كنت في زيارة لأحد أصدقائي واسمه"أحمد" فرأيت عنده صديقه ولكن لا أعرفه فتعارفنا وجلسنا وعلمت أن إسمه"منير"، قال صديقي "أحمد" أنه يريد أن نتعارف أكثر فجلسنا في باحة المنزل أو كما يُقال له"الصالون" واحتسينا القهوة..فأقدم منير من جانبه يقترب مني وقال أنه يريد الحوار في شأن الأخلاق ، فقد سمع من أحمد أن لدي "بعض" المعارف منها، لا أجزم بما يعتقدون فغالب ظني أنه ومن كثرة أسئلة أحمد في مضامير الأخلاق سابقاً ظننت أنه يرى شيئاً لا أراه..فشعرت بأن الاثنين متفقان على إجراء حوار، وعندها تملكتني الشجاعة فردت من فوري بالموافقة..ولنذهب للحوار:
منير:هل الأخلاق حق؟
قلت: هي عين الحقيقة، ولكن لم أرَ بشراً يسأل هذا السؤال من قبل!
منير: أنت لا تفهم قصدي، أنا لا أنكر الأخلاق ولكن أسأل من أين يأتي الإنسان بحقيقة الأخلاق والشر موجود؟..فإذا كان الشر موجود فالأخلاق نسبية وإلا أنك تعترف بأن البشر لم يسألون هذا السؤال من قبل.
قلت:هناك تفصيل فالأخلاق في الدولة غير التي في المنزل غير التي مع الأصدقاء غير التي مع الأعداء..وهكذا..ولكن لا مغايرة في المفهوم بل في مصاديقه، واتحاد المفهوم في العمل دون غيره، فالقول في ذاته عمل، أما المصداق فهو الذي يظهر في الذهن على شكل أخلاق ولكن بمرجعية مسبقة مأخوذة إما عن واقع اجتماعي أو ثقافي أو ديني، كمثل من يقتل أباه في القطب الشمالي حين العَجَز ويؤمن بأن فِعله من أنواع البر والأخلاق بل هو لدينا –وغالب البشر-جريمة.
منير:جميل..أفهم من ذلك أن الأخلاق لديك على نوعين مفهوم ومصداق..ولكنك لم تجبني بالتفصيل كما قلت..كيف أعلم أن ما شعرت به أو قلته أو فعلته هو أخلاق؟..خاصة وأنك أوضحت معنى المصداق بالتمثّل، ولكن لم تُجِب عن معنى المفهوم إلا بكفاية الاتحاد!
قلت:هناك علم حضوري ينشأ لدى الإنسان مباشرة دون وسيط كعلمك بنفسك كفرحك وحُزنك كغضبك وحُلمك كألمك ولذتك كخوفك واطمئنانك..فإذا نشأ لدى الفرد شعوراً كهذا فيحيل عليه تمييزه بخلافه، واعلم أن أصل هذه الجدليات هو فطرة الإنسان ، فالطُمأنينة أصلٌ عليه عارض الخوف حين انعدامها،لذلك فيحيل عليك الكذب في تمييز شعورك...والكذب نقيض الصدق، والصدق أخلاق.
أحمد: وضح أكثر ياسامح فأنت فقلت لي من قبل أن الأخلاق ليست مشروطة بالعلم وأن الجاهل يجوز عليه الأخلاق.
قلت: نعم وهذا ما أتبناه وأضيف على ما تفضلت به هو العكس، أن العالم يجوز عليه الشر.
أحمد: وضح أكثر فالأمر لدي مُبهم؟
قلت:هل رأيت ياأحمد رجلاً تراه جاهلاً ولكنه محبوب من الناس؟
أحمد: نعم رأيت الكثير ولكن ما علاقة ذلك بالسؤال؟
قلت: هذا هو عين الأخلاق في محل الجهل، أن حُبّ الناس هو علامة القبول، واعلم أن هذا الحب لا يلزمه الموافقة أو التوافق في الرؤى والأفكار بل في الأعمال، فالرجل الجاهل يسلك سلوكاً افتراضياً في الأعم الأغلب، فالطموحات والأفعال الإيجابية لديه قليلة ، بينما ظل واقعه الافتراضي هو علة ظهور صورة الرجل الصالح في أذهان البشر.
أحمد: الواقع الافتراضي للجاهل يعني أنه لا يؤذي ومع ذلك لا يُحسن، فكيف يحب الناس رجلاً لا يُحسن إليهم؟!
قلت:لأن سوء الأخلاق هو حدث مُستجد على كل إنسان حتى الجاهل، والنفس الإنسانية تكره سوء الخلق فهو لديه تأثيراً عليها كتأثير السكين على الذبيح، فالذبيح يكره السكين ومع ذلك لن يهرب منها وإلا لم يكن ذبيحاً، كذلك النفس الإنسانية تكره سوء الخُلق ومع ذلك لا مفر من أذيته.
منير: أشكرك ياأحمد فسؤالك أوضح علي إشكالات كثيرة..ولكن حتى الآن ياسامح لا أفهم كيف يفعل الإنسان الشر وهو عالم بينما يفعل الآخر الأخلاق وهو جاهل، حتى الآن لا زال لدي الإشكال.
قلت: أنظر أخي منير للرجل العالم الذي يمتطي صهوة جواد المجتمع حتى يظن في نفسه ويظنه الناس أنه الآمر الناهي وأن إليه الخير والمعاد، ماذا سيحدث؟
منير: سيكون مستبداً أو إلهاً.
قلت: هذا ما أقصده أن نوازع البشر هي المحرك الأصلي لكافة أنواع الشرور، فالنزعة تعني الشهوة والغريزة، بينما السلطة وحُب التملك والسيطرة شهوة ،وتلك ملازمة لبني الإنسان منذ ولادته حتى موته، فحتى ذلك الجاهل الذي يفعل الأخلاق هو في ذاته مشروع لفعل الشر بمجرد النزعة.
منير: طيب وهل النزعة غير العاطفة؟
قلت: هناك تشابه وفوارق، فهما يتحدان في كون نشوئهم عن دافع، ويفترقان في كون واحدة قيمة وهي العاطفة والتي أشرنا إليه من قبل في العلم الحضوري بينما الأخرى اندفاع وضعف وهي النزعة، فالدافع المُحرّك لكليهما لن يأتي للإنسان إلا بمصدر وغالباً يأتي عن معلومات أو باختلاف نمط التفكير.
في الحلقة السابقة وقفنا عند الحوار عن ماهية الأخلاق، كنا وأصدقائي وكأننا في حفلة سمر ، لم نشعر بالوقت يمر إلا بعد أن فوجئنا بصلاة العصر وقد حانت، فقمنا على الفور لآداء الصلاة، وبعد العودة وقف صديقي أحمد.."صاحب المنزل"..مُعلناً عن ميعاد وقت تناول الغذاء، فقام من مكانه يتجه إلى المطبخ ثم دار هذا الحوار:
قلت: إلى أين تذهب ياأحمد؟
أحمد: سأذهب لأساعد زوجتي في تحضير الغذاء.
قلت:ولكن كيف تتركنا دون أيٍ من طرف صاحب المنزل وبمفردنا؟
أحمد: عادي جدا البيت بيتكم.
قلت: ومن أي مرجعية تريد التضحية بشعورنا على حساب مساعدة زوجتك؟!..وهل تعلم أننا سنجلس غرباء قلقين مهما قيل لنا بان البيت آمن؟!
أحمد:مرجعيتي هي التواضع، فقد تعودت مع زوجتي على هذا الفعل.
قلت:وما هو التواضع لديك؟وهل هو حقيقة يقينية أم ماذا؟..وكيف الحال لو تعارض تواضعك مع إهمالك لشعور أصدقائك؟!
أحمد: ياعزيزي سامح لا تنسى أنك عرّفت الأخلاق سابقاً بأن لها صنوف ومجالات فلماذا تستكثر ذلك على التواضع؟!..أنا عندما أتواضع مع زوجتي فهذا من باب المودة والرحمة وتعميق الألفة، كذلك فالتواضع لدي حقيقة يقينية لتحصيل الخير وحب الناس والشعور بالراحة.
قلت: إذاً أنت تمارس التواضع لأجل منفعتك الخاصة، فجميع ما ذكرت مفاده نفعٌ ذاتيٌ لك، والأصل في التواضع هو حب الآخر أياً كان إنساناً أو حيوان نباتاً أو جمادا...فالأثر المحسوس من جانبك قد لا يشعر به الآخر، ومع ذلك تظن أنك تفعل خيرا بينما الحقيقة أن فِعلك في الغالب ليس له معنى بل سيضر أحيانا.
أحمد:هل تقصد أنني وبتواضعي قد أضر آخرين؟!..هذا تعريف جديد لم أسمع عنه !!..ورغم ذلك أنا لا يهمني شعوراً مخفياً أكثر من ابتسامة الآخر في وجهي أو أشعر بمودته لشخصي، فما يهمني هو العلن ما دمت ألتزم بحُسن الخُلق ..أما أسرار الإنسان فليست مِلكاً لأحد..سبحانه علّام الغيوب.
قلت: هل ترى التواضع أمامك كصورة؟
أحمد: والأخلاق عامة.
قلت: والأخلاق عامة.
أحمد: لا فالتواضع مفهوم كلي منطقي عَرَضه في الذهن واتصافه أيضاً في الذهن..وكذلك شتى صنوف وأنواع الأخلاق.
قلت: إذاً ومن أدراك أن ما تفعله هو تواضع في مقابل عِلمُك بأننا كأصدقاء لك سنتضرر،إن معنى عدم وجود صورة للتواضع في ذهنك فهذا يعني أن المسألة بحاجة منك لإعادة نظر،ومن يُدريك أنه وبجلوسك معنا تكون قد حققت التواضع على حقيقته، فنحن أصدقائك بحاجة لمودتك وألفتك ، وحبك لنا ليس كحبك لزوجتك، فإذا اعتقدت بتحصيل الخير وحب زوجتك فنحن أولى لأننا ضيوف مؤقتين وسنذهب في أقرب أجل.
أحمد: كلامك يحمل في مضمونه عقد موازنة، والموازنة تعتني بالشيئين الأقرب لبعضهم في التفسير، وأنت تعتقد -منذ بدء الحوار- أنني أؤذي شعورك ومنير، فكيف تجتمع لديك الموازنة مع جزمك بشعورك بالأذى.
قلت: لا أحد يخطئ في تفسير مشاعره ياأحمد، لا تنسى تعريفنا للعلم الحضوري من قبل، ثم الموازنة تُعقد في حال مقابلة شيئين يجتمعان في جنس وفصل ونوع وصنف واحد، فالتواضع قيمة إنسانية حقيقية، أما خدمتك لزوجتك فهي قيمة معنوية روحية، وهي- لدي- اعتبارية وليست قيمة حقيقية، فهذه الخدمة قد يُفسرها شخص بأنها براجماتية لما ينتج عنها من منفعة تتحقق...أما تواضعك إن لم يتحقق منه نفعٌ للآخر قبل منفعتك فهو في حقيقته أنانية.
أحمد:بالعكس أن لا أري القيم إلا قيمة واحدة حقيقية، فالتواضع عندي كمساعدة زوجتي يجمعهم"إنكار الذات والتضحية والإيثار" وهذه القيم التي لا أعتبر تصنيفها على نحو ما فعلت، ولكن إذا كان الإشكال ينحصر في موازنتك فأنا اتفق معك.."إجمالاً"..أنه ينبغي علينا الموازنة بين شيئين يربطهم صلة قرابة أو تشابه.
قلت: هكذا بدأنا نتفق وسنقف على قوله تعالى.."واخفض لهما جناح الذل من الرحمة"..كقولٌ فصل هو عماد التواضع أمام الكبار وذوي الهيبة، فتواضعك أمام والدك لا يقل عن تواضعك أمام ضيوفك، فنحن قد نتحمل أنفسنا في الشارع أو على القهوة ، أما أن نتحمل بعضنا في بيوت بعضنا فالوضع يختلف، وكذلك نحسب أننا على علمٍٍ بالتواضع وكيفيته، فقط نختلف في إسقاطه وتعريفه حين يتغير محله بالمؤثرات والظروف.
إلى هنا وقف أحمد برهة يفكر ثم أخذ قراره بالاستئذان لدقيقة كي يستأذن زوجته كي يجلس معنا حتى تحضير الغذاء..
في اليوم التالي اتصل بي صديقي أحمد كي يستشيرني في إمكانية اللقاء، وقد اتفقنا على أن نعقده في قهوة الحاج.."علي درويش"..والتي تبعد عن بيته بقرابة 100 متر..فعقدت العزم على النهوض والوفاء باللقاء وذهبت إلى القهوة، حينها لم أجد أحمد جالساً كما اتفقنا ، فإذا برنين الهاتف ليخبرني أحمد أنه سيصل بعد قرابة خمس دقائق..وبعد وصوله جلسنا سوياً متقابلين وبيننا المنضدة ثم دار هذا الحوار:
أحمد: أعتذر لك ياصديقي عن هذا اللقاء المفاجئ، ولكن عندي مشكلة أود حلها أو حتى أفهم ما يدور كي يسهل علي الحل.
قلت: تفضل ياعزيزي لك الحديث ومعك الميكروفون.
أحمد: زميلي في الجامعة أخبرني بأنه قد تزوج في السر من إحدى زميلاته، وهذه الزميلة أعرفها وأعرف كامل أسرتها ولي مع بعضهم صداقة، وأنا الآن في حيرة..فزميلي قد ائتمنني على سره ولا أود خذلانه فهذا عهد، ولكن زوجته هي الأخرى لي مع بعض أقربائها صداقة، فكيف أوفق بين الصداقة والضمير؟
قلت: هذا يعود بنا إلى تعريف الأمانة ياأحمد، فمشكلتك أصلها.."الأمانة"..ولو أنني أرى أن زميلك هو أول من خان الأمانة بإفشاءه هذا السر لك، فالأسرار جزء من الوجدان، وهي عنوان الشخصية "الحقيقية"..وما دام زميلك أفاض بالسر لك فهو قد تحدث به إلى غيرك أو سيفعل ذلك -إن لم يكن فعله، ذلك أن الحديث في الأسرار يستوي فيه الحديث للعامة وللخاصة على حدٍ سواء.
أحمد:أنت فهمت خطأ فهو قد أطلعني على سره كي أساعده .
قلت:وهل يعرف أنك على صداقة مع أقربائها؟
أحمد: لا يعرف.
قلت:وإذا عرف فهو يريد الحل بالظاهر، وكونه لا يعرف فالأمانة لديه قيمة مشوشة والمبادئ لديه غير منضبطة.
أحمد: أنت تتحدث عنه وتتجاهل مشكلتي فأراك تتحامل عليه.
قلت: لا أنا فقط أريد تصور المشكلة من جذورها كي أرصد الحل الأمثل بعد تفاعل كافة الأفكار المختصة بالجميع، فبعملية رصد أخلاق زميلك ستقف على ماهية فِعله، وحينها ستتضح لديك المسألة ولربما لا تحتاج مساعدة من أحد.
أحمد:قلت أن مشكلتي في "الأمانة" ..طيب وهل الأمانة قضية معقدة لهذه الدرجة؟!..أنا أعرف أن الأمانة قد تكون معقدة فيما لو كان هناك طرف يستفيد...فهذا النوع من الأمانة ليس به وجهاً مادياً كي أطمع فيما عندي من أمانة ائتمنها أحد الأشخاص.
قلت: بل التعقيد في حالتك ياعزيزي أحمد..لأن الطمع أو الضعف في "مادة أو مضمون" الأمانة يعقبها خيارٌ سهل على كل إنسان..تكفي عاطفته أو عقله للتمييز، وبالنوازع تنحط قيمة الأمانة لديك فتراها حقٌ شخصي تتحكم في أساليبه وأشكاله، وطالما أنك وزميلك أقدمتم على الاستشارة فهناك عقل وعاطفة-وليس نزعة- وإلا لتجاهل زميلك القضية برمتها كأنه لا يوجد في الكون غيره، أما أنت فيكفيك التشاور معه على الحل في أضيق الظروف.
أحمد:بدأت أستوعب القضية..ولكن لدي إشكال يتعلق في وحدة غرضي وغايتي مع زميلي، فالأمانة تُحتم علي وعليه الحل، وكما قلت لك فالصراع بين صداقتي لأصدقائي وبين ضميري الذي يُحتم علي إبلاغ أهلها ، ولا تفهم أنني أتحدث عن الإبلاغ بمقصد الضرر بل لتفاديه، فدور الأهل في هذه الأوقات شديد الأهمية للمصلحة العامة.
قلت: الأمانة قيمة معيارية عظيمة ياصديقي بل تكاد تكون هي عماد الأخلاق، فدورها لا ينحصر فقط في الأمور المادية بل إلى شتى صنوف الحياة من صداقة وتربية أولاد وضمير مع الكافة، لذلك فحين التعرض لخيار كهذا لابد وأن تقف أولاً على صنوف الأشخاص وماهيتهم كبشر..وهذا ما دفعني للسؤال عن صديقك في البداية، ولولا الحرج لسألتك عن أصدقائك من أهل زوجته.
أحمد: فكيف تصورت الوضع ..هل لديك إشارة ما أقف عليها أو فعل.
قلت: ليس لدي تصور كامل حول المسألة، ولو أنني أنصح أي إنسان يتعرض لهذا الظرف بأن يعيد حساباته بالتعرف على الناس وطبائعهم، فالأخلاق كما قلنا لها مفهوم ومصاديق، وما يصلح لإنسان من أخلاق لا يصلح لآخر، لذلك أرى أن تجانب المسألة مزيد من الوقت للتعرف على الكافة، فإذا وجدت أهلها من ذوي الحكمة فانفذ إلى واحدٍ منهم وابدأ معه الحديث بالثناء على زميلك ، ولو كان يعرفه فسيكون أفضل بكثير واسأله عن رأيه فيه.
أما زميلك فانصحه بخُلق الأمانة وأن لا يختلي بزوجته إلا بعد حل القضية حلاً نهائياً، فلربما كان زواجه من النوع المذموم أو الغير شرعي حينها يكون قد ارتكب إثما..واعلمه أن زوجته في حُكم الأمانة المُغتصَبة، وأن الأمانة تقتسمها زوجته مع ولي أمرها، ولو لم يكن لديه أمانة أو لا يفهمها فسيرفض عرضك، ولكن لا تيأس حاول معه..فقد حمّلك الله أمانة ويجب عليك الوفاء بها..لابد من حل فليكن هذا الحل على يديك.