وعليكم السلام ورحمةُ الله وبركاته
كربلاء المقدسة بالنسبة لي مهد الصبا، ومرتع الطفولة، ومهوى الشباب. تنسّمت من هوائها عبق الحرية، ودرجت في أزقتها، فتعرّفت إلى الآخر المناطقيّ من العراقيين، والآخر العربيّ، والمسلم من غير العراقيين.
اكتسبتُ من سوقها التجاريّ تجربة التعامل؛ لأكتسب خبرة التعاطي الاجتماعيّ مع الناس.
يستلهم من شرفها السامق روح التضحية والفداء.. من مُلهمها الفذ، وعنوانها الطاهر.. من سبط رسول الله - صلى الله عليه وآله - .. الحسين - عليه السلام - الذي أضفى عليها شرفاً شامخاً يطاول عنان السماء، ويواجه متحدّياً أعاصير الزمن..
هكذا يتشكل نسيج الشخصية - لمن يريد - من خيوطها التي لا تـُبلى مهما تقادمت الأعوام، بل العقود.
تسألني أتذكر كربلائي الحبيبة؟ وأسألك متى نسيتها حتى أتذكرها؟! أي شيء فيها يُنسى!
خلودها الحسينيّ الذي يقهر الزمن، ويلوي عنق التاريخ، أم ملحمة الطف التي خُطـّت بدماء حسينية، ودوّت بحنجرة زينبية، أم ثوراتها المتعاقبة التي بقي إخمادها عصياً على الطغاة، أم مدارسها العلمية التي خرّجت أساطين الفكر، وفطاحل العلماء..
كان أحدهم جمال الدين الأفغاني (الأسدآبادي)، أم مواسمها العاشورية الخالدة، أم رفاق دربي الشهداء (حسين جلوخان، نوري طعمة، مهدي الكرعاوي، هادي القرعاوي، مهدي لطيف، وجواد صادق طالب، والقائمة طويلة ومتطاولة على التحدّي...)
كانوا شباباً أبطالاً صغاراً في العمر، وعمالقة في الشهادة، وكباراً في العقل والقلب..
أم بساتينها الغنـّاء التي تفوح بشذى عطرها الفوّاح آفاق المدينة المنفتحة على مَن يؤمّها من ملايين البشر على مدار السنة..
أم إنسانها الكربلائيّ البسيط الطبع، المنفتح بثقة، والمعطاء بكرم متميّز..
ماذا أنسى.. مدرسة السبط الابتدائية محطة البداية في دراستي، ونقطة الشروع العلميّ..
أم إعدادية كربلاء.. عنوان شبابي الذي اقترن مع إخواني بالعطاء الأدبيّ والثقافيّ. كنّا نفتح نشرة جدارية بعنوان آفاق (أربعين ورقة معشّرة) بنسختين واحدة لإعدادية الطلاب، والثانية لإعدادية الطالبات، فيها تشكّل بواكير التخصّص العلميّ الذي انتهى علمياً فيما بعد في اختصاصي الطبيّ.
أم ريفها الاخّاذ حين تتمايل أشجاره مع الريح،ويشق نخيله آاق الصعود بقامتها المتميزة،ويحمي ما تحته من أشجار الحمضيات، ويردّ عنها غائلة البرد، ويعصمها من التلف..
كثيراً ما كنت أرقد على سرير النوم في سطح فندقنا المحاذي لمرقد الإمام الحسين، والمُطِل على الحضرة المطهَّرة (فندق علي الأكبر)، وصوت حفيف العلم فوق القبة الذهبية المطهَّرة يغمر سمعي، ولونه الأحمر يشدّ ناظري، ويغرس في الوجدان روح الثورة، وطلب الثأر الحسينيّ من حَمَلة الباطل..
لم يكن بيني، وبين الحرم الحسينيّ إلا جدار واطئ القامة، وحين يصدح الشيخ جواد بأذان الصبح، يقرع سمعي، ويذكّرني بموعد صلاة الفجر.
كل شيء في كربلاء يشدّني إليها، بل يبعثني للآخرين. ما فيّ من خير فهو من عطاء كربلاء الحسين - عليه السلام -، ثم أمي التي قضيت معها سني عمري (الثلاث والثلاثين) بالحب والعطاء، وغذتني برعايتها الحانية من قيم الفضيلة حتى ودّعتها آخر ليلة، وقد نقلتها من بيتي الخاص إلى بيت أخي الشهيد السيد باقر، وكنت أعلم أنها الليلة الأخيرة.
كأني حين ودّعتها في بيت أخي قد أودعتها مرقدها الدائم الذي لم أكن أدري متى ستـُوارى الثرى. كان يوم الوداع يوم 7/شباط/1980، ولم ألتق ِبعدها بكربلاء بأحد إلا مرقد الإمام الحسين، وأخيه العباس - عليهما السلام -.
حتى عدتُ عام 2003؛ لأبدأ في كربلاء بزيارة الحسين وأخيه - عليهما السلام -، وأجثو على قبر أمي الحبيبة، وقد اجتاحتني مشاعر الحب الممزوجة بلوعة الحزن عليها، وأنا أتذكر يوم فراقنا الأخير، ولكنها كانت حيّة، وهي الآن في ذمة الآخرة، وتردّد صوتها الخافت في أذنيّ في آخر مكالمة هاتفية، وأنا في الشام، وأوشك أن أغادرها إلى إيران، وهي تقول عبارة صعب عليّ أن أميّزها؛ لأن صوتها كان واطئاً ينوء بثقل المرض، ويتكسّر بشدة الحب، وهي تقول وللمرة الرابعة حتى عرفت ما تقول: (أروحلك فدوة) أي أفديك بحياتي.
هي كربلاء الحسين - عليه السلام- التي أنشدّ إليها من بعيد، كما كنت أفتتح يومي، وأختمه بزيارة الحسين كل يوم، وهي لها طعمها الخاص على الرغم من مرارة البعد، فيها يرقد أبواي اللذين أذكرهما في مضانّ الدعاء، وقنوت الصلوات وإدبارها..
كل شيء في كربلاء يشدّني للفكر، والقيم، والحب، والتضحية، أما ما نقلته مما يروّجون من إشاعات المغرضين: (تريدون أن أجعل كربلاء العوجة الثانية).
أنا - والله الذي لا إله إلا هو - لم يخطر ذلك في ببالي، فضلاً عن أني لم أقـُله، وإنني أتحدّى كل مَن ينسب إليّ هذا الكلام، مع بالغ السلام له أن يتفضّل لمواجهتي.
اعتدتُ أن أعمل بصمت، وأتحرّك بلا ضجيج، وأنا أعرف أني غريب في هذه الأجواء، لكنني لا أستوحش الطريق؛ إنها غربة الوعي أواجهها بوعي الغربة.
إنني كربلائيّ الولاء بالمعنى الحسينيّ من دون عُقدة مناطقية، أو عصبية جاهلية.