إنّ من الشبهات التي ترد على ذهن السامع أو القارئ و التي تثار بين حين وآخـــر من قبل خوارج العصر وأذنابهم لمصرع الحسين (ع) وهي شبهة أن الحسين بعمله هذا قد ألقى بنفسه إلى التهلكة التي نهى الله
تعالى عنها بقوله : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة ...
مع علمه عليه السلام بمقتله وأهل بيته وسبي حرم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ...
والقيام بمثل ذلك العمل الانتحاري يعتبر غريباً من مثل الحسين (ع) العارف بشريعة الإسلام والممثل الشرعي لنبي الإسلام جده محمد (ص) .
لذا ...، فالجواب عن هذه الشبهة يتوقف على تقديم مقدمة للبحث في الآية الكريمة والتعرف على معنى التهلكة المحرمة ومتى تصدق ..
وهل ينطبق ذلك على عمل الحسين (ع) ؟
وننظر .. هل يصدق عليه (صلوات الله عليه) أنه ألقى بنفسه إلى الهلكة والتهلكة أم لا .. ؟
قوله سبحانه وتعالى :
(( وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين )) ...
التهلكة يعني الهلاك ، وهو كل أمرٍ شاقٍّ ومضرٍ بالانسان ضرراً كبيراً يشق تحمله عادة من فقر أو مرض أو موت .
والآية الكريمة أمرت أولاً بالانفاق في سبيل الله ، أي التضحية والبذل فيما يرضي الله تعالى ويقرب الانسان إلى الله ، ثم نهت عن الالقاء بالنفس إلى التهلكة ، وذلك بترك التضحية والانفاق في سبيل الله .
ثم قالت وأحسنوا أي كونوا محسنين في الانفاق والبذل ، إذ أنه ليس كل تضحية حسنة وشريفة ولا كل بذل هو محبوب وحسن عند الله ، وإلا لكانت تضحيات المجانين والسفهاء أيضاً شريفة وفي سبيل الله .
فالتضحية الشريفة المقدسة والتي هي في سبيل الله تعالى تعرف بتوفر شروط فيها ، وتلك الشروط نلخصها فيما يلي :
الشرط الأول :
أن تكون التضحية والبذل والانفاق في سبيل شيء معقول محبوب عقلاً وعرفاً ، أي في سبيل غرض وهدف عقلاني ، وإلا خرجت عن كونها تضحية عقلائية ودخلت في عداد الأعمال الجنونية أو اللاإرادية .
الشرط الثاني :
أن يكون المفدّى والمضحّى له أشرف وأفضل من الفداء والتضحية لدى العقلاء والعرف العام كأن يضحى بالمال مثلاً لكسب العلم أو الصحة ، أو يضحي بالحيوان لتغذية الانسان . وهكذا كلما كانت الغاية أفضل وأثمن ، كانت التضحية أشرف وأكمل .
هذان العنصران هما الشرطان الرئيسيان من الشروط التي لابد منها في كل بذل وانفاق وتضحية حتى تكون حسنة وشريفة وفي سبيل الله . وعلى هذا يظهر جلياً وبكل وضوح أن ثورة الحسين (ع) كانت في سبيل الله مائة بالمائة ، وأن كل ما قدم فيها وأنفق من مال وبنين ونفس ونفيس وغال وعزيز كان انفاقاً حسناً وبذلاً شريفاً وتضحية مقدسة يستحق عليها كل إجلال وتقديس وشكر .
والخلاصة :
أن آية التهلكة لا تشمل مطلق الاقدام على الخطر ، ولا تحرّم التضحية بالنفس والنفيس إذا كانت لغاية أعظم وأفضل وهدف أنبل وأشرف كالذي قام به الحسين (ع) بثورته الخالدة . وحيث توفرت في تضحياته كل شروط التضحية الشريفة والفداء المقدس على أكمل وجه لأنه (عليه السلام) ضحى وفدى وبذل وأنفق في سبيل أثمن وأغلى شيء في الحياة مطلقاً ، ألا وهو الإسلام دين الله وشريعة السماء ونظام الخالق للمخلوق ودستور الحياة الدائم ، الذي لولا تضحيات الحسين (ع) لدفن تحت ركام البدع والتشويهات والانحرافات التي خلفتها عهود الحكم السابقة كما دفنت الديانات السابقة على الإسلام تحت ترسبات البدع والتحريف حتى لم يبق منها أثر حقيقي حيث لم يقيض لها حسين ، فيستخرجها ويزيل عنها المضاعفات كالذي فعله الحسين بن علي بالنسبة إلى الديانة الإسلامية الخالدة .
