مما أوصى به الإمام الباقر عليه السلام لابنه الإمام الصادق عليه السلام: "يا جعفر أوصيك بأصحابي خيرا، قلت: جعلت فداك والله لأدعنّهم والرجل منهم يكون في المِصر فلا يسأل أحداً" .
الهدف: إيضاح المعايير العلمية التي ينبغي الإلتفات إليها في طرح موضوع التفقه في الدين وذلك من خلال ما ورد في النصوص الشريفة.
مقدمة
لا شك أن رسالة الإسلام من أكثر الرسالات السماوية التي رفعت شعار العلم والتعلّم ومجّدته واعتبرته أشرف الفضائل على الإطلاق وأكمل المزايا التي يجب على كل مسلم أن يتحلّى بها، فرفع الله مقام العلماء وفضلهم على سواهم من الخلق وفرض لهم حقوقاً كثيرة فهم عنوان مجد الأمة ورمز تقدّمها وازدهارها وأساس حضارتها وتفوقها، وهم الدعاة إلى الله والهادون لعباده إلى سبيل الرشاد.
معايير التفقه
ويمكن من خلال هذه الرواية المتقدمة الوقوف على عدة فوائد تشكّل معايير هامة لموضوع التفقه في الدين.
1- الإكتفاء الثقافي والمراد منه بطبيعة الحال الإستغناء عن الغير وعدم الحاجة إلى سؤال من لا يطمأن إلى معرفتهم أو سؤال تيارات أخرى قد توقعك في متاهات وشبهات.
2- إن هذا الإكتفاء لا يشمل مكاناً دون آخر لقوله عليه السلام
(يكون في المِصر) دون تحديد مِصر عن سواه مما يكشف أن هذا الإكتفاء ينبغي أن يتوفر لدى المسلمين في أي مكان كانوا فيه سواء في أوطانهم أو في بلاد الإغتراب على إختلافها وإختلاف ثقافاتها.
وهذا كاشف أن الشبهات والإستفهامات والإشكالات المطروحة من الغير ينبغي أن يمتلك المسلم القدرة على الإجابة عليها.
3- والأهم أن الإمام الباقر عليه السلام إذ يوصي بأصحابه خيراً فإن الإمام الصادق عليه السلام اعتبر أن أفضل الخير ومنتهاه هو التفقّه في الدين والوصول الى مرحلة الإكتفاء الثقافي لأن خير الدنيا عبارة عن السلوك في طريق الحق وعدم الانحراف عنه وهداية الناس إليه، وخير الآخرة عبارة عن الفوز بالسعادات الأبدية والنزول في ساحة العزة الإلهية، ولا يتصور حصول شيء منهما بدون التفقه في الدين ومعرفة الشريعة على وجه اليقين.
4- إن عدم السؤال لا يشمل فناً من الفنون أو مجالاً خاصاً بل يشمل كافة المجالات التي تقع في طريق ابتلاء المسلم ولذلك عبرت النصوص الشريفة بلفظ التفقه في
الدين أي بكافة أبعاد وجوانب الشريعة سواء الإعتقادية أو العملية أو غيرها.
ومن المهم هنا الإشارة إلى أن هذه العلوم ينبغي أن تنسجم مع الأولويات التي هي مورد حاجة المسلمين وعدم التلهي ببعض المسائل أو القضايا التي ليست مورد حاجتهم كما ورد في الرواية التي ذمّ فيها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العلم الذي لا ينفع من علمه ولا يضرّ من جهله، ففي الرواية أنه دخل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم المسجد فإذا جماعة قد أطافوا برجل فقال صلى الله عليه وآله وسلم: ما هذا؟ فقيل: علاّمة فقال: وما العلاّمة ؟ فقالوا له: أعلم الناس بأنساب العرب ووقائعها وأيام الجاهلية، والأشعار العربية، قال: فقال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ذاك علم لا يضرّ من جهله، ولا ينفع من علمه، ثم قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: إنما العلم ثلاثة: آية محكمة، أو فريضة عادلة، أو سنّة قائمة، وما خلاهن فهو فضل1.
وعن علي عليه السلام - في صفة المتقين -: غضوا أبصارهم عما حرّم الله عليهم، ووقفوا أسماعهم على العلم النافع
لهم2. ولا ريب أن قوله "ووقفوا" كاشف على عدم تلهّيهم بما لا ينفعهم.
والحديث وإن كان ناظراً إلى الناحية العلمية إلا أن قوله (لا يسأل أحدا) قد يستفاد منها الإستغناء من الناحية المادية أيضاً أي لا يبذلون ماء وجوههم بسؤال الآخرين وطلب المال أو لمساعدة منهم.
الأصالة: أي أن الخير إنما يتحقق إذا أخذت الأمة علمها من الينابيع الأصيلة والأصول التي تتمتع بالوثاقة وجعلها الله مصدراً من مصادر العلم والمعرفة.
ففي الحديث: "من أخذ دينه من كتاب الله وسنة نبيه صلوات الله عليه وآله زالت الجبال قبل أن يزول، ومن أخذ دينه من أفواه الرجال ردّته الرجال، من لم يعرف أمرنا من القرآن لم يتنكّب الفتن، من دخل في الإيمان بعلم ثبت فيه ونفعه إيمانه، ومن دخل فيه بغير علم خرج منه كما دخل فيه"3 ، فيجب على المتمسك بدين الحق أن يكون عارفاً عالماٍ بوجوه المصالح والمفساد ذا بصيرة كاملة في التمييز
بين الحق والباطل ليكون ثابتاً راسخاً فيه بحيث لا تغيره رياح فتن المخالفين ولا يحركه صرصر شبهات المعاندين.
وفي نفس السياق فإن نفس هذه المعاني المستفادة نقرأها في روايةٍ عن أبي إسحاق الكندي، عن بشير الدهان، قال: قال أبو عبد الله عليه السلام: لا خير فيمن لا يتفقه من أصحابنا يا بشير، إن الرجل منهم إذا لم يستغن بفقهه فإذا احتاج إليهم أدخلوه في باب ضلالتهم وهو لا يعلم4.
هوامش
1- ميزان الحكمة، ج3، ص2103.
2- الكافي، ج1، ص22.
3- الكافي، الكليني، ج1،ص7.
4- شرح أصول الكافي - مولي محمد صالح المازندراني - ج 2 - ص 33.
التعديل الأخير تم بواسطة عبد محمد ; 15-01-2012 الساعة 10:59 PM.