أبريل الأسود
الثالث من أبريل الأسود، لجأ الشاب محمد طريف إلى منزل صاحبه أحمد مشيمع حين كان مطاردا من سلطات القمع، اكتشفت أجهزة المخابرات الأمر، وكانت أم غازي على موعد مع زوار الفجر "امتلأ حي الإسكان في السنابس بالمرتزقة من أوله إلى آخره" تقول شاهدة.
وعلى النمط الممنهج الذي وصفه السيد بسيوني، ملثمون مدججون بالسلاح اقتحموا منزل مشيمع، كسروا الباب، وتوجهوا للمجلس، أمسكوا رأس أحمد وظلوا يرطمون به الجدار، ومكيف الهواء. كذلك فعلوا بصاحبه. خرجت أم غازي وابنتها مفزوعتين، أخذ المرتزقة أحمد ودخلوا إلى أمه.
أمام عيني أم غازي، أخذ المرتزقة لوحا فيه مسامير، وانهالوا به على أحمد. غرق وجه ابنها بالدماء، كلما صرخ وقال لهم لم أفعل شيئا كانوا يزيدونه ضربا. فرّ أحمد من أيديهم إلى حضن أمه! سحبه المرتزقة، زجروا أمه وأخته "اتركوه وإلا اعتقلناكم، نحن نعتقل النساء أيضا" رفعوا أسلحتهم وصرخوا في وجه أم غازي "تؤوين الإرهابيين! لا تتكلمي ولا تدافعي عنه".
وعز على أم غازي
على بعد 10 منازل، كان صراخ أم غازي مسموعا. عاث المرتزقة في البيت فسادا (وبالشكل الممنهج ذاته) بعثروا الأغراض وكسروا وحطموا، وقبل أن يخرجوا كتبوا على الجدار "عاش عاش خليفة".
عزّ على أم غازي أن يحتمي ابنها بحضنها، فلا تحميه. كبقية آلاف الأمهات، لطمت على رأسها، وانتحبت باكية. لكنها لم تكن لتحتمل. طوال أسبوع كانت تبكي دون انقطاع. فجأة صارت لا تتكلم! ظلت على هذه الحال أيام، حبست الدموع والكلام. تدخل عليها جاراتها لكنها لم تعد تعرفهن. "الكل في الديرة يعرفونها، كانت اجتماعية جدا، ودائمة الحضور في المأتم" تقول ابنتها زهرة.
بعد أيام، رشحت الأنباء عن استشهاد عدة معتقلين داخل السجون "كادت أمي أن تموت حين سمعت بذلك" سيطر القلق والتوجس على وجدان أم غازي، أصيبت باضطراب نفسي شديد أثر على إدراكها.
تقول جارتها بألم "صارت مهووسة، تمشي في الشارع، تقف فجأة، ثم تتراجع، وكأنها لا تعرف الطريق، أو لا تعرف إلى أين تذهب" في هذه الفترة ولد لها حفيد، لم يكن لها أي تعابير ولا ردة فعل، تجمد شعورها تماما، لم يكن فيه سوى الانكسار. ظلت تنكس رأسها وتسرح في التفكير. ذهنها صوب أحمد فقط، ماذا فعلوا به يا ترى؟
خيالات البطش
منذ اليوم الأول لمداهمة بيتهم، كانت تصرخ "مات ولدي، ولدي لن يرجع". طوال شهر وكحال بقية المعتقلين، لم تعرف عنه شيئا. غرقت في خيالات مقلقة، كانت تتساءل "إذا كانوا عذبوه هكذا أمامي، فما الذي سيفعلونه به في السجن؟".
بحث أخوة أحمد عن مكان اعتقاله، انتقلوا من مركز شرطة إلى آخر دون نتيجة. لا أحد يعرف عنه شيئا، تماما كباقي معتقلي "السلامة الوطنية" في مايو/أيار 2011 اتصل أحدهم من قسم التحقيقات الجنائية بعائلة أحمد، وطلب منهم إحضار ثياب له.
كان هذا هو الخبر الوحيد عن أحمد خلال شهرين، أما مكان اعتقاله وحاله فمجهول تماما. بعد انتهاء حالة الطوارئ في يونيو/حزيران، سمح لأهله بزيارته. الزيارة الأولى كانت في قسم التحقيقات الجنائية.
منع الحاجز الشبكي أم غازي حتى أن تلمس ابنها. بدت أمامه صامدة رغم الرغبة الملحة لديها في احتضانه، وهي تتذكر ذلك المشهد. فور أن وصلت السيارة، دخلت في موجة من النحيب، عادت تحمل روحا مدمرة أكثر.
هواجس القهر
أحمد، يشير حيث ضرب رأسه مرات حتى غرق وجهه بالدماء.. أمام أمه
مع بداية عمل لجنة تقصي الحقائق، وتحديدا في 8 أغسطس 2011 أفرج عن أحمد. رمت بنفسها عليه، احتضنته بكلها، تقول زهرة "لم تكن فرحتها توصف، خرجت من حالة الكآبة واليأس تماما" في هذا الوطن لا يستريح المظلوم، ولا يستريح الظالم، بعد أقل من شهر تصل بيت أحمد إحضارية للمحكمة!
لم تحظ أم غازي بكثير من السكينة والطمأنينة، وكأنه حرام على أمهات هذا الشعب. عاد انكسارها أشد، وكانت تفضل البقاء لوحدها دائما، وكثيرا ما صارت تقول "هناك شيء مكتوم في داخلي ولا أستطيع أن أخرجه". كلما تذكرت هواجس أحمد، سكنها القهر، وصار كتمانها أشد. استقر بها اكتئاب عميق.
شهقة اليأس
فترة من الهواجس والترقب مرت بها أم غازي من جديد، كم كان قلبها متعبا ومثقلا بالهموم. كم تضيق على قلبها الأوصاف. فوق كل ذلك، وكحال المستضعفين في هذا الوطن، مرت أم غازي بموقف زاد في انتكاستها الحادة.
كانت عائدة من المأتم، حين لحقتها كتيبة من قوات الشغب المترجلين في القرية، حثت خطاها المليئة بالذعر والهلع. هذه القوات لا تفرق بين رجل وامرأة، ولا بين مسن وصغير. وصلت البيت وهي في رعب شديد.
منذ هذه الحادثة، بدأت حالة أم غازي تتعقد. صارت تخاف من أي صوت، وتظل تشهق وترتعد. صارت تتوجس أكثر، تسمع صوت اقتحام القوات بيتها. حين تسمع صوت الشرطة في السنابس، تتدهور صحتها كثيرا، وتردد "سيأتون الآن ليضربوا، ويقتلوا، وسيأخذون أحمد".
وقليل من الموت
كانت العائلة قلقة جدا على الحاجة بدرية بعد هذه الحادثة. تطورت حالتها النفسية كثيرا، وبدأت تنعكس على صحتها "صارت تصيبها حالة لا تستطيع معها التحرك، وتجمد مكانها، ثم تقول إن شيئا ما كان جاثما على صدرها" تقول ابنتها زهرة.
لم يعد بوسع أم غازي أن تتحمل كل هذا القهر والعذاب النفسي. صارت تجهر علانية أنها تريد التخلص من الحياة. قررت العائلة أن تأخذها إلى مستشفى الطب النفسي. الجلسة الأولى أخذتها في 25 أكتوبر 2011. وصف الطبيب مرضها باكتئاب شديد، وظلت ترتاد المستشفى للعلاج.
في غضون تلك الفترة، كانت الأنباء تتوالى عن الحكم على بعض المتهمين، ومنهم صاحب أحمد الذي اختبأ في منزله، محمد مكي طريف. نال طريف ورفاقه حكما بالسجن 15 عاما في قضية "قطع لسان المؤذن" التي أثبت تقرير بسيوني أنها مفبركة.
دعوهم يقتلوني
بعد أيام حاولت أم غازي أن تنتحر، شربت أم غازي جرعات من سائل تبييض الثياب، لكن موعد الموت لم يحن "حين تصيب الإنسان مشكلة بشكل مفاجئ لا يستطيع أن يتحمل تبعاتها وآثارها، يصاب بانهيار عصبي ينتج عنه كل هذه الأعراض" يقول الدكتور طه الدرازي (استشاري جراحة دماغ وأعصاب) عن حالة أم غازي ويضيف "يصنف ذلك على أنه انهيار عصبي أدى إلى صدمة نفسية حادة وهو أصعب المشاكل النفسية".
تعرضت عائلة أم غازي للكثير من المضايقات بسبب اللقب "مشيمع". ولدها أحمد عذب أكثر من الآخرين لأن اسم أبيه "حسن مشيمع"، رغم أن تهمته لا تعدو "التستر على مطلوب".
قبل أيام أوقفت ابنة الحاجة بدرية في إحدى نقاط التفتيش بمستشفى السلمانية المحتل من العسكر، دخلت أم غازي في هستيريا حادة "سيأخذون كل أولاااادي، آه يا قلبييي"، "لن أستطيع تحمل ذلك بعد الآن، دعوني أذهب إلى الشرطة، دعوهم يقتلونني" من كلمات أم غازي الأخيرة.
نار أم غازي
بقيت أم غازي في هاجس أن ترى أحد أبنائها قتيلا أو معذبا. بقي قلبها محروقا والنار مضطرمة فيه خوفا من المصير المجهول، ذلك الذي يلاحقها دائما كصوت. لن تنتظر أم غازي أن ينتهك الطغاة حرمة بيتها مجددا، لن تنتظر أن تعيش في عالم الخضوع والهوس الذي أراده لها المارقون، لن تنتظر أن ترى ابنها مجددا يؤخذ من حضنها مخضبا بدماه.
هكذا رأت أن لا تبقى النار داخل نفسها، ذهبت إلى سطح البيت، وتحت السماء أخرجت النار ليعرف الملأ كيف تضطرم. وهي في سيارة الإسعاف قالت لابنتها بألم "سامحيني يا ابنتي، وتحملي بإخوتك".
أحرقت الحاجة بدرية نفسها في استدعاء لمشهد مفجر الربيع العربي محمد البوعزيزي. الفرق أن الظلم والإحباط هو محرك البوعزيزي، أما ما حرك أم غازي فهو اليأس من العدل والأمن والطمأنينة.
سيفوت الحاجة بدرية إذن موعدها مع الطبيب النفسي في السابع عشر من الشهر الجاري."آل خليفة قتلوا أمي" يصرخ أحد أبنائها خلال مراسم التشييع يوم أمس. تقول ابنتها زهرة "كنا سنخطب لأحمد لكن أمي قالت لا يا ابنتي، انتظري حتى ننتصر".
أحرقت أم غازي نفسها، لم تستطع أن تعيش أكثر، لأن بطش السلطة جثم على صدرها. يوم أمس قال كثيرون أن أم غازي أمنا جميعا، فمتى ترفعون جاثوم هذا الشعب، وتنتصرون لأم غازي؟