هذا مع التاكـــــــيد على أن الامام الحسين (ع) كان مطّلعاً على مقتله كما أسلفنا و سبي أهل بيته ، وذلك بالعلم الغيبي والباطني وهذا مقتضى كونه عليه السلام أحد الأئمة النصوص عليهم بالأتباع وحجة الله في أرضــــه على خلقه ، ولكنّه (ع) مكلّف بالعمل بالظاهر ، فانه حينما قدم الى الكوفة بان له من الظاهر توفر كافة الشروط له للقدوم اليها بعد بيعة أهل الكوفة له ، فحمل الامام أهل بيته ليتسنى له محافظتهم وحراستهم ، لانّ تركهم في الحجاز كان يسبب ان يجعلهن يزيد رهينة لتحجيم حركة الحسين (ع) وورقة ضغط لتراجع الحسين عن مبادئه ، كما ذكر ذلك السيد ابن طاووس في كتاب الملهوف .
ولكن عندما انقلبت الموازين ، وتراجع أهل الكوفة عن بيعتهم ، وحوصر الامام (ع) ، فكان نتيجة ذلك أن تقع عيال الحسين في الاسر ، فكان ذلك الامر من قضاء الله وقدره ومشيئته التي لابد من الصبر عليها .
وإن شكلت بالطبع حالة الاسر لعيال الحسين عاملاً في فضيحة بني امية وهي نتيجة بديهية لا يصح ادراجها في اهداف حركة الحسين ، لانه لا يصح خلط الهدف مع النتيجة الحاصلة ، وذلك لان القوانين المنطقية ترفض أن تكون النتيجة هو كل ما كان مستهدفاً من قبل .
وأما التبجح بكون الإمام عليه السلام عالما للغيب في أمره كله وبمقتله وما سيجري عليه آنفا في كربلاء .. وانها من باب إلقاء النفس في التهلكة وغيره من الشبهات المثارة بغير وجه حق ...
فقد فندناه أعـــلاه بالتحقيق والتثبيت وكذلك لو كان الأمر كله فالأمر أخطر أن يكونمن ذلك ... بكثير ..
فقبله جده رسول الله (ص) ... وهو أفضل رسله وسيد أنبيائه وحجة الله الكبرى وصاحب آخر الرسالات والذي لا يأتيه الباطل لا من فوقه ولا من تحت أقدامه (ص) بما أودعه الله تعالى فيه من علمه والذي هو (وما ينطق عن الهوى) ... والذي (عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ) ...
كان يعلم بما سيكون من نتيجة بغزوة احـــد ومقتل عمه وأسد الله ورسوله الحمزة عليه السلام والكثير من المسلمين وما جرى له بأبي وأمي من كسرا لرباعيته وجراحاته ونصر الكفار بالباطل ، وكذلك علمه بغدر من غدر مسبقا من الصحابة المبجلين والمحترمين جدا جدا ... الكثير مما جرى في هذه الغزوة ....
فهل نقول على رسول الله أنه ألقى نفسه وومن قتل من أصحابه إلي التهلكة ....؟
ثم هل يجوز لنبي هذه الأمة أن يكون ملقيا لأصحابه وأمته في هذه الغزوة المعروف سلفا له نتائجها بعلمه من الله تعالى في أمرها وهو الذي يقول الله تعالى في شأنه مادحا له على مر العصور (لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ ) ...
هــذا مع العلم واليقين أن رسول الله (ص) أفضل من الحسين ووالدي الحسين وأخيه كلهم عليهم الصلاة والسلام جميعا ..
ثم أن الله تعالى جل ربي وعلا يعلم بخائنة الأعين وما تخفي الصدرو ، ويعلم من آمن وسيؤمن أو من كفر أو سيكفر ...، قبل خلقهم ....، فهل من الحكمة منه تعالى أن يخلق من لن سيؤمن به تعالى ... .....؟
ولله المثل الأعــــــــلى ..
خـــطـطتها قربة الي الله تعالى
حيــــــــــــدرة