني أمية يصعدون منبري ، فشق ذلك عليّ.
فأنزل الله : { إنا أنزلناه في ليلة القدر } .
أقول : و روي أيضا مثله عن الخطيب في تاريخه ، عن ابن عباس ، و أيضا ما في معناه عن الترمذي ، و ابن جرير و الطبراني ، و ابن مردويه ، و البيهقي عن الحسن بن علي .
و هناك روايات كثيرة : في هذا المعنى من طرق الشيعة ، عن أئمة أهل البيت عليهم السلام ، و فيها :
أن الله تعالى : سلّى نبيه صلى الله عليه وآله وسلم ، بإعطاء ليلة القدر ، و جعلها خيرا من ألف شهر ، و هي مدة ملك بني أمية.
و في الكافي : بإسناده عن ابن أبي عمير ، عن غير واحد عن أبي عبد الله عليه السلام قال له بعض أصحابنا ، و لا أعلمه إلا سعيد السمان :
كيف تكون : ليلة القدر خيرا من ألف شهر ؟
قال : العمل فيها ، خير من العمل في ألف شهر ، ليس فيها ليلة القدر .
( نزول القرآن في ليلة القدر ويفرق فيها كل أمر حكيم )
و فيه ( الكافي ) بإسناده : عن الفضيل ، و زرارة ، و محمد بن مسلم ، عن حمران : أنه سأل أبا جعفر عليه السلام عن قول الله عز و جل :
{ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ } .
قال : نعم ليلة القدر ، و هي في كل سنة في شهر رمضان ، في العشر الأواخر .
فلم ينزل القرآن : إلا في ليلة القدر ، قال الله عز و جل : { فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } .
قال : يقدر في ليلة القدر .
كل شيء : يكون في تلك السنة إلى مثلها من قابل ، خير و شر ، طاعة و معصية ، و مولود و أجل ، أو رزق .
فما قدر : في تلك الليلة ، و قضي فهو المحتوم ، و لله عز و جل فيه المشية.
قال قلت : { لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ } أي شيء عنى بذلك ؟
فقال : و العمل الصالح فيها من الصلاة و الزكاة ، و أنواع الخير خير من العمل ، في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر .
و لو لا ما يضاعف : الله تبارك و تعالى للمؤمنين ، ما بلغوا ، و لكن الله يضاعف لهم الحسنات .
أقول : و قوله : و لله فيه المشية ، يريد به إطلاق قدرته تعالى ، فله أن يشاء ما يشاء و إن حتم .
فإن إيجابه الأمر : لا يفيد القدرة المطلقة ، فله أن ينقض القضاء المحتوم ، و إن كان لا يشاء ذلك أبدا .
الميزان في تفسير القرآن ج20ص 335.
و في المجمع : روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وآله أنه قال :
إذا كان ليلة القدر : تنزل الملائكة ، الذين هم سكان سدرة المنتهى ، و منهم جبرائيل .
فينزل جبرائيل : و معه ألوية ، ينصب لواء منها على قبري ، و لواء على بيت المقدس ، و لواء في المسجد الحرام ، و لواء على طور سيناء ، و لا يدع فيها مؤمنا و لا مؤمنة إلا سلم عليه ، إلا مدمن خمر و آكل لحم الخنزير و المتضمخ بالزعفران.
و في تفسير البرهان : عن سعد بن عبد الله بإسناده عن أبي بصير قال :
كنت مع أبي عبد الله عليه السلام : فذكر شيئا من أمر الإمام إذا ولد .
فقال : استوجب زيادة الروح في ليلة القدر .
فقلت : جعلت فداك أ ليس الروح هو جبرئيل ؟
فقال : جبرئيل من الملائكة ، و الروح أعظم من الملائكة .
أ ليس أن الله عز و جل يقول : { تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ } .
أقول : و الروايات في ليلة القدر ،و فضلها كثيرة جدا .
و قد ذكرت في بعضها : لها علامات ، ليست بدائمة ، و لا أكثرية ، كطلوع الشمس صبيحتها و لا شعاع لها ، و اعتدال الهواء فيها أغمضنا عنها.
الميزان في تفسير القرآن ج20ص 380 .
وبالمناسبة قد تم تفسير الميزان : على ما كتبه العلامة محمد حسين الطباطبائي رحمه الله في يوم :
23 / 09 / 1392
فقال رحمه الله : تم الكتاب و الحمد لله و اتفق الفراغ من تأليفه في ليلة القدر المباركة الثالثة و العشرين من ليالي شهر رمضان من شهور سنة اثنتين و تسعين و ثلاثمائة بعد الألف من الهجرة و الحمد لله على الدوام، و الصلاة على سيدنا محمد و آله و السلام.
الميزان في تفسير القرآن ج10ص 134 